تتراجع القيم في مقابل نمو اللا قيم، في الشارع يصدمك منظر مئات الأطفال يتقاتلون على الأرصفة ووسط الشوارع المهولة بالزحام ، يتشاتمون بنابية مقذعة تخدش الحياء العام ، وبمرور الأيام والشهور يكون قاموس البذاءة والعنف قد اكتمل.. تواجد الطلاب في أزقة الحارات ، وعلى امتداد الشوارع الرئيسية بدلاً عن المدرسة ظاهرة شبه يومية تزداد حدةً أيام الإجازات والإضرابات الشاملة، وهي على انتشارها اللافت تدق ناقوس الخطر، وتعكس مستوى الانحلال الأخلاقي الذي وصل إليه المجتمع ككل ممثلاً بالأسرة، المدرسة، المسجد، إذ بات من الواضح تواري دور الأسرة أمام الجري وراء اهتمامات أخرى على رأسها : البحث عن لقمة سانحة، تأمين السكن، توفير أساسيات الحياة، فيما يكاد يتلاشى دور المسجد كلما أوغل المرشدون والوعاظ في بحور الصراعات المذهبية والحزبية على حساب الوعظ والإرشاد المجتمعي، غير إن الوجع يتعاظم، والمشكلات تتفاقم ويُصاب العلم في مقتل حين يتسلل الفساد من المدرسة، وحين يصبح المعلم مجرد مرابٍ يمارس الابتزاز لتحقيق أغراض ومآرب ضيقة. في الآونة الأخيرة استمرأ بعض المعلمين فكرة لي ذراع المجتمع من خلال الإضرابات التي لا يُعرف لها آخر ، والتي يقومون بها – حد تعبيرهم للضغط على الحكومة وإبراز مطالبهم لها - والحقيقة أنهم نجحوا في ضرب العلم كقيمة ، استطاعوا العبور بالأجيال الصاعدة إلى قاع الإخفاق والفشل الذريع ..!. لنناقش الموضوع من وجهة نظر أخرى ابتداءً بهذا السؤال الاستفزازي ربما : هل يقوم المعلم بواجباته على أكمل وجه ليطالب بحقٍ فائضٍ عن حدود أدائه؟! بالطبع من غير اللائق التفكير بهذا الاتجاه ، لكن المعلم في بلادنا تنازل عن كونه رسولاً وارتضى أن يكون مجرد عامل مشغول بحوافزه وعلاواته وحقه ومستحقاته ضارباً عرض الحائط بحق الأمة عليه. في مدرسة أخي الواقعة في قلب الأمانة يمكن أن تلمس واقع التعليم والرسالة التعليمية المتردية؛ بعض المعلمين يحرضون طلابهم على الغياب قبل قدوم الإجازة بأسابيع، فيما لا يعدم البعض الآخر الوسيلة للتلكؤ والتحلل من التزاماته الأخلاقية تجاه تلاميذه ومجتمعه على حدٍ سواء، اقتربنا من نصف العام الدراسي ولاتزال المناهج والمواد الدراسية على عتبات الدرس الأول وربما الثاني أو الثالث في أحسن الأحوال ، إذن ما الذي يعكسه هذا الوضع؟ ما التحصيل العلمي المتوقع إذا أصبحت العطل والإضرابات أكثر بكثير من عدد أيام الدراسة؟!. نعم يسهم المعلم –للأسف - في تعميم الجهل ، ويشترك في دفع عقول النشء إلى هاوية التفسخ والتشتت والتزام سفاسف الأمور .. يضرب المعلم ..تتوقف الدراسة ..لتتعلق قلوب الصغار بالكرة ، بالانترنت ، بالشارع ، بالتسكع هنا وهناك . يضرب المعلم لتزداد الهوة بين الطلاب وبين العلم كهدف والمعرفة كغاية ووسيلة ، يضرب المعلم لتتحول المدرسة إلى ما يشبه محل اعتقال موقت خالٍ من شروط الدفء والوطنية ، يضرب المعلم لتتحول المدرسة إلى مزادٍ علني يظفر بولائه من يدفع أكثر، يضرب المعلم لتنصرف عقول النشء نحو السلاح ، العصابات ، الجماعات المتشددة ،الإدمان، وأشياء أخرى. حسناً يحدث هذا في أمانة العاصمة وعواصم المدن الرئيسية ، ماذا لو تطرقنا إلى وضع التربية والتعليم في الريف ؟ تجد هناك من أساليب الابتزاز والتحايل إضافةً لما سبق الشيء العُجاب ؛ في الريف إن حضر المبنى غاب المعلم ، والغياب هنا قد لا يكون بالضرورة غياباً حسياً ولكنه غياب بمعناه القيمي ، ومع هذا فكلا الغيابين واقع!. أثناء زيارتي لمديرية صعفان الفاتنة – وهي بالمناسبة مديرية ريفية تابعة لمحافظة صنعاء – اتضح لي أن عدد المسجلين في كشوفات وزارة التربية والتعليم يبلغ 370 معلماً وإدارياً بينما لا يتجاوز عدد العاملين على الأرض ال184فقط وعليه أين ال186المنقطعين؟ باختصار هم إما مغتربون في الخليج، عاملون في صنعاء، رعويون في الحقول والمدرجات، أو قد يكونون موتى من يدري كل شيء بات ممكناً!. أما الموجودون «فعلى البركة» يتواطأون مع بعضهم البعض للتغطية والتستر على سلبيات لا حصر لها ، يستغلون غياب الرقيب لتمرير هشاشة وربما انعدام التأهيل والتدريب. في الريف لا يعاني الطلاب من طول المسافات وحسب بل يعانون أيضاً من بُعد وازع الضمير وتراخي رادع الدولة ، يعانون هجران الكتاب وفراق وسائل التعليم، يعانون انسداد البدائل والخيارات الأخرى التي قد تساعد على انتشالهم من واقع رخو فُرض عليهم.. الأقسى من كل هذا وجود جهات تسيس القضية، وتبارك الفساد، في مقابل صلاحيات شبه مجمدة لشرفاء قلة تتلاشى أصواتهم في وسط أُميّ ينتظر أن تأتيه الحلول جاهزة بلا أدنى مساهمة منه في رفض هذا الانحراف وهذا الفساد، وفيما تقف وزارة التربية والتعليم كشاهد زور، سيظل المحسوبون على التربية يعبثون بها، ويسيئون إلى قداسة العلم ويجازفون بمستقبل الوطن.. رابط المقال على الفيس بوك