أظنكم تتذكرون ما ترتب على عودة المغتربين اليمنيين في عام 90م ، فبعد أن استوعبوا صدمة العودة لم يكن بوسعهم إلا أن يقاوموا حالة البؤس بما لديهم من أموال أو ممتلكات باعوها ليسترزقوا من خير وطنهم .. توزعوا هنا وهناك, وأخذوا يتوغلون في كثير من الأنشطة التجارية, وبدأوا يجدون في هذا الوطن ما يعوّضهم .. وحينذاك لم يكن من الجهات الحكومية وهي ترى ذلك الزخم التجاري الذي أحدثوه في مدينة «تعز» – على سبيل المثال – وجعلوها تعيش عصرها الاقتصادي الذهبي, إلا أن تسارع – أي تلك الجهات الحكومية – إلى ترديد اسم «شارع المغتربين» على جزء من شارع التحرير الأسفل في تعز، ولم يكن الأمر في حقيقته مرتبطًا بتكريم رسمي لهذه الشريحة المنكوبة والاحتفاء بها, وإنما كان الأمر مرتبطًا بكثرة تواجد هؤلاء الناس في هذا الشارع تُجارًا وعُمالاً, حتى أصبح يُعرَف بهم, فقال الناس: «شارع المغتربين», وقالت الحكومة كذلك. لكن «المغتربين العائدين» في هذا الشارع وغيره لم يستمروا على هذا الحال, إذ كان لصراعات النخبة وحروبهم والأزمات الاقتصادية المتراكمة التي ترتبت عليها؛ كان لها أن نخلت المغتربين بالمنخل, هزةً بعد هزة, وأزمةً بعد أزمة, فتساقطوا واحدًا واحدًا, ولم تبقَ إلا رؤوس الأموال التي استطاعت الصمود أو من حصنوا أنفسهم بشراء العقارات .. وأحسب أنه لو زار أحدنا اليوم «شارع المغتربين» لن يجد أحدًا من أولئك, فأنا شخصيًا عرفت بعضًا وسمعت عن بعضٍ آخر أشهروا إفلاسهم, وآلت محلاتهم إلى أناس آخرين. لكن يبدو لي أن الإبهام في كلمة «آخرين» قد لا تُشبع نهم بعض القراء للمعرفة وحب الاستطلاع, فهناك من قد يتساءل قائلاً: ومن هؤلاء الناس «الآخرون» الذين ورثوا محلات المغتربين؟ .. لذلك فإنني – كاتب هذه السطور – لن أتردد في الإجابة, فأقول مستعيناً بالله: إن «الآخرين» الذين ورثوا «المغتربين» في «شارع المغتربين» هم في حقيقة الأمر مغتربون جدد فضلوا العودة الاختيارية قبل سنوات بعد أن اشتدت عليهم المضايقات ولفحتهم نار الإقامة في أرض الاغتراب .. وحين عادوا كان «شارع المغتربين» في انتظارهم, فهو المكان الطيب الذي يحرص على الإفساح لهم؛ لأنه يعلم أن الهجرة لن تطول بهم. إلى هنا أكون قد أكملت حديثي معكم عن شارع البؤساء، ولهذا فمن العبث أن يمنعني أحدكم من المغادرة, قائلاً لي: وكيف هو اليوم حال هؤلاء «المغتربين الجدد»؟!. إن الإجابة موجودة في عدة أماكن, في الحركة اليومية لشارع المغتربين, وفي شاشات التلفزة, وفي الصحف, وفي المنافذ الحدودية .. ولكن لا مانع من أجيب, مستعينًا بالله أيضًا فأقول: إن هؤلاء «المغتربين الجدد» يتجهزون اليوم للرحيل من شارع معجون بالبؤس وجمود الحركة التجارية وتهالك الوضع الاقتصادي للبلد, أي أنهم لابد أن يشربوا من الكأس التي شربوا منها سابقوهم ، وما على هذا الشارع إلا أن يستغل الفرصة – كما هي عادته – لاستيعاب «مغتربين أحدث» تقول الأخبار: إنهم لايزالون في الطريق، وهكذا نبقى في متوالية «مغترب يخلفه مغترب», و«بؤس يتبعه بؤس», و«مأساة تتبعها مأساة» .... وتستمر الحكاية. بطبيعة الحال, لست أدري إلى أي مدى يستطيع «شارع المغتربين» في هذه المرّة أن يستوعب من ينتظرهم, لاسيما أن المغتربين العائدين اليوم بتلك الأعداد الكبيرة, لكن أقول: لا تخف يا «شارع المغتربين», قد يسهل الأمر عليك إلى حد بعيد, فالعائدون اليوم عودتهم قسرية وليست اختيارية, وهم في حالة من البؤس والفاقة لم يصل إليها من قبْلهم, بدليل أن الحكومة تناقش اليوم إجراءات نقلهم إلى مناطقهم وسد رمقهم بما يمكنهم من العودة إلى أهاليهم سالمين, ولا تستغرب يا «شارع المغتربين» إن قلت لك: إنك في هذه المرّة قد لا تحظى بمغترب واحد يحمل دفتر شيكات أو حقيبة نقود .. قد لا تحظى بأحد غيري يزورك كل بضعة أشهر ليقول لك: السلام عليك يا «شارع المغتربين», ثم تنطلق بي قدماي لأتفحص فيك – لا إرادياً - لوحات المحلات وديكوراتها التاريخية بحثًاً عن بقايا مغترب...!. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك