عندما أطلق الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان في ستينيات القرن الماضي مقولته الشهيرة (الوسيلة هي الرسالة ) أثارت جدلا واسعا في الأوساط الثقافية وعارضها البعض بحجة ان ليس لأي وسيلة صنعها الإنسان ان تحدد رسالته ومفاهيمه.. والآن مع شيوع استخدام الانترنت وتطبيقاته المتنوعة كالفيس بوك تويتر واليوتيوب والمدونات والصحف الالكترونية عادت الى الأذهان مقولة ماكلوهان لتتلاءم ليس فقط مع دلالتها الاصطلاحية وإنما أيضا الحرفية ، إذ اصبحت هذه التطبيقات والوسائل بحد ذاتها هي رسالة أفراد المجتمع للتعبير عن مكنوناتهم وتطلعاتهم وما يمرون به من ظروف صعبة وأحداث سياسية واجتماعية. من نافلة القول ان هذه التحولات أفرزتها التطورات المتسارعة في عالم الاتصالات وتقنية المعلومات .. وجاءت متلائمة مع التحولات الديمقراطية في المنطقة والعالم .. فيما هي تسهم في الوقت ذاته في تعزيز القيم الديمقراطية و النهج التشاركي لأفراد المجتمع في صنع القرار وإدارة شؤونهم وفي الضغط على الحكومات الاستبدادية لتحقيق مطالب معينة أو إيصال صوتهم الى صانعي القرار في تلك الأنظمة على أقل تقدير. وربما كانت التفاعلية والتبادلية في وسائل الإعلام الجديدة ، ميزتها القصوى في التعبير عن الملمح الديمقراطي ، فلم يعد الجمهور مستقبلا سلبيا للرسالة الإعلامية كما في الوسائل التقليدية ، بل له التفاعل وإبداء الرأي والتعليق في ما ينشر ويبث في حركة تبادلية بين المرسل والمستقبل ، يتحول فيه الجمهور الى مستقبلا تارة ومرسل للمعلومة تارة أخرى، عوضا عن دوره السلبي كمتلق جامد ، سيما في ظل حاكميات احتكرت وسائل الإعلام ، وجعلت الجمهور وعاء لاستقبال مضامينها الاتصالية ..والتفاعلية التبادلية أفرزت بالنتيجة كما يرى الأكاديميون والدارسون ، ب (نهاية الجمهور ) وظهور (الذات الجماعية) كثمرة مباشرة للمشاركة الاجتماعية للمعرفة والمعلومات، وسهولة الوصول اليها ، دونما عائق او حدود يصعب ان تفرضها الأنظمة الحاكمة.. ما يجعل المعرفة والسلطة الاستبدادية على خط التماس والصراع ، إذ من غير المعقول لمجتمع كهذا القبول بسلطة فوقية تحتكر المعرفة ووسائطها لتتخذها أداة للضبط الاجتماعي الاعتباطي ، دونما احترام لإنسانيتهم وحرياتهم في التفكير المبدع الخلاق .. ورغم المبالغة في دور وسائل الإعلام الجديد في قيام ثورات الربيع العربي ، سواء على صعيد الدعوات للحشد والتجمع والتواصل .. نظرا لمحدودية انتشار التقنيات الالكترونية في الأوساط المليونية للشعب العربي ، إلا أنها ساهمت الى حد ما في نشوء وتأجيج الثورات والانتفاضات.. والجدير بالدراسة أنها تؤشر لظاهرة اجتماعية خطيرة تتصل بالفئة العمرية لمستخدمي الوسائل الجديدة ، حيث للشباب النصيب الأوفر فيها .. سيما في مجتمعات عربية تشكل فيه هذه الشريحة نسبة لا يستهان بها، وتعاني أكثر من غيرها من بطالة وفقر وفقدان للهوية ، ما يحد من طموحاتها وآمالها ومشاركتها الفاعلة في عملية التنمية ، إن لم تصبح عائقا لها... وهو ما يفسر لجوء الشباب العربي في تونس ومصر واليمن وسوريا واليمن الى الإعلام الجديد في الحشد وكسب التأييد لتلك الحركات الاجتماعية وفي بث الصور ومقاطع الفيديو التي تظهر بشاعة الحكام في التعامل مع شعوبهم... ومع ذلك، فالوسيلة مهما بلغ تأثيرها لا تصنع ديمقراطية ، ولا تسقط انظمة فاسدة.. الناس فقط يفعلون ذلك.. والإعلام لا يصنع الحرية والكرامة إنما الروح الإنسانية هي من يتولد عنها تلك القيم .. غير ان الإعلام له توفير المعرفة للناس ، وعليها تتحدد قيمهم ومفاهيمهم وأفكارهم ورؤاهم التي تضعهم على بداية الطريق الصحيح نحو المستقبل المنشود.