ليلة القدر جاء النص عليها في القرآن الكريم، وسميت باسمها سورة من سور القرآن، وهي ليلة كاملة تبدأ من غروب الشمس وتنتهي بطلوع الفجر، ولها في القرآن تسميتان: الأولى: ليلة القدر كما في قوله تعالى:{إنا أنزلناه في ليلة القدر}[القدر :1]. والثانية: ليلة مباركة، كما في قوله تعالى:{إنا أنزلناه في ليلة مباركة}[ الدخان :3]. معنى التسمية ودلالتها: عن كلمة (قدر) يقول ابن فارس: ((قدر: القاف والدال والراء أصلٌ صحيح يدلُّ على مَبْلَغ الشَّيء وكُنهه ونهايته. فالقدر: مبلغُ كلِّ شيء. يقال: قَدْرُه كذا، أي مبلغُه. وكذلك القَدَر. وقَدَرتُ الشّيءَ أَقْدِرُه وأَقْدُرُه من التقدير)). فالكلمة إذن تدل على التشريف والتعظيم، من قولهم لفلان قدر؛ أي شرف ومكانة، فيكون المعنى على هذا: ليلة الشرف العظيم والمنزلة الرفيعة. وأما على المعنى الآخر الذي هو: التقدير، فيكون المعنى: ليلة الحكم أو ليلة التقدير، قال القرطبي:((قال مجاهد: ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير، سميت بذلك لأن الله تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والرزق وغيره)). ولامنافاة بين المعنيين: فليلة القدر هي ليلة شريفة القدر، رفيعة المكانة، وهي ليلة الحكم والتقدير، وهي ليلة مباركة، وهي ليلة نزول القرآن، وهذه المعاني كلها متوافقة لا متخالفة كما سيأتي معنا. خصائص ليلة القدر في القرآن الكريم: ليلة القدر هي ليلة مخصوصة بالبركات، وقد وصفها الله سبحانه بأنها:((ليلة مباركة)) [ الدخان :3]. ولهذه الليلة المباركة خصائص وردت في الكتاب العزيز، وخصائص وردت في السنة المطهرة، وسوف نقتصر هنا على ما ورد في الكتاب العزيز من خصائص لهذا الليلة المباركة وهي: 1 - نزول القرآن فيها: فقد اختص الله هذه الليلة من بين سائر الليالي بنزول القرآن، قال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر}[القدر:1]. وقال سبحانه:{إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين}[ الدخان :3]. 2 - فيها تفصل وتبين أحكام الرسالات السماوية لتكون في غاية الإحكام ثم يوحي الله ما أحكمه إلى رسله ليبلغوه للناس، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان: 3-6]. وقد ذهب بعضهم إلى أن الله يقدر في هذه الليلة أمور الخلق كالأرزاق والآجال ونحو ذلك، كما مر معنا في قول مجاهد، لكن سياق الآية لا يساعد على تبني هذا القول؛ لأن الآية تتحدث عن أمرٍ حيكم يقضي به الله ويوحي به إلى رسله ليبلغوه إلى الناس رحمة بهم، وهذا المعنى يتعاضد مع نزول القرآن في هذه الليلة، والقرآن يفسر بعضه بعضاً. 3 - فيها يُضاعف أجر العمل الصالح، فهي في ميزان الله: ((خير من ألف شهر)) [القدر :3]، قال أكثر المفسرين: العمل في ليلة القدر بما يرضي الله خير من العمل في غيرها ألف شهر. 4 - هي ليلة تتنزل فيها الملائكة مع الملاك جبريل عليه السلام بأوامر الله سبحانه وتعالى إلى الأرض، قال تعالى: ((تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر))[القدر:4]. ومعنى قوله تعالى: ((من كل أمر)) أي: بكل أمر. كما في الآية الأخرى: ((لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ))[ الرعد:11] أي: يحفظونه بأمر الله. وتبقى الأوامر التي ينفذها الملائكة عليهم السلام في ذلك التنزل من أمر الغيب، وقد قال بعض المفسرين: إن الملائكة ينزلون ويؤمنون على دعاء الناس في هذه الليلة حتى طلوع الفجر، وقال آخرون: يسلمون على كل مؤمن ومؤمنة. لكن المعنى المهم هو أن ليلة القدر هي ليلة احتفاء كوني يشارك فيه الملائكة ومعهم جبريل عليه السلام والمؤمنون في الأرض احتفاءهم بهذه الليلة. 5- هي ليلة سلام من غروب الشمس حتى طلوع الفجر: ((سلام هي حتى مطلع الفجر))[القدر:5]، قال البيضاوي: أي لا يقدر الله فيها إلا السلامة، ويقدر في غيرها السلامة والبلاء. وقال الشوكاني وغيره: هي سلامة وخير كلها، أي لا شر فيها. وقال بعض المفسرين: هو تسليم الملائكة على المؤمنين في تلك الليلة حتى طلوع الفجر. وقال بعضهم: هي ليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً ولا أذى. وذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الليلة يعم فيها السلام جميع أهل الأرض، فلا يُعمل فيها بالشر، ولا يخفى ضعف هذا القول. والأولى في نظرنا أن يقال في هذه الخاصية: إن الله جعل هذه الليلة ليلة أمان وسلام كوني، بحيث تأمن جميع الخلائق قيام الساعة في هذه الليلة؛ لأن الساعة هي الفزع الأكبر كما قال تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [ الأنبياء : 103]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ إِلا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}[ النمل : 87]. فجعل الله هذه الليلة ليلة سلام كوني تأمن فيها جميع الخلائق من فزع قيام الساعة، والله تعالى أعلم. [email protected]