نعيش هذه الأيام في رحاب العشر من ذي الحجة أفضل الأيام عند الله، لأنها مرتبطة بأداء فريضة إسلامية عظيمة وهي الحج، هذه العبادة التي يُحلق فيها حجاج بيت الله الحرام في أجواء إيمانية ويرتبطون عبر الوسائط الربانية ابتغاء الفوز بالرضا والرحمة والمغفرة والقبول بين يدي المولى عزوجل.. ملايين من المسلمين في زي واحد يهتفون بشعار واحد ويقصدون وجهة واحدة ويبتغون الأجر والثواب من الواحد الأحد. الملايين قدموا إلى أشرف وأطهر بقعة على وجه المعمورة استجابةً لنداء المولى عزوجل وأداءً لركن من أركان الاسلام، تدفقوا من كل حدب وصوب، الأبيض والأسود، الغني والفقير تجمعهم رابطة قوية عراها ومتماسكة أركانها ورائدة قيمها وسامية مفاهيمها، رابطة الدين الإسلامي الحنيف، تجاوزوا كل الصعاب وتناسوا كل مغريات الحياة ومشاكلها ومنغصاتها ووفدوا على المولى عزّ وجل يناجونه ويسألونه الخير كله وأن يكتب لهم في رحلتهم الإيمانية القبول والتوفيق وحُسن الجزاء. الملايين يحتشدون ابتغاء مرضاة الله في مشهد إيماني لا يستطيع الفرد المسلم أن يحبس دموع عينيه وهو يشاهده، مشهد إيماني يعكس وحدة القلوب على طاعة الله والإقبال عليه بالأعمال الفضيلة، مشهد لطالما شكل العقبة الكبرى أمام مخططات أعداء الإسلام الذين يعملون بكل إمكاناتهم المهولة من أجل نشر وإذكاء الصراعات والفتن الطائفية والمذهبية وتشويه الصورة الحضارية المثلى لديننا الإسلامي من أجل إنفاذ أجندتها ومخططاتها الشريرة، هم يريدون وضع العقبات أمام المسلمين للحيلولة دون أدائهم فريضة الحج ويسعون إلى ضرب وحدة المسلمين في هذا التجمع الإيماني العابق بالذكر والطاعات، لأنهم يعرفون جيداً أن موسم الحج هو الرابط الإيماني والأخوي الأكثر تأثيراً بين المسلمين، ففيه يتناسون خلافاتهم المذهبية ويتناسون كل شيء، ويتوحد الجميع تحت راية واحدة راية الإسلام، راية المحبة والسلام، راية الحق والصلاح والفلاح. وإن من المؤسف جداً أن يتزامن موسم الحج لهذا العام في الوقت الذي تعيش الأمة العربية والإسلامية في ظل أوضاع يندى لها الجبين، نتيجة الابتعاد عن قيم الإسلام ومفاهيمه وتعاليمه الإيمانية، والركون إلى الأعداء الذين يريدون إشعال الحرائق بين العرب والمسلمين من خلال افتعال الأزمات الداخلية والتحريض على الصراعات بين الإخوة في إطار البلد الواحد تحت مبررات واهية من أجل غايات رخيصة، ويدعي هؤلاء الأعداء بأنهم يريدون دعم إرادته ورغبات الشعوب العربية المطالبة بالتغيير على حد تعبيرهم. لقد أمعن هؤلاء في تآمرهم وحقدهم على العرب والمسلمين، فعملوا على ضخ المليارات من أجل القيام بأعمال تصعيدية للمطالبة بتغيير بعض الأنظمة العربية وبما يتماشى مع أهدافهم ومصالحهم، واستغلوا بعض أبناء جلدتهم لمنحهم المبرر للتدخل في الشئون الداخلية لهذه الدول، ودائماً يتغنى هؤلاء بأنهم مع إرادة هذه الشعوب وهي مغالطة مفضوحة، فإذا كان هؤلاء يريدون دعم إرادة الشعوب فلماذا وقفوا ضد إرادة ورغبات الشعب الفلسطيني في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشريف والموافقة على حصول هذه الدولة على العضوية الكاملة في مجلس الأمن، لماذا يحضر الفيتو الأمريكي بقوة عند أي مشروع قرار يدين إسرائيل..؟! كفانا ضحكاً على أنفسنا، كلنا يعرف ماهي الأهداف من وراء ما يسمى (بالربيع العربي)، الغرب لا يريد لنا الخير ولا التطور والتقدم والحرية كما يدعي بدليل أنهم أولاً يقولون أنهم يدعمون خيارات الشعوب في التغيير وما إن يحصل التغيير حتى يدشنوا المرحلة الثانية في مخططهم والمتمثلة في إذكاء الصراعات الطائفية والمذهبية والحزبية والمناطقية ودعم أعمال التخريب من أجل إشاعة الفوضى والصراعات ليسهل لهم التدخل في شئون هذه الدول بقوة وتكون لهم اليد الطائلة في مركز السلطة والقرار السياسي لهذه البلدان لضمان الحفاظ على مصالحهم والبحث عن توسيع قاعدة هذه المصالح بحسب الموارد التي يمتلكها كل بلد على حدة. من المؤسف أن يتقاتل العرب في إطار البلد والقطر الواحد من أجل السلطة بإملاء وتشجيع هذه القوى الاستعمارية، من المؤسف أن نسمع عن مخططات لتقسيم الدول العربية إلى دويلات وكيانات بحسب الانتماء الطائفي أو المذهبي أو السياسي في الوقت الذي كنا نحلم فيه بتحقيق الوحدة العربية. إن رعاية الغرب للمشاريع الانقلابية في عدد من الدول العربية لا يعني أنهم أكثر حرصاً على حياتنا ومستقبلنا من الأنظمة الحاكمة في تلك البلدان، هناك أخطاء وعثرات لدى الأنظمة العربية الكل يدركها جيداً وهي ملموسة منذ عشرات السنين، فأين كانت هذه الدول التي تتشدق بحقوق الإنسان والحريات واحترام إرادة الشعوب كل هذه السنوات؟ وما الذي استجد حتى «يحرقها قلبها» على الشعوب العربية، هذه الأخطاء والعثرات حتى وإن استوجبت التغيير بهدف الإصلاح فإن الشعوب هي من تضع هذا التغيير بحسب الأطر الديمقراطية لا عبر الفوضى وأعمال القتل والاعتداء وقطع الطرقات وإقلاق الأمن والسكينة العامة. في مصر ثار الشباب على نظام حسني مبارك وظنوا أن ترك مبارك للسلطة سيكون السبب في ولادة مصر الجديدة التي تتحقق فيها كل طموحاتهم وأحلامهم، ولكن واقع الحال يحكي بخلاف ذلك، حيث تتجه الأوضاع فيها نحو التأزيم في ظل تغذية مقيتة للفتنة الطائفية والمذهبية وإذكاء الصراعات والخلافات بين القوى السياسية وهو ما يُطيل أمد الفوضى والعشوائية في أم الدنيا وهو ما لا يتماشى مع إرادة ورغبة الشعب المصري. وفي تونس التي افتتحت مشوار التغيير وبعد الإطاحة بنظام زين العابدن بن علي دخلت البلاد في معمعمة طويلة أعقبها مؤخراً انتخابات المجلس التأسيسي، حيث أظهرت النتائج ظهور تكتلات غير توافقية وهو ما يجعل من احتمالات عودة الحياة إلى طبيعتها هناك ضئيلة جداً خلال الفترة المقبلة. وفي ليبيا وبعد كل هذه الخسائر الباهظة نجح حلف الناتو في إسقاط معمر القذافي ووضع نهاية لفترة حكمه، كما نجحت الدول الكبرى في الحصول على امتيازات نفطية لطالما عجزت عن الحصول عليها في عهد القذافي، وبدأت هذه الدول رسم ملامح المرحلة المقبلة لهذا القطر الشقيق بما يتناسب مع سياساتها.. وللأسف إن هناك دولاً عربية مشتركة في هذه المهمة لا لشيء وإنما بهدف الحصول على مكانة مرموقة في المحيط الإقليمي والدولي. أما في سوريا فقد أظهرت الأحداث الجارية هناك حجم المؤامرة التي تحاك ضدها، وبدا واضحاً أن هذه المؤامرة التي تحاك لا تستهدف الرئيس بشار الأسد وإنما تستهدف سوريا بقوميتها وثرواتها وموقعها الاستراتيجي الهام ومواقفها العربية الأصيلة.. إنها مؤامرة غربية عربية، حيث تم توظيف بعض وسائل الإعلام ما يجري بصورة مُبالغ فيها وبدا واضحاً أن هناك العديد من الأطراف تحاول تأمين الحدود السورية الاسرائيلية من خلال الإطاحة بالرئيس الأسد، لأنها تُدرك أن الإطاحة بالرئيس الأسد يعني ضرب واستهداف المقاومة العربية في لبنان وفلسطين وسوريا.. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو حول مبررات المطالبة بإسقاط نظام الرئيس الأسد؟ فالأوضاع الاقتصادية والمعيشية مقبولة نوعاً ما، والمواطن السوري يعيش في ظل أجواء جيدة، والعتب فقط على الحريات والتعددية، وأعتقد أن هناك توجهات إصلاحية في هذا الجانب، ولكن الشيء المؤكد أن النظام السوري رفض الخنوع للدول الاستعمارية ولمطالبها التي تنال من سيادة سوريا وتستهدف ضرب المقاومة والقومية العربية وإصابتها في مقتل. وفي بلادنا التي تُعد من أبرز الدول الديمقراطية الناشئة، شكلت التحولات السياسية التي حصلت في تونس ومصر دفعة قوية لقوى المعارضة لسلك ذات المسلك من أجل الوصول إلى السلطة تحت غطاء دولي ودعم غربي وعربي مشترك، فالسلطة الحاكمة غير المعصومة من الخطأ وجدت نفسها أمام مؤامرة شبيهة لما يحدث في سوريا، حيث جندت المعارضة كل عناصرها وخرجت بهم إلى الشارع مطالبة بإسقاط النظام ورفعت شعار الشعب يريد إسقاط النظام وهي تدرك جيداً أن جزءاً فقط من الشعب يريد ذلك وهؤلاء ليسوا الأغلبية، فالرئيس علي عبدالله صالح بإيجابياته وسلبياته وصل إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع ومدته الانتخابية تستمر حتى العام 2013م بموجب الدستور، ولديه شعبيته ومناصروه ومن حقهم أن يتمسكوا به حتى نهاية هذه الفترة، وإذا كان من حق المعارضة الخروج إلى الشارع فإن هذا الحق مرتبط بقانونية الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه من وراء ذلك، حيث كان الأحرى بها أن تخرج بأنصارها للمطالبة بإصلاحات شاملة وإن لم تلقَ أية استجابة، طالبت بإجراء انتخابات مبكرة كما هو الحال في البلدان الديمقراطية، أما أن تخرج بأنصارها وتطالب بإسقاط النظام وترفض أي حوار من أجل الانتقال السلمي للسلطة وتعمل جاهدة على تدويل الأزمة ورغبة منها في الوصول إلى السلطة، فهذا غير معقول ولا مقبول، نحن مع التغيير والرئيس أكد استعداده للتنحي عن السلطة والمبادرة الخليجية تضمنت ذات التوجه، فلماذا لا نقدم التنازلات سلطة ومعارضة لإخراج الوطن من هذه الأزمات العاصفة، وخصوصاً أن كل الأطراف على معرفة ويقين تام بأن أية مغامرات عسكرية من هذا الطرف أو ذلك لن تحل الأزمة الراهنة ولا بديل عن الحوار والشراكة الوطنية على ضوء المبادرة الخليجية. إننا في موسم الحج وما أحوجنا إلى وحدة الصف وتجاوز الخلافات والمناكفات السياسية والشخصية، نريد أن تتجاوز بلادنا والدول العربية الشقيقة هذه الأوضاع عبر التوافق الوطني والحلول السلمية النابعة من الحرص على المصالح الوطنية لهذه البلدان، جاعلين من مشهد الحجيج وهم يقفون على صعيد جبل عرفة دافعاً لتصحيح المسار والعودة إلى جادة الحق والصواب وإفشال كافة المخططات والمؤامرات التي تحاك ضد العرب والمسلمين والتي تجعل من إذكاء الصراعات والفتن الطائفية والمذهبية منطلقاً لها، المرحلة خطيرة ولا تستدعي التعصب للأنظمة العربية ولا للقوى المعارضة لها، فالمرحلة تستدعي التعصب للمصلحة العليا لبلداننا جميعاً والتصدي لكل ما يحاك ضدها من مؤامرات. حفظ الله اليمن واليمنيين وأدام علينا نعمة الوحدة والأمن والاستقرار ولا عاش أعداء اليمن. [email protected]