كان أبو العلاء المعرّي واسمه “أحمد بن عبدالله” يطلق على نفسه «رهين المحبسين» يعني حبس العمي وحبس المنزل, وربما وجد في هذين المحبسين أو «السجنين» كثير راحة وسعادة. فلقد عزّى نفسه عن عماه, بأنه لا شيء جميل يفوته لينظر إليه - غاية التشاؤم - وهو لا يريد أن يغادر منزله، فلا شيء يغريه في الخارج!!. طوف أبو العلاء المعري, شرقاً ومغرباً, ولعل مكتبة الانطاكية وأديرتها كانت سبباً في زرع نزعة الشك عنده, ولعل تغير القيم الاجتماعية سلباً جعلته يكره الحياة والناس من حوله. والعميان على الغالب مخلوقون يميلون إلى التعقيد, نظراً لما يطرأ على حياتهم من نقص، ولن تجد أعمى غالباً يخلو من عقدة على نحو ما. وكان الرأي - رأي علماء النفس - يذهب إلى أن العميان معقّدون وحاقدون على الحياة. غير أني رأيت بعض العميان متفائلين بالحياة, مقبلين على رغائبها، مبتهجين بما يحدث في الحياة من تغيُّر، حياتهم أقرب إلى السخرية واللامبالاة، من هؤلاء الشاعر العبقري الكبير عبدالله البردوني. قد يقول قائل: إن كثيراً من أشعاره تعبّر عن عقدة العمى, يظهر ذلك في أسلوبه التعبيري الذي يظهر في كثير من قصائده, بل في بعض عنوانات دواوينه مثل «وجوه دخانية في مرايا الليل» و«ترجمة رملية لأعراس الغبار». قلت: ربما.. وعلى معرفتي بالمرحوم البردوني ما رأيته إلا ضاحكاً مازحاً ساخراً. إن الإنسان وبدافع الفطرة كائن اجتماعي, غير أن حب الانكفاء والانزواء والوحدة هي محابس أو سجون لأناس قد لا يكونون عميان البصر, ولكنهم عميان البصيرة، أولئك الذين لا يجيدون إلا العبوس والتكشير، إنهم نسخة من الحراك.. حراك الشؤم والقنوط. إنهم بلا فلسفة كالمعرّي, دون إبداع كالبردوني، هم هكذا خُلقوا ويعيشون!!.