لاشك أن اليمن الجريح الذي تنخره الديدان من كل جانب، ويتربص به القلة الطفيلية التي اعتادت العيش على هامش كفاح وتضحيات الأحرار الذين أبو إلا أن يكونوا أبطال هذه المرحلة العصيبة الاستثنائية . هذا الوباء السرطاني الذي لم تشهده البلد من قبل، ولا حتى الزمن الأكثر ظلاماً في تاريخها بما في ذلك العهد القاسمي الذي تعتبر هذه العصابة التي اعتدنا أن نطلق عليها جزافاً كلمة نظام امتداداً له. يكفي اليمنيين فخراً أنهم فجروا ثورة نقية ناصعة البياض.. نظيفة الجوهر والمحتوى. يواجهون الموت بصدور مفتوحة، وبعزيمة قوية لن تنكسر أو تنحني أو تتراجع. سفكت دماؤهم ظلماً وعدواناً دون أن يثير ذلك ردود أفعال الثوار حتى بالتقاط حجر لرميها على من يرمونهم بالنار والغازات الحارقة الملتهبة التي تذوب من هولها الحجارة والصخور العملاقة. انه التصميم والإصرار العجيب لإنجاز ثورة سلمية هي الأولى من نوعها في التاريخ من أجل مستقبل جميل لجميع اليمنيين. وقد يقول قائل بأن عبدالعزيز عبدالغني هو جزء من ذلك النظام السابق الذي قامت الثورة لإسقاطه، وهذه حقيقة لا خلاف فيها، ولكن يظل الرجل له سمات وخصائص مختلفة، يكفي أنه مات مقتولاً كما مات قبله الرئيس الحمدي مقتولاً من قبل هذه العصابة التي تتباكى عليه اليوم، وتذرف دموع التماسيح. ها هو ذا عبدالغني يغادر مقتولاً ..تاركاً وراءه وروداً تزهر وتزهو وتحرق بالنار...وقتلة يمسكون بكرسي لم تعد من حقهم، وليست مأمونة العواقب و دماء شابة تروي شجرة الحرية التي أزهرت وأينعت رغم كل المآسي. فقد أراد الشعب التغيير وإسقاط الهمجية والتخلف والهيمنة، والتسلط الفردي. فالإرادة الحية طريق معبد مفروش بالورد إلى النصر المؤكد والحتمي. فالثورة علمتنا أن نمضي إلى الأمام وأن لا نضعف.. فالخنوع ليس من شيم الثوار، والخنوع يتعارض مع الكرامة، ومع هذا الربيع الذي حول الطغاة إلى خريف دائم وجحيم وكوابيس مستمرة. فإن الكثير من أبناء هذا البلد المكلوم المنزوف يبكي فراق هذا الرجل اعتقاداً منهم أنه كان جزءاً من أحلامهم بالتنمية التي اقترنت بمجيئه إلى السلطة مع أول حُلم بالدولة اليمنية...دولة النظام والقانون التي دشنها الشهيد ابراهيم الحمدي وأزيلت بمقتله. فقد بكينا الأستاذ عبدالعزيز عبدالغني كما بكاه ضحايا العنف والإجرام السلطوي.. كان الرجل شاهداً حياً على كل ما جرى على هذه الأرض من جرائم، ولأنه ما زال يذكرنا بعصر الحمدي العصر النبيل المأسوف عليه. فالرجل وعلى الرغم من حالة الاحتقان والانقسام وحروب الإبادة التي يتعرض لها أحرار اليمن وثوارها جميعاً.. إلا أن عبدالغني كان مصاباً أليماً لنا جميعاً. كان رجلاً عصامياً...عفيف النفس...كان هادئاً جداً حد أنه يقتلك بهدوءه..ويقتل كل من يريد منه موقفاً ناقداً...متقدماً لهذه الحالة العبثية التي تعصف بالبلد.. وربما أنه كما يقال نصح الرئيس السابق بحقن دماء اليمنيين وصون كرامتهم، ولكن كما يقول الكثيرون ممن يجالسونه لم يتخذ موقفاً شجاعاً.. وكان قبوله بالنزول إلى تعز لإقناع الثوار بالاستجابة لضغوط السلطة. ويؤخذ عليه أيضاً بأنه لم يتخذ موقفاً صارماً تجاه الفساد الذي كان ينخر جسد البلد ويعبث بثرواته كما فعل بن شملان وفرج بن غانم رحمة الله عليهما. فالفساد المالي والإداري والسياسي وصل حد التعقيد حد أن الديدان الكثيرة انتفخت من جراء عيشها على فضلات هذا الجسد المتخم بالجراح والأحلام النبيلة والرجل عاش حياته الأولى بعدن وتعاطى بموضوعية مع ثقافة التحرر التي جسدها فعلياً قبل شموخ ثورة اكتوبر الشامخة. عندما كان مؤسساً ومعلماً مثالياً في كلية بلقيس بعد أن شكل وجودها في خمسينيات القرن الماضي ضرورة وطنية وحتمية تاريخية للتواصل مع ثقافة الحركة الوطنية المناهضة لثقافة الاستعمار والاستعباد والمرجعية. وفي الشمال كان واحداً من الكفاءات الوطنية التي استفادت منها الثورة.. بل أحد أبرز مراجعها الاقتصادية والتنموية والسياسية حيث تبوأ أعلى المناصب القيادية في الدولة واطلق عليه خبير التنمية وظل يتعاطى مع التنمية كوسيلة للنهوض بالبلاد اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.. إلا أن عبدالغني لم يتمكن من فرض علمه وخبراته في استنهاض الواقع وتطويره وتحقيق احلام البسطاء رغم أنه يحظى باحترام وتقدير الغالبية رغم أن العصابة التي يعمل معها ولدت انطباعاً سلبياً عنه لدى العامة. من أنه مجرد منفذ ومتلقي للتوجيهات وليس صانعاً للسياسات وأنه في حياته كلها لم يعرف كلمة “لا” في إشارة واضحة لسلبية الرجل. والحقيقة أن عبدالغني لم يكن تلك الشخصية السلبية المجردة.. فقد قال “لا” مراراً وبصوت مسموع.. سيما في ثمانينات القرن الماضي عندما كان في زيارة عمل للشقيقة الكبرى، واكتشف هناك بأنه أمام فخ نصب له.. فقد جاء على اتفاقية جاهزة لترسيم الحدود، والتنازل عن الحقوق التاريخية والوطنية لليمن، فأنتفض فقيدنا مرعوباً قائلاً لا.. وألف لا.. هذا خط أحمر، ومن يقترب منه سيدفع حياته ثمناً لذلك، وليس ببعيد القاضي الحجري، والنعمان الأبن اللذان احرقا لمجرد اقترابهما من هذا الملف. وكان أول عقاب يناله فور عودته في مطار صنعاء الدولي هو قيام اتباع الحاكم السابق بتفتيش حقائبه وعلى إثر ذلك اعتكف في منزله بصنعاء لأكثر من شهرين، ثم قدم استقالته من رئاسة الوزراء، وكانت هي اللطمة الأولى لنظام صالح، الذي رد على الاستقالة بالرفض قائلاً له: لا يتجرأ أحد أن يقدم استقالته لي، وإنما أنا سأعزلك متى ما أردت ذلك. ولم ينتهي الحاكم من هذه الإهانة وإنما دبر له موقفاً أكثر سوءاً والمتمثل بحادث احتجاز طائرته الخاصة في مطار لندن الدولي، والتي الحقت العار باليمن بأسرها وكان له موقفاً أقرب إلى الناصح من تدهور الأوضاع السيئة عندما اشتعلت اليمن من أقصاها إلى أقصاها ثورة شعبية عارمة لم يتوقعها الحاكم، ثورة توحدها الإرادة الوطنية والحلم الجميل بيمن خال من القهر والاضطهاد والعصابات. لهذا مثل الأستاذ موقفاً متميزاً بين أقرانه في السلطة، على الأقل أنه لم يكن عدائياً مثلهم وعندما كان معلماً ومحاضراً جامعياً كرس فلسفة التواضع والبساطة والحب والتسامح، وأصبحت هذه المفاهيم قاعدة تعامله مع الآخرين. كان منزله مفتوحاً للجميع، وكان حريصاً على مشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، وأن يكون ودوداً وبسيطاً في طرح أفكاره بدون تعصب أو محاباة، ولا يعادي الآخرين أو يقلل من مكانتهم وآرائهم. ولهذا ودعه عدداً غفيراً من الناس إلى مثواه الأخير بحزن وألم، فقد كان موكبه أقرب إلى موكب المرموقين من رجل أرتبط بسلطة غاشمة اعتادت ترتكب أقبح الأعمال وأفظع الجرائم. ربما أن الكثير من القراء سيختلفون معي، ولكن هذه حقيقة لا مناص منها. فالرجل فعلاً كان جزءاً من نظام مستبد ومستفز لمشاعر الناس، ولكن هنالك فرقاً بين حاكم يقابلك بالابتسامة والبساطة وبين حاكم متغطرس احترف مهنة الكذب والقتل والدوس على البسطاء. ويجزم البعض بأن عبدالغني، ومنذ أن تفجرت ثورة الغضب الشعبي العارمة مطلع العام الماضي وهو على قائمة العناصر التي سيتم تصفيتها والتخلص منها باعتبارها أكثر معرفة بفساد الحاكم الأوحد ومجازره الكثيرة وشاهد حي على كل جرائمه، منذ مذبحة الحمدي، ومروراً بمذابح الحجرية، والناصريين وأحداث المناطق الوسطى، وعدن وعتمة وصبر ومأرب وصعدة وغيرها من الجرائم الأكثر دموية، وقد تم دعوته إلى جامع النهدين ليكون على رأس القائمة التي انقلب فيها السحر على الساحر. رحم الله استاذنا المعلم والمحاضر الجامعي.. الرجل الذي ولد ومات وقريته كما وجدت قبل ميلاده فخيرات البلد لم تصل إليها.. لأن عبدالغني كان يعتبر أن الحق العام لا ينبغي أن ينفق في مصلحة أشخاص دون غيرهم. وأتمنى أن يعتبر ممن لازالوا في فلك النظام لسابق. وأقول لهم في خاتمة موضوعي هذا ولمن أراد الالتحاق فيهم بثورة الكرامة والتحرر من جبروت الطغاة.. لنمضي معاً في موكب الخلد.. لنحمل الوطن على اكتافنا. لنمضي في رحلة العمر نطوي مرحلة الماضي الكئيب المظلم.. نلج في حشايا هذا الوطن الغالي نمتص رحيق حبه وعطائه لشمسه الملتهبة التي نستقي منها نورها. لعطر نسيمه.. لهوائه الجميل لسمائه الصافية الجميلة، لأرضه المعطاة الملهمة، ولجباله وسهولة وخيراته التي ينبغي أن تكون لهؤلاء الذين عانوا طويلاً مرارة الظلم والتشرد في داخل البلد وفي عموم بقاع الأرض.. فقد مات الكثير منهم ظلماً وعدواناً وقهراً وجوعاً على قوارع الطرق، أو دهساً تحت إطارات السيارات والمجنزرات.. أو رمياً وإصابة بنيران التهاني للقائد الرمز أو الأفراح بشفائه من أي عارض مرضي.. رحم الله شهيدنا وأسكنه فسيح جناته.