يقول تعالى: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) البقرة184. وقد اختلف المفسرون القدامى في المراد بقوله { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } على ثلاثة أقوال: الأول: إن هذا راجع إلى المسافر والمريض وذلك لأن المسافر والمريض قد يكون منهما من لا يطيق الصوم ومنهما من يطيق الصوم. فالآية بحسب قولهم أثبتت للمريض وللمسافر حالتين, إحداهما: أن لا يكون مطيقاً للصوم فيلزمه أن يفطر وعليه القضاء والثانية: أن يكون مطيقاً للصوم لا يثقل عليه فحينئذٍ يكون مخيراً بين أن يصوم وبين أن يفطر مع الفدية. الثاني: أن المراد من قوله :{وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} المقيم الصحيح فخيره الله تعالى أولاً بين بين الصوم والفدية، ثم نسخ ذلك وأوجب الصوم عليه مضيقاً معيناً، القول الثالث: إن هذه الآية نزلت في حق الشيخ الهرم, قالوا: وتقريره من وجهين أحدهما: إن الوسع فوق الطاقة فالوسع اسم لمن كان قادراً على الشيء على وجه السهولة أما الطاقة فهو إسم لمن كان قادراً على الشيء مع الشدة والمشقة فقوله: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} أي وعلى الذين يقدرون على الصوم مع الشدة والمشقة. وقد توقفت كثيراً عند كل قول من الأقوال السابقة لأختار أرجحها وأقواها, بعد أن استبعدت أي نسخ للآية لإيماني بأن كل الآيات محكمة لا نسخ فيها كما بينت في مبحث النسخ. كما لم أقتنع برأي أولئك الذين قالوا إن المقصود بها الذين “لا يطيقونه” بزيادة حرف “لا” إذ تلك الزيادة تحول المعنى إلى ضده، ولو كان المولى سبحانه يريد ذلك لكانت كذلك، لن أطيل في تفاصيل الآراء السابقة ما لها وما عليها, إذ يهمني هنا هو مناقشة بعض القراءات المعاصرة والتي ترى أن الآية تقول بالتخيير للقادر على الصوم بين الصوم والفدية, اعتماداً منهم على الرأي الذي يقول إنها كانت كذلك ثم نسخت, فقد رفضوا النسخ واعتبروا الآية قائمة لكل قادر, وهؤلاء للأسف وقعوا في إشكالين أبعداهما عن الفهم الدقيق للآية: الإشكال الأول: اعتبارهم أن الإطاقة هي نفسها الاستطاعة, ف«يطيقونه» مرادفة ل«يستطيعونه»، وأنا هنا أنطلق من قاعدة عدم الترادف بين ألفاظ النص القرآني وهو ما عليه محققو اللغة قديماً وحديثاً, ولست أدري كيف خالف أصحاب القراءة المعاصرة - كالدكتور شحرور - منهجهم في قاعدة عدم الترادف ولم يبحثوا عن الفرق بين اللفظتين, فالترادف يعني التطابق التام في المعنى رغم اختلاف المبنى, بينما يرى المحققون من أهل اللغة أن كل اختلاف في المبنى يؤدي إلى اختلاف في المعنى, وكل زيادة في المبنى تعني زيادة في المعنى, وإن كان الاختلاف بسيطاً, فكل كلمة لها دلالتها وأن اختلفت قليلاً عما تشبهها.. فما الفرق بين الاستطاعة والإطاقة إذن؟ الاستطاعة والإطاقة كلا المصطلحين جاء ذكرهما في القرآن, ولكن ورود الاستطاعة جاء أكثر باعتباره اللفظ الذي يدل على القدرة للفعل دون أي تكلف أو مشقة, وهو المصطلح المناسب للوسع في التكليف, أما الإطاقة فإنها أتت نادرة, باعتبارها إحدى درجات الاستطاعة, أي تلك الاستطاعة التي يكون فيها مشقة شديدة, ولما كانت المشقة إحدى دواعي التيسير في القرآن بحسب قاعدة المشقة تجلب التيسير, والمستنبطة من استقراء الآيات, فقد كانت الإطاقة في آية الصوم مدعاة للتيسير فيها, ولذا جاءت الفدية كخيار لذلك المطيق بدلا عن الصوم, ثم رغبته في اختيار الصوم على الفدية. يقول الأستاذ الإمام محمد عبده: الإطاقة أدنى درجات المكنة والقدرة على الشيء, فلا تقول العرب أطاق الشيء إلا إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف بحيث يتحمل مشقة شديدة (تفسير المنار ج2ص125).. ويقول الشيخ ابن عاشور: والمطيق هو الذي أطاق الفعل أي كان في طوقه أن يفعله ، والطاقة أقرب درجات القدرة إلى مرتبة العجز، ولذلك يقولون فيما فوق الطاقة: هذا ما لا يطاق ، وفسرها الفراء بالجَهد بفتح الجيم وهو المشقة .. فعلى تفسير الإطاقة بالجَهد فالآية مراد منها الرخصة على من تشتد به مشقة الصوم في الإفطار والفِدْية ..( التحرير والتنوير ج2ص141)، و في النهاية لابن الاثير: كل امرئ مجاهد بطوقه، أي أقصى غايته، و هو اسم لمقدار ما يمكن أن يفعل بمشقة منه (النهاية لابن الأثير 3: 144). وقال : ابن جني : أما عين الطاقة فواو كقولهم : لا طاقة لي به ولا طوق لي به وعليه قراءة (يطوقونه) فهو يفعلونه فهو كقولك: يجشمونه ،أي يكلفونه (التفسير الكبير ج3ص92). وقال الرازي: الوسع فوق الطاقة فالوسع اسم لمن كان قادراً على الشيء على وجه السهولة أما الطاقة فهو اسم لمن كان قادراً على الشيء مع الشدة والمشقة فقوله: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} أي وعلى الذين يقدرون على الصوم مع الشدة والمشقة (التفسير الكبيرج3ص92). هذه لغة العرب وهذا اللسان العربي الذي نزل القرآن به, وهذا نفسه ما عناه المفسرون الأوائل بقولهم أنها نزلت في الشيوخ الضعاف والزمنى ونحوهم، وهؤلاء هم من يطيق الصوم, أي يتكلف صومه، فإذا كانت الاستطاعة هي قدرة الإنسان بين ا- 100 باعتبار أن ما زاد عن المائة خارج عن استطاعته, وتكليف بغير وسعه, فإن الإطاقة هي ما يكون بين 80- 100 من استطاعته وقدرته, فهي أقصى قدرته التي يلقى فيها المشقة رغم أنها داخلة في استطاعته.. الإشكال الثاني: قولهم بالتخيير بعد الوجوب, فقد بدأت الآية بذكر وجوب الصوم “كتب عليكم الصيام” ثم قالوا جاء التخيير “وعلى الذين يطيقونه”. وقولهم بالتخيير بين الصيام والفدية لمن كان قادراً على الصوم فيه إشكالية كبيرة وقعوا فيها, فآيات الصيام في سورة البقرة أوجبت الصيام على المؤمنين ورخصت بالإفطار لذوي العذر والحاجة, فذكرت منهم المريض والمسافر وطالبتهم بالصيام بعد زوال العذر والحاجة ، ثم بعد ذلك ذكرت (وعلى الذين يُطيقونه فدية طعام مسكين) وحسب سياق النص ابتداءً من وجوب الصيام وذكر العذر والحاجة للإفطار يجب أن تكون دلالة (يُطيقونه) هي عذر وحاجة تدفع الإنسان إلى الإفطار، وهذا لا يستقيم مع التفسير بأن (يُطيقونه) بمعنى يقدرون أو يستطيعون عليه لأنه تناقض مع إيجاب الصيام ابتداء على المؤمنين ، فكيف يوجب الله الصيام ثم يرخص في تركه للقادر عليه, فالمعلوم أن التكليف موجّه للعاقل القادر والرخصة في الشرع دائماً للمعذور وليس للقادر المستطيع. إذن لا يصح التشريع بالأمر والوجوب ابتداءً وإنهاء ذلك الأمر بالتخيير في الفعل، فهذا تناقض صريح في فهم النص، مما يؤكد بطلان تفسيرهم لكلمة (يُطيقون) بمعنى يقدرون أو يستطيعون. فالتخيير بعد الوجوب يناقض المنطق واللغة, أما التخفيف بعد الوجوب - وهو ما نخرج به عند فهم الإطاقة بما ذكرت - فإن القرآن استخدمه كثيراً.. فهل يعقل أن أقول: يجب عليكم أيها الناس أن تصوموا فإن لم تريدوا الصيام فادفعوا فدية؟، إن هذا الكلام لا يصح, فوجود التخيير بعد أمر الوجوب يعني تناقض النص وعدم إحكامه. ولو كان المقصود التخيير لكان الأولى والأنسب أن يأتي بصيغة الأمر بالصيام أو الفدية معطوفين على بعض مباشرة. وبعد تحرير معنى مصطلح الإطاقة فإنه سواء كان ضمير الفاعل فيه عائداً على كل المؤمنين الذين كتب عليهم الصيام, أو على المسافرين والمرضى ممن يقدرون على الصوم ولكن بمشقة زائدة, فإنه في كلتا الحالتين لا يفيد بأن هناك تخيير للقادر بين الصوم والفدية, وإنما تخفيف لمن كان الصوم يلحق به المشقة، وبناء على الفهم السابق ل”يطيقونه” فإن الضمير سيكون في الأقرب عائدا على جميع الصائمين, وستكون توجيهات الآية موجهة إلى ثلاثة أصناف هم كالتالي: 1 من يكون مقيماً صحيحاً قادراً على الصيام بلا ضرر ولا مشقة، والصوم واجب عليه. 2 من يكون ضرره أو مشقته مؤقتة بفعل ما كالمريض والمسافر ويباح لهما الإفطار مع وجوب القضاء. 3 من يشقّ عليه الصوم بصورة مستمرة كهرم وضعف بنية ومرض مزمن لا يرجى برؤه، وأشغال شاقة دائمة، وحمل وإرضاع، وهؤلاء لهم أن يفطروا ويطعموا مسكيناً عوضاً من كل يوم، أما من لم يستطع الصوم بأن كان مرضه شديداً ومستمراً فهذا يسقط عنه الصوم ولا شيء عليه, ويدخل ضمن قوله تعالى: “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها”.