الإسلاميون والحكم العام 1979 كان استثنائيا في إيران، إذ تفجرت فيه ثورة أذهلت الجوار الإقليمي والعالمي، ولا يزال مشهد الرجل العجوز الثمانيني وهو ينزل من سلم طائرة أقلته من فرنسا إلى طهران، حيث احتشدت الجماهير الغفيرة لاستقبال مفجر الثورة ، وملهمها الأول، ملتصقة في أذهان الكثير.. وبين ليلة وضحاها أصبح شرطي أمريكا في الخليج، الشاه محمد رضا بهلوي، في خبر كان .. فيما الرجل الذي ظل شريدا طريدا عشرات السنين ما بين النجف وفرنسا، عاد ليحتل المنصب الأول وليبعث فكرة سياسية ظلت خامدة قرونا طويلة.. فالخميني الذي كانت ثورته مفاجأة أصابت العالم بالذهول، إلا أنها لم تكن كذلك فيما يتصل بما تحمله من فكر سياسي، فهنا الرجل لم يزد عن أن يأتي بنظرية سياسية تبلورت قبل ذلك بستة قرون في عهد الدولة الصفوية، هي نظرية ولاية الفقيه، كتخريج فقهي لموقف الشيعة الإثني عشرية من الحاكمية والسلطة السياسية.. أو الإمامة والخلافة . للشيعة الإثني عشرية مفهوم خاص للسلطتين الروحية والزمنية أو لعلاقة الدين بالدولة، ظهرت بوادرها بعيد موت النبي صلي الله عليه وسلم، وكانت الأساس في افتراق المسلمين إلى طائفتين رئيسيتين، فعلى حين يرى السنة ان اختيار الخليفة شأن دنيوي، يتم عبر الشورى (أهل الحل والعقد)، يعتقد الشيعة ان الإمامة أو الخلافة شأن إلهي، لا شأن للناس بها، فالإمامة تكون من الله بالتعيين لا بالانتخاب وان رسول الله أوصي بالخلافة لابن عمه الإمام علي، ومنه تسلسلت الى الأئمة الإثني عشر، وهم كذلك معصومون من الخطأ كالأنبياء تماما، فلا فرق بين النبوة والإمامة إلا بالوحي ..بخلاف السنة الذين لا يرون عصمة لغير الأنبياء .. وكانت النواة الأولى حركة التشيع حينما رفض بعض المسلمين اختيار أبي بكر خليفة للمسلمين في سقيفة بني ساعدة، معتقدين أحقية الإمام علي بها .. ورغم ان عليا بايع أبا بكر وعمر، إلا أن الانشقاق الكبير بين المسلمين حدث بعد الفتنة الكبرى التي أعقبت استشهاد الخليفة الثالث عثمان، حينما خرج بنو أمية على الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب بحجة عدم مطالبته بدم عثمان، ليستشهد علي، ولتؤول الأمور الى معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية. تلك المرحلة شهدت ظهور ما سمي بالإمامة السياسية للشيعة، بدأت بخروج الإمام الحسين بن علي رضوان الله عليهما بثورة ضد يزيد بن معاوية، انتهت باستشهاده، أعقبها المختار الثقفي بحركة أخرى، رافضا ولاية الأمويين ومبايعا محمد بن الحنفية إماما، وهو من ابناء الإمام علي من غير فاطمة الزهراء، لتنتهي هي الأخرى على يد عبد الله بن الزبير.. تماما كما انتهت بعدها ثورة الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ضد الأمويين باستشهاده .. ورغم ان الإمام زيد اقر صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان.. الا انه لم يقرها للأمويين, وبعيد موته ظهرت فرقة أخرى هي الزيدية، كانت أكثر فرق التشيع قربا من أهل السنة في دعوتها الى ان الخلافة تكون بالانتخاب لا بالتعيين كما يؤمن الاثنا عشرية ، الى جانب إجازتهم إمامة المفضول مع وجود الأفضل. بعد فشل الحركات الثورية للشيعة، جرى تحول في الفكر السياسي لديهم، ليحدث الانتقال من الإمامة السياسية الى الإمامة الروحية، فرغم ان الشيعة استمروا في موقفهم السلبي من الخلافة كونها غير شرعية بنظرهم، إلا أنهم تخلوا عن المعارضة السياسية للنظام الحاكم، واستعاض أئمتهم عن الدعوة للإمامة السياسية الى القيام بمهام الإمامة الروحية المتصلة بتعليم الناس أمور الدين والفقه وحقوق الإنسان وواجبات المسلم تجاه الحاكم ومسؤوليات الأخير تجاه رعيته.. ليستمر الحال حتى نهاية الخلافة العباسية، فيما يمكن توصيفه ب(الجبرية السلبية) للشيعة، سيما وقد ألفوا أنفسهم خارج المنظومة السياسية ولاقوا اضطهادا مريرا بسبب مواقفهم السياسية، اضطرتهم الى الأخذ بمبدأ التقية. في العهد العباسي خرج عن الشيعة الاثنا عشرية فرقة أخرى دعيت بالإسماعيلية، اعتقدوا العصمة في الإمام السابع إسماعيل بن جعفر الصادق، وعرفوا بالشيعة السبعية تمييزا عن الاثني عشرية، لأن الأئمة عندهم سبعة ظاهرين آخرهم اسماعيل بن جعفر الصادق، يليهم سبعة مستترين، ومع انهم نجحوا في تأسيس دولتهم في مصر (الدولة الفاطمية) إبان ضعف الدولة العباسية ، بيد ان فكرة الإمام الظاهر والإمام المستتر، لا تزال تسيطر عليهم حتى الآن.. مرحلة ضعف الخلافة العباسية شهدت تطورا مهما في الفكر الشيعي، عندما نجح بعضهم في تقلد مناصب رفيعة في الدولة، أمثال نظام الملك وأحمد بن بويه ، مؤسس الدولة البويهية الشيعية.. وبعد عقود العزلة والاضطهاد، أضحى لهم مكانة سياسية أسهمت في خروجهم من الجبرية السلبية، ليزداد تمكنهم بقيام الدولة الصفوية أوائل القرن السادس عشر، الدولة الشيعية التي حكمت إيرانوالعراق، وشهدت بداية تبلور الفكر السياسي للشيعة الاثني عشرية.. فالعقود السابقة اتسمت بالسلبية في معظمها رغم حضور الأئمة.. ولأن الإمام محمد بن الحسن العسكري (المهدي المنتصر) ظل غائبا (وفقا لمعتقدهم) منذ العام 329ه ولم يعد ، فيما قيام الحكومات ضرورة لأيما اجتماع إنساني، كان لا بد من تخريجات فقهية، تعطي شرعية للحاكم وان لم يكن معصوما، للقيام بشؤون الناس الدنيوية، فجاءت فكرة (ولاية الفقيه) الداعية الى وجوب قيام الحكومات (السلطة الزمنية) على ان يتولى مهامها فقيه عالم مجتهد، يحتل منصب نائب الإمام الغائب لحين عودته، وكان ممن دعا لهذا الرأي، المحقق الكركي، والمقدس الاردبيلي ، والمحقق النراقي. ما حدث للفكر السياسي الشيعي إبان الدولة الصفوية، كان علامة فارقة في تاريخه، وقدر له أن يغير الوجه السياسي لإيران إلى الأبد.. ومع ان التلازم بين السلطتين الدينية والسياسية أيام الصفويين والى قيام الجمهورية الإسلامية في إيران أواخر القرن العشرين، كانت تصب غالبا باتجاه تغليب السلطة السياسية على الدينية، إلا ان القرن العشرين الميلادي سيشهد خروج المولود الذي ظل جنينا في رحم الدولة الصفوية آمادا طويلة.. ففي العام 1979م شهدت إيران ثورة إسلامية تكللت بصعود التيارات ذات النزعة الدينية إلى الحكم، ليقود الخميني وهو عالم دين وفقيه زمام الأمور ويمسك بكلتا السلطتين الزمنية والروحية وليطبق نظرية ولاية الفقيه بحذافيرها لأول مرة في تاريخ إيران والشيعة الاثنى عشرية..فكان استدعاء التاريخ السحيق مرة أخرى كما سلفية السنة دونما اعتبار لمقتضيات الواقع. نظرية ولاية الفقيه تعرضت للنقد قبل ذاك من بعض الشيعة أنفسهم كعلي شريعتي، ومن تيارات شيعية أخرى، في العراقولبنان، بدرجات متفاوتة، وبأصوات متمايزة في مستوياتها، الا ان أكثرها علوا تلك التي صدح بها الإمام الخومني حينما أعلن قبل سنوات وثيقة مفادها ان السيادة للشعب لا للفقيه، ما يعني ليس فقط انحسار سلطة الفقيه السياسية إلى أمور دينية تتعلق بالفقه والقضاء والفتوى والنصيحة، إنما يوجب اعتماد الديمقراطية والدستور والانتخابات عند تشكيل الحكومات، وهو تماما ما حدث في العراق رغم وصول التيارات السياسية ذات النزعة الدينية للحكم .. حيث كان الأخذ بمبدأ سيادة الشعب، ربما لعراقة المرجعية الدينية فيها، التي تنأى بنفسها عن الاشتراك فعليا في الشأن السياسي الى حد ما، ليقتصر حضورها على النصح والإرشاد، وبسبب التعددية المذهبية والعرقية والدينية، وما يترتب عليه من ديمقراطية وانتخابات تمثيلية ودستور للجميع.. الحال يصدق على لبنان ايضا، فحزب الله الشيعي هناك يتوسل الديمقراطية ويتعايش معها، رغم صلاته العقائدية والفكرية مع شيعة إيران، الذين لا يزالون يرون في هكذا أموراً بدعة غربية، وحتى عند توسلهم لبعض آلياتها كالانتخابات، فالأمر يتم بعد مصادقة الفقيه والمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك