لطالما استفاض المفكرون والكتّاب والمنظرون والمثقفون والعلماء في أحاديثهم عن الإحياء الاجتماعي في شقه السياسي أو التربوي أو الديني أو الثقافي متغافلين الروابط الجوهرية التي تنتظم في عمقها تلك الجوانب الحيوية التي تعد المقدمات الموضوعية لذلك الإحياء المتعدد الأبعاد المتنوع العطاء والتأثير. التفكير بوابتنا الرئيسية لتفعيل تلك الروابط ومن ثم الولوج إلى الإحياء المتكامل والفعال للإنسان بقصد استنهاضه بمعرفة ومدافعة متوازنة تحقق النجاح في تغيير وعي وسلوك وتفكير وقناعات الفرد والجماعة والأسرة والمؤسسة ، المحكوم والحاكم، المرأة والرجل النخب والبسطاء، ليتسق مع منظومة حقوق الإنسان واحترام حق الآخرين في التفكير والتعبير والمنافسة والشراكة. إن التفكير الإبداعي، تلك الفريضة الغائبة عن حياتنا ومؤسساتنا لم تجد حقها المطلوب والطبيعي في حراكنا الثوري واليومي، إنها إحدى نواميس التغيير المعطلة في واقعنا وبرامجنا ومشاريعنا الفردية والمؤسسية على الرغم من توافر كل الدوافع والظروف لإحياء تلك الفريضة ومنحها حق الأولوية في الاهتمام والدعم حتى تتحول إلى فعل شائع وسلوك حيوي لا يتوقف. المؤسف أن عواصف التكفير وآلتها أكثر عملاً ونشاطاً وعنفاً من ظاهرة التفكير والإبداع ربما كان السبب دعماً للامتناع لخطاب وسطوة ونفوذ وتأثير ظاهرة التكفير مقابل زهدنا وتعاطينا الخجول مع مطالب ظاهر التفكير الإبداعي والولوج باتجاه إصلاح وتغيير الذات والمجتمع لا الوقوع في حلبات الفوضى الخلاقة التي تتخذ من التكفير والتفسيق والتبديع والتمييع وسيلة سهلة لقمع الآخرين والحيلولة دون تواصلهم مع الجمهور. خوفنا من المجهول والفتاوى الجاهزة حالت دون بلوغنا المستوى المطلوب في مناقشة واقعنا وأسباب تخلف مجتمعنا وفساده وقصوره في التعاطي مع مقومات النهوض المتكامل. إن المجهول المتخفي خلف كل فكرة أو دعوة أو مكاشفة للأخطاء والعثرات جعل حياتنا العلمية والمعرفية والتربوية والثقافية والإبداعية تعيش حالة من الرعب لا أحد يفكر خارج المألوف أو الصواب الموروث. التفكير الإبداعي في أي بعد أو نوع لا يجد من يهتم به أو يدعمه أو يفكر في استثماره أو تنميته، البيوت التجارية وأصحاب رؤوس الأموال ترتعد فرائصهم لو سمعوا أو قابلوا أحد المبدعين ليعرض عليهم فكرته أو مشروعه، بعضهم لايرد على اتصالك أو يسمح لك بمقابلته ما لم تكن قد مررت إليه عن طريق أحد المعممين أو المصدوقين التقاة لديه، تختزل المدينة في أشخاص لا يتجاوزون أصابع اليد ، كما أن الإبداع لا يجد من يدعمه إذا لم يمر من خلال الحواريين الجدد ويقتنعون به أو يردونه غير مأسوف عليه. لابد من الدفع بالأجيال إلى معترك المدافعة بالتفكير والإبداع إن أردنا ترك مواطن التنازع والتنابذ والاسفاف وخطاب التكفير الذي يتعقب كل من تسول له نفسه التفكير أو إعمال العقل، قيمة العمل وجودة الإنتاج تنوع العطاء الاجتماعي لا تخلقه آلة التكفير بل تنتجه وتنميه ظاهرة التفكير تلك الفريضة التي أهملناها قصداً أو عناداً بحجة سد الذرائع. ثمة رابط قوي بين النهوض الاجتماعي المتكامل وإحياء فريضة التفكير الحر غير المقيد أو المطارد بعقم البعض لأن الأول لا يحصل بالتمني أو التغني بأمجاد التاريخ والثاني لا يحققه الانغلاق على أفكار وأطروحات وتخريجات وتفسيرات السلف وطريقة عيشهم وتفكيرهم ، كلاهما يحتاج للعمل والمغالبة والمدافعة والإرادة والعزم والمصابرة، فالأمم لم تنجح إلا حين حررت ظاهرة التفكير الإبداعي من الوصاية وحمته من آلة التكفير والمصادرة والمطاردة والتهميش والقمع. إن ثورة التفكير التي ينبغي أن نؤصلها ونبني عليها مناهجنا التربوية ومشاريعنا التعليمية لابد وأن تقوم على قاعدة من الاحترام الاجتماعي والحماية الدستورية والقانونية والتربية عليها لتتسق والوعي الجديد لليمن المدني الجديد بدون تنافر ، لأن ثمة اختلافاً بين مانريد وما نمارس ونسلك ونشجع . إن التغيير الذي يطالبنا به القرآن الكريم في قوله تعالى: ( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم ) هو التغيير في طرق وأساليب ومناهج التفكير لبناء وعي الفرد والجماعة حتى ينتج سلوكاً إيجابياً يتعاطى مع الواقع ويتعامل بعقلانية مع الكون والحياة والمتغيرات ، باعتبار ذلك نشاطاً إنسانياً يخدم الإنسانية ولايحد من تنامي فكرها وتعاظم مكتسباتها. الملاحظ أن تيارات جُبلت على إقصاء الآخرين والحد من نجاحاتهم ، اعتادوا على احتواء القدرات والأفكار وتوجيهها لخدمة الخلافات المذهبية والفقهية والسياسية وتصفية الحسابات أو المحافظة على مصالح الفرقاء في الفتوى ليس إلا. متى نقطع صلتنا بفتاوى التكفير والإقصاء حتى لاتتحول إلى أداة قمع جديدة تستهدف كل فكرة أو عمل إبداعي؟، لأن الإسلام هو ثورة تفكير لا ثورة تكفير، إلا إذا كان للبعض رأي في ذلك فليقولوا لنا إنا لهم منصتون.