أستاذي الفاضل: من على البعد أبعث إليك برسالتي التي قد لا تصلك، لكن المؤكد انها ستصل إلى غيرك ممن يمارسون مهنتك المقدسة عبر العصور. أتساءل أستاذي: هل لا زلت تذكرني؟ ربما أكون الطالب الوحيد لذي لم تنسه, وكيف تنسى من بنى لك في عقله وقلبه صوراً جميلة لم يصل لروعتها والداه؟ أعتقد أنك تذكرتني الآن, وتذكرت تلك اللحظة التي قمت فيها بتحطيم تلك الصور, وتحويلها لفتات لا ملامح لها, ولا شكل؟. لا تستغرب ولا تنف معرفتك بي، فأنا لم أنسك، وكيف أنسى من غرس في نفسي الفشل ووقف أمام أحلامي المثلى، فحطّمها حتى قبل أن يكتمل بناؤها؟ كيف أنساك وقد نجحت في تلك اللحظة في تشكيلي كما أردت لي أن أكون إنساناً لا جدوى في تتبع خطواته نحو تحقيق الهدف الذي كان يجده أمام ناظريه يملأ الأفق صفاءً ونقاءً. إذا كنت لا زلت مصراً على عدم معرفتك بي فسأذكرك بذلك اليوم الذي مضت عليه سنون عديدة..في ذلك اليوم وتحديداً في امتحان مادتك، وبينما كنا منهمكين نحن طلابك في كتابة ما تمليه علينا من كلمات, كأنها الشهد في روعتها, حتى خيّل إلينا أنك مجموعة من المشاعر الحميمة والطبائع الملائكية, وفي غفلة مني أحسست بيدك كجبل يهوي على خدي ليتبدل في لحظة كل شي حولي.. الكلمات.. الصور.. حتى المكان أصبح مظلماً كقطعة من ليل, لا نجوم فيه ولا قمر, ظل على حاله حتى يومي هذا. صراخك يصم أذني, سمعه من في السماء والأرض, تنعتني بالطالب الغشاش والفاشل, ويدك تجر جسدي الصغير خلفك, لترمي به خارج الفصل. انتحرت الجُمل, وأصبح الكلام في تلك اللحظة بثقل الجبال.. الحروف تخرج من فمي مخاضات الوجع, والغصات في صدري تكاد تخنقني.. تعلقت بقايا العبارات في حلقي وأنا أهمس: لست غشاشاً... لست غشاشاً. كم كان عميقاً ذاك الوجع المترف بالألم, وأنا أضع يدي على رأسي, المنهك والمثقل بإشارات الاستفهام, التي لم أجد لها جواباً. لم أستطع استيعاب ما يحدث لي, و لم أكن أعلم أن التفاتي لأخذ قلم من زميلي, خطيئة سأعاقب عليها بقية عمري.. آه ما أتعس تلك اللحظة التي أفقدتني فيها كل شيء.. الثقة بنفسي، وبالناس، وبالحياة. ما أتعسها من لحظة وأنا لا أستطيع رفع نظري عن موطئ قدمي، ذلاً ومهانة. تستيقظ في نفسي تلك الذكريات, التي لم تبرح مخيلتي لتعذبني، وتقتل معاني الحياة السامية في قلبي.. ذكريات كلما حاولت نسيانها أضرمت النار ثائرة علي.. معترضة, تطالب قلبي بالبقاء, وكانه بدون قائد يدير نبضاته ومشاعره, ليبقى جرحك لكرامتي كإنسان, عصي على ان يندمل، ويظل جرحك رفيق عمري, يكبر يوماً بعد يوم.. ينمو مع كل خطوة أخطوها. في أعماقي بركان يثور كلما لمحت أحد أساتذتي, وكأن جميعهم أنت، كنت كمن يحاول أن يطفئ النار المشتعلة أمامه فلا تنطفئ، بل تزيد اشتعالاً وتدميراً لمن حولها. عجزت من نفض غبار الماضي عن أوراق ذاكرتي وأخذ هدنة مع نفسي.. أصالح فيها ذاتي وأعاملها بالمعروف, وأترك عني هذه الحدة في التفكير، أبتعد قدر الإمكان عن أحكامي التعسفية ضدك, وأمنح قلبي فرصة ليعبر عن أسفه على ما مضى من حياتي, لكنني وفي كل مرة أحاول أفعل ذلك, يتهدم جدار في أعماق نفسي، ويصيبني الوجوم أمام قساوة تلك اللحظة, وعمق معانيها. لم أستسلم, بل اجتهدت، وواصلت الليل بالنهار أحفر في الصخر، وأنقش على صفحة الماء.. حرمت نفسي ملذات الحياة التي يغرق فيها زملائي, لأثبت لك ولهم أنني لست كما ظننتم بي, لكني كثيراً ما كنت أسمع عزف سيمفونيتهم وهي تتفنن في التشكيك بنجاحي, الذي انتزعته من بين أنياب المستحيل. نسجوا حولي الأساطير، أكدوا للرائح والغادي أنهم يعرفون من الحقائق ما يثبت أن نجاحي في حياتي ما هو سوى ضربة حظ عابر، وثمرة غش كنت قد غرستها أنت في عقولهم منذ تلقيت صفعتك على خدي. رغم نجاحي إلا أنك جعلتني إنساناً تغوص ركبتاه في مستنقع ضحل، تشدني أوحاله للأسفل، تغريني بالغرق أكثر وأكثر لتصبح النجاة من الفخ الذي أوقعتني فيه صعبة، والتخلص من أوحاله التي علقت بي مستحيلة. أستاذي: لو قدّر لي ونصبت في قلبي محكمة لمقاضاتك, لما تبقي في قلبي موضع رحمة لك، فكلما ظننت أنني قد سامحتك, اكتشف بأني لم أسامح، وكلما ظننت بأني سأتمكن من الصفح عنك, أجدني لم أصفح، وكلما ظننت أني قد عفوت, أفاجأ أنني لم أعف, بل كنت كمن يحاول الهروب من قدره, فيفوح عبق جرحك, ويعلن الانتقام ثورته, وتبقى أنت القلق الذي يؤرّق مضجعي , ويستأصل الفرح من تفاصيل عمري , ويصبح تجاوزي لذاك الجرح دون خلفيات مؤثرة, وباقيه شيئاً مستحيلاً. لقد أوشكت في لحظة أن أخرج من خصائص البشر وصفاتهم, لكني اكتشفت بأني لم أزل إنساناً, ولربما يأتي يوم ما, تتعافى فيه جروح كبريائي, وأصفح عنك.