قبل عام 2002م كانت تركيا دولة سلبية الوجود لا مكان لها في قاموس الاهتمام العالمي بل من الدول التي يُشار اليها بالبنان كمثل من أمثلة الفشل في العالم حالها كحال بقية دول المنطقة. لم يشفع لها تاريخها العريق الممتد من آلاف السنين والضارب في عمق الحياة منذ زمن غابر متمثلاً في تعاقب مسميات الدول التي اتخذت منها عاصمة ومنطلقاً للسيطرة على ما حولها والتوسع باتجاه أوروبا وكان آخر تلك الدول الدولة العثمانية التي كان لها صولات وجولات وفتوحات لا تزال حتى اليوم ماثلة للتاريخ وما اسطنبول عنا ببعيد،وكما أن التاريخ يحتفظ بمجرياته فإنه أيضاً يبقى للدلالة والذكرى ولا يشفع في الواقع شيئاً. بعد عام 2002م أخذت سياسة جديدة تتحكّم في الوضع هناك راسمة بذلك طموحات وتطلّعات الأتراك لتكون واقعاً يُلامس وجود الشعب التركي وهو ما كان حين اخترقت طلامس الفشل لتصنع منه النجاح معلنة عن تحول تركيا إلى مثال حي للارادة والتميز ليس في المنطقة وحسب بل على المستوى الدولي. بفعل السياسة الاقتصادية المنتهجة أصبحت الجمهورية التركية رقماً صعباً في معادلة السياسة الدولية ودولة اقتصادية محالفة للتقدم وهو ما جعلها تأخذ على عاتقها واجب الدفاع عن المظلومين والمضطهدين في المنطقة العربية كدور إقليمي وجب لعبه لتأكيد أبعاد الارتباط الديني والتاريخي والجغرافي التركي العربي. وقفت تركيا، دولة وشعباً مواقف شجاعة في وجه الاعتداءات الاسرائيلية على قطاع غزة وساهمت ولا زالت في مساعدة سكان غزة وبناء المشاريع التي تخفف من معاناة الفلسطينيين، إضافة إلى تبنّي مشاريع استثمارية في عدد من البلدان العربية الأخرى. ما سبق أثار فعلاً انتباه الشعوب العربية تجاه تركيا بل جعل منها بالنسبة لهم تحمل شعلة الانقاذ للأمة برمتها،تصوّبت عين العرب نحو نجاح تركيا السياسي والاقتصادي وبات المواطنون العرب يعلّقون آمالاً طائلة على القوة التركية في المنطقة وانفتاحها على الجوار العربي وهو ما أثار حفيظة الدول الكبرى ودولاً أخرى في المنطقة ذات امتداد مذهبي وعرقي وفضلة مالية للنيل من الدولة التركية وساهم في تأليب ذلك تأييد تركيا للانتفاضات العربية ووقوفها إلى جانب الشعوب بشكل رسمي وشعبي واسع. ولأن الدول المتحكّمة في مسار العالم وحلفائها في المنطقة لا يريدون لهذه الدولة أن يكبر دورها عن ما هو عليه اليوم فبدأت عملية تقزيمها بإظهار تنظيم داعش الذي وإن تمدّد في سوريا والعراق المتاخمتين لتركيا وهو في الواقع وبحسب معلومات استخباراتية وتحليلات سياسية وعسكرية إنما يُراد منه تركيا وذلك للحد من نشوتها ذات النزعة الاسلامية وانفتاحها على الشعوب العربية وتسهيل الكثير من الاجراءات التي جعلتها تتبوأ مكانة سامية عند العرب وهو الملموس حالياً. إن تمدّد تنظيم «داعش» بهذه السرعة أثار جدلاً واسعاً في المنطقة وهو ما حدا بالدعوة إلى تحالف دولي لمواجهة الأخطار المحدقة نتاج ذلك وإن كان الأمر يتعلّق بتركيا التي تنأى بنفسها حتى الآن عن المشاركة في هذا التحالف - الذي لم يحقق أي انجاز يُذكر حتى اللحظة على الأرض - على اعتبار أنها لا تريد الدخول في لعبة تستهدف أمنها القومي إذا ما نظرنا إلى حال سوريا والعراق الذي لا يبدو أفضل مما كان حيث الاحتراب وسفك الدماء يتسيّدان المشهد من قبل ظهور التنظيم المفتعل. بعد إسقاط المدن السورية والعراقية، المدينة تلو الأخرى وصلت عناصر التنظيم إلى مدينة «عين العرب» القابعة في شمال سوريا على الحدود مع تركيا وهي مدينة ذات أغلبية كردية وهو ما خلق تداعيات داخلية لإرغام تركيا على التدخّل عسكرياً لمواجهة «داعش» بعد فشل أمريكا وحلفائها في إقناع الساسة الأتراك للمشاركة في طلعات جوية على سوريا والعراق. لم يتفاعل الأتراك مع أحداث «عين العرب»، وأدركوا أن ذلك فخ نُصب لهم ليكون عذراً لبدء معركة تنطلق من «عين العرب» صوب الداخل التركي وهو ما تبطله تركيا حتى الآن. إن عدم استجابة تركيا لمدينة «عين العرب» لا يعبّر عن أنها لا تهتم بالشعوب العربية وأقلياتها حيث وأنها اعتبرت ما يدور هناك شأناً يخص دولة وأن ما تنتهجه هو الحد من المظلومية بالصور المُثلى المبنية على السلمية التامة. وهو تأكيد على أنه وإن سقطت مدينة «عين العرب» المعتبرة كمنفذ إلى تركيا بيد «الدواعش» المصطنعين فإن عين الشعوب العربية المنتظرة لدور تركيا الأكثر فاعلية في بلدانهم ستظل مصوّبة نحوها حتى يحدث ما تريد. [email protected]