ليست المشكلة في فكر سيد قطب رحمه الله أن يكون الإسلام وحده جنسية المسلم ووطنه وقوميته، فالإسلام لا يتنافر مع هذه الدوائر من الانتماءات وولاءاتها؛ ولكن المشكلة في إسلام قطب الذي يرى المجتمعات المسلمة المعاصرة مجتمعات جاهلية لأنها تدين بالحاكمية لغير الله، ويشترط للاعتراف باسلام هذه المجتمعات أن يكون إيمانها شاملاً والتزامها كاملاً وبما يقيم الحاكمية لله وحده كما يراها سيد قطب. في الإسلام نجد تشديداً على هيمنة قيم الدين كمرجعية حاكمة لتصوّر المؤمن وتصرّفه, لخطابه وسلوكه, لعلاقاته ومواقفه, بحيث لا يصدر عنه قولاً وفعلاً ما يخالف ما يؤمن به من قيم وأحكام وفيما يخص الجانب الاجتماعي للمؤمن بالإسلام كإنسان تنتظم صلة الرحم بين الناس في دوائر من الانتماءات القرابية ابتداءً بالأهل والعشيرة وتنتهي بالقوم وبقية البشر، ولهذا ينظمها الإسلام بمرجعية قيمية منها الحق والعدل والإحسان وينهى أن تكون سبباً لاقتراف جرم البغي والعدوان، وهو ما يشمل دائرة الإيمان نفسها، فالإسلام لا يقبل من أتباعه أن يبغوا في الأرض ويظلموا الناس من غير اخوتهم في الإيمان. والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسّلم يحدّد النصرة بين المؤمنين في المروى عنه من جوامع الكلم في قوله: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقيل له: يا رسول الله عرفنا نصرة المظلوم، فكيف ننصر الظالم..؟! فقال: بردعه عن ظلمه». وبالتالي فالمسلم صادق لا يكذب محاباة لنفسه أو الأقربين من أهله، وهو عادل لا يظلم في قوله وفعله تعصباً للأقربين من أهله رحماً أو الأولى له من نفسه ديناً، والمسلم بارٌ بوالديه، مطيع لهما فيما هو خير وبر، ويعصيهما فيما يأمرانه من شر وإثم، مبقياً على المعروف من صحبتهما، وهو كذلك في انتمائه إلى عشيرته وولائه لها وفي انتمائه إلى قومه واعتزازه بأمته في بر وتقوى، لا إثم فيه ولا عدوان. والإسلام بهذا لا ينكر ما هو حق بفطرة الخالق وطبع المخلوق؛ وإنما يهذّب صلة الرحم وعلاقات القربى ودوائر انتماءاتها في عشيرة أو قبيلة أو شعب أو قوم أو لسان، بقيم من الحق والعدل، تجرّم وتحرّم أي بغي أو عدوان، بعصبيات الدم والوطن والقومية أو الدين. فالمسلم لا يتعالى عن الحق بدينه، ولا يستكبر عن العدل بإيمانه، لأن الله حرّم الظلم على نفسه وجعله بين الناس محرّماً، ثم جاءت رسالاته لتؤكد هذا وتأمر بأداء الأمانة إلى أهلها، والحكم بين الناس بالعدل، بل تأمر المؤمنين بالله ورسله وكتبه أن يصبروا على الأذى ويدفعوه بالتي هي أحسن، وأن يعدلوا إذا عاقبوا، والعفو خير لهم إذا قدروا، وهكذا لا يعادي الإسلام صلة الرحم والقربى، ولا يسقطها من حسابات الحق والواجب، فالأقربون أولى بالمعروف، وخير الناس خيرهم لأهله. ولا شك أن سيد قطب رحمه الله يعلم هذا وأكثر منه، ويعلم يقيناً أن اختلاف الألسن والألوان بين البشر، وتفرُّق الناس مع الأصل الواحد في قبايل وشعوب وأمم من آيات الخالق وحكمته في الخلق والأمر، وأن ما تنزّل من أمر الله وحياً لن يعادي أو يلغي ما قام بأمر الله خلقاً، وأن المسلم لن يخرج بالإسلام من دائرة الأسرة والعشيرة والقوم والأمة؛ بل سيكون باراً بها محسناً إليها، أميناً على حقوقها، وإن كانت على خلاف ما هو عليه من إيمان وإخلاص، فلا يجرمنه بغض قوم صدّوه عن المسجد الحرام أن يعتدي، ولا يجرمنه بغض قوم على اجتناب العدل، فالعدل أقرب إلى التقوى، فلماذا ذهب قطب إلى نفي كل صلة للمسلم بدوائر القربى وصلات الرحم واللسان، ولماذا جعل أمر الله في الوحي على قطيعة وعداوة مع أمر الله في الخلق..؟!. يبدو الجواب على هذه التساؤلات محمولاً في الظرف التاريخي الذي عاشه قطب رحمه الله وتأثيرات الصراع السياسي عليه في سنوات المواجهة بين جماعة الإخوان وقيادة جمال عبدالناصر، والتي انتهت بإعدامه عام 1966م. ففي تلك الفترة برزت في العمل السياسي مفاهيم الوطنية والقومية، كمرجعيات فكرية للانتماء والولاء، ولتحديد الأولويات النضالية حينها بتحرير الأرض المحتلة من جيوش الاستعمار الغربي واستنهاض الروح القومية للشعوب العربية في معركة التحرير والاستقلال ومواجهة الهيمنة الامبريالية والاستعمارية؛ وربما لهذا وبسببه تطرّف قطب في رؤيته إلى الوطن والقومية منتصراً لانتمائه السياسي في جماعة الإخوان ضد سلطة بطشت بالجماعة وواجهت نشاطها بالحظر والقمع..!!. تجاهل قطب الأولوية التي للأرض في حياة الإنسان من منظور الإسلام نفسه الذي يبيّن أنها أصل لنشأة البشرية وموطن للاستخلاف والاستعمار والمأوى الذي يصير إليه الناس ويخرجون منه يوم البعث والحساب، وأن الله وضع الأرض للأنام وسخّرها لهم جميعاً مؤمنين به وكفاراً؛ من تعجّل حرثها ناله، ومن أجّل هذا الحرث إلى أخراه ناله، فكل له من الخالق عطاء ممدود غير محظور بسبب الكفر أو الإيمان؛ ولأن الأرض هي الحياة وفيها البقاء وعليها المعاش، وهي موطن الإنسان؛ فإنها تستحق الولاء لها والدفاع عنها باعتبارها مصدر الحق في الحياة والمعاش. والمسلم فرداً كان أم في جماعة؛ لا يعيش ولا يحيا ناهيك أن يعمل صالحاً بغير أرض ودون وطن، وكذلك القومية بما هي لسان مشترك للتعارف والتفاهم يجتمع عليها الناس في أمم وشعوب مختلفة الألسن، ولم تنقسم الأرض ولن تنقسم بين دارين، كما لم تجتمع الأمم ولن تجتمع بين دارين وفي جماعتين، وهذا خلق الله وأمره ولكن أكثر الناس عنه غافلون. [email protected]