استطاع شعراء العرب دون سواهم أن يجعلوا من الشعر واحات وفروعاً مستقلة في صحراء كانوا هم سفينتها، وكانت نخلاتها أجمل ما تركوه وراءهم لطالب فيء. برعوا في أن جعلوا من الشعر أنهاراً وينابيع تشق رمال الصحراء لتحقيق أغراضهم التي باتت اليوم أغراضاً للشعر.. كالوا المدح حيناً والقدح أحايين.. رثوا من أحبوا ومن كرهوا، وتغزلوا بذوات الحسن ووافرات المال، ووصفوا المها والذئاب.. وماتوا بعد ذلك، لكن قصائدهم لاتزال سامقة كنخل قائم في واحة الذاكرة يستفيء بظله المسافرون في هذه الدنيا منذ مئات السنين. ذهب الشعراء وذهب من استمع إلى قصائدهم وحفظها. وها نحن اليوم نقف أمام بعضها وقفة إعجاب.. بعض مما علق في الذاكرة والتصق بالقلب.. ليس في الغالب إعجاباً بمضامينها التي قد لا نتفق معها ولكن تقديراً للوحات نصية رائعة، استطاعت أن تطوع اللغة وتحقق أغراضها، وتبقى كل هذه السنين كألواح من المرمر الموشاة بخيوط الذهب والغائصة في رمال الصحراء ليس تماماً. كان الشاعر العباسي أبو العلاء المعري يعيش حالة من التساؤلات الوجودية التي لا تنتهي. وقد استطاع أن يخلق حالة خاصة في الشعر العربي لم تأخذ هذا الوضوح الفلسفي والديني إلا على يديه، حيث عاش ساخطاً على الدنيا ناقماً عليها. وقد دأب على مخاطبتها في الكثير من قصائده بندية بينة كأنه صنو لها.. طارحاً العديد من التساؤلات في قصائده التي حملت في طياتها كوميديا كالحة السواد، إذ يدعو في الكثير من أشعاره إلى هجر الدنيا والمرور عليها من دون ترك أثر إن أمكن ذلك.. فهو صاحب المقولة التي تضمنتها إحدى قصائده «هذا جناه عليَّ أبي وما جنيت على أحد» والتي تكررت في قوالب وصور مختلفة في شعره كما هو الحال في قصيدة (اللزوميات): إذا لم تكُنْ دنيَاكَ دارَ إقامةٍ فما لكَ تبنيها بنَاءَ مُقيمِ؟ ويقول في قصيدة أخرى في سياق نقمته على الدنيا التي غدت طابعاً للكثير من قصائده: دُنياكَ غادرةٌ, وإن صادتْ فتىً بالخَلقِ, فهي ذميمةُ الأخلاقِ سَتمطِرُ الأغمارُ من لذَّاتِها, سُحُباً تُليحُ بمومِضٍ ألاَّقِ وفي ترحيبه بالموت كمخلص من محبس الدنيا يقول المعري: والروحُ طائرُ محبَسٍ في سجنهِ, حتى يَمُنَّ رَداهُ بالإطلاقِ ويقول مرحباً بالموت الذي ظن أنه الخلاص الوحيد من محبسيه اللذين عرف بهما (العمى والحياة): يا مرحباً بالموت من مُتنظِّرٍ إن كان ثَمَّ تعارف وتلاقِ ساعاتُنا تحتَ النفوسِ نجائبٌ وخدَتْ بهنَّ بعيدةَ الإطلاقِ ألقِ الحياةَ إلى المماتِ مُجرَّداً إنَّ الحياةَ كثيرةُ الأعلاقِ [email protected] رابط المقال على الفيس بوك