تتأثر النفس البشرية بالغرائز الطبيعية، والتي قد تفرض على الإنسان سلوكاً غير سوي، في ظل غياب وسائل ضابطة تستند على معايير تحكم الرقابة على سلوك الفرد والمجتمع. وترتبط أهمية الضبط بطبيعة الإنسان الاجتماعية، التي لا يستطيع معها الاستمرار في الحياة وحيداً، وتحتم عليه الانتماء إلى جماعة يستمد منها القوة والأمن والطمأنينة، ويسهم مع الآخرين في تحقيق حياة لائقة. وهذا ما يفسر تكون المجتمع ومراحل تطوره بدءاً بالعائلة، ثم مجتمع القبيلة والقرية، والمدينة، وصولاً إلى المجتمعات الوطنية والقومية والأممية. ويتمثل العامل الحاسم في انتقال المجتمع من طوره البدائي بظهور طوائف وعشائر جديدة متباينة (اقتصادياً واجتماعياً) كنتاج لتقاسم العمل وتراكم الثروة والملكية الفردية، وتنامي مشاعر الظلم والإحساس بغياب العدالة، فتحتم هذه التناقضات على الجماعة وضع ضوابط ذاتية ترمي إلى خفض السيطرة القسرية، بالاستناد إلى مجموعة من القيم، تتمثل في أنظمة وقوانين وأعراف يلتزم بها أفراد الجماعة في نشاطهم وسلوكهم، ويعتبرون من يخالفها مذنباً يستحق العقاب، بعد أن تترسخ في وعيهم الجمعي وتوجهه، وتؤسس بذلك للتنظيم الاجتماعي الذي يعد استقرار المجتمع أهم ركائزه. ويعد (ابن خلدون) أول من أشار إلى مفهوم الضبط الاجتماعي بوضوح، بقوله: “إن الاجتماع للبشر ضروري ولابد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه.. وإن الإنسان بحاجة إلى سلطة ضابطة لسلوكه الاجتماعي، وإن عمران المدن بحاجة إلى تدخل ذوي الشأن والسلطان من أجل فاعلية النوازع وحماية المنشآت.. وتتمثل وسائل الضبط التي تحقق هذه الغاية في: الدين، والقانون، والآداب العامة، والأعراف، والعادات، والتقاليد”. وتتعدد وجهات نظر علماء الاجتماع حول مفهوم الضبط الاجتماعي، ففي حين اهتم (روس) بالغرائز الإنسانية ودورها الإيجابي والسلبي في الضبط الذاتي.. ركز (سمنر) على الأعراف والتقاليد، واعتبرها الوسيلة الوحيدة والضابطة للمجتمع.. بينما أبرز (كولي) دور المُثل والقيم في تحقيق الضبط الذاتي للجماعة النابع من ضبط الفرد لذاته.. أما (لانديز) فقد اهتم بالنظم الاجتماعية باعتبارها أدوات الضبط الاجتماعي.. في الوقت الذي وضع فيه (جيروفيتش) شروطاً لدراسة الضبط الاجتماعي. ويمثل الضبط الاجتماعي واقعاً اجتماعياً، ارتبط ظهوره بتاريخ ولادة التجمعات البشرية ومراحل تطورها.. وتختلف وسائله باختلاف البشر والزمان والمكان.. فقد تكون الطُرق الشعبية أسلوباً رئيسياً عند بعض المجتمعات، ويحتل القانون المرتبة الثانية، وقد يحدث العكس عند مجتمعات أخرى. ويشير مفهوم (أساليب الضبط الاجتماعي)، إلى الطرق والممارسات التي تتحكم في تصرفات الأفراد وتلزمهم بالخضوع للمعايير الاجتماعية.. فلكل مجتمع أساليب ضبط تنظم حياة أفراده وتحكم معاملاتهم وسلوكياتهم كالقوانين والأعراف والعادات والتقاليد. وتتسم أساليب الضبط الاجتماعي بتعدد تصنيفاتها، فمثلاً: يسميها (روس) وسائل الضبط الاجتماعي، وحددها في خمس عشرة وسيلة، مرتبة كالآتي: (الرأي العام- التقاليد- الشخصية- القانون- دين الجماعة- التراث- المعتقدات- المثل العليا- القيم الاجتماعية- الإيحاء الاجتماعي- الشعائر والطقوس - الأساطير والأوهام- التربية الفن- والأخلاق).. بينما صنفها (لانديز) في قسمين، هما: الوسائل الضرورية لإيجاد النظام الاجتماعي، وتشمل: (القيم، والمعايير، والأعراف، والعادات).. ووسائل تدعيم النظام الاجتماعي، وقسمها إلى قسمين: (النظم الاجتماعية، كالأسرة والدين والمدرسة والاقتصاد والعلم والتكنولوجيا.. والأبنية الاجتماعية، كالجنس والطبقة والجماعة الأولية والثانوية).. وحدد (بارسونز) خمسة أساليب للضبط الاجتماعي، هي: (التنشئة الاجتماعية- المقاطعة الاجتماعية - ضغط الجماعة -السجون المنظمة- وقيام المؤسسات والمنظمات).. أما (لابيير) فقد ميز بين نوعين من الأساليب (العملية والفنية)، فحددها عملياً في: (الصحافة والإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح)، وتتلخص فنياً في أنواع (الجزاءات الجمعية والنفسية والرمزية والتوقعية)، التي تكمل تدعيم سلطة الجماعة على أفرادها.. بينما حصرها (جيروفيتش) في: (القانون والدين والمعرفة والتربية والفن والأخلاق). وبغض النظر عن التباين في تصنيفات أساليب الضبط الاجتماعي، إلا أن الإجماع يكاد يكون واحداً على أهميتها، فالنظام الاجتماعي يعتبر نتاجاً طبيعياً لتطبيق المعايير الاجتماعية بفاعلية باستخدام أساليب الضبط الاجتماعي. فما هو المقصود بالمعايير الاجتماعية؟. المعيار الاجتماعي هو مقياس أو قاعدة أو إطار مرجعي للخبرة والإدراك الاجتماعي والاتجاهات الاجتماعية والسلوك الاجتماعي. ويعبر عن السلوك الاجتماعي الذي يتكرر بقبول اجتماعي دون رفض أو اعتراض أو نقد.. فالاتجاهات التي يشترك فيها أفراد الجماعة والتي تيسر لهم سبيل التفاعل والتواصل هي معايير اجتماعية للجماعة.. إنها ضوابط تشبه القوى الطبيعية التي يستخدمها الأفراد دون وعي منهم، وتنمو مع التجربة وتنتقل من جيل إلى جيل دون أن يحدث أي شذوذ أو انحراف في طبيعة الأداء، ورغم ذلك فهي قابلة للتغير والتطور بما يتفق مع طبيعة المجتمع.. باعتبارها نتاجاً لتفاعل الجماعة في ماضيها وحاضرها، وتقع ضمن: الأخلاق، والقيم الاجتماعية، والعادات والتقاليد، والأحكام القانونية والعرف، والتعاليم الدينية، والمثل العليا، التي تنتشر في المجتمع فتكون هي أساس الحكم ومنطلق القياس. وختاماً، نخلص إلى أن الضبط الاجتماعي هو أساس النظام الاجتماعي الذي تحدده المعايير الاجتماعية التي يتم تطبيقها عبر أساليب الضبط الاجتماعي.. تلك هي القواعد التي يستند إليها المجتمع، وتؤدي غرضاً واحداً، هو إمداد أفراد المجتمع بمعاني موحدة يستطيعون بواسطتها أو عن طريقها الفهم والتفاهم والتعامل فيما بينهم، وبذلك تغدو المعايير الاجتماعية ضرورية لكل أشكال السلوك تفسرها وتحكم عليها.. وتحدد ما هو صواب وما هو خطأ، وما هو جائز وما هو غير جائز، وما يجب أن يكون وما يجب ألا يكون، حتى يكون الفرد مقبولاً من الجماعة، ملتزماً بسلوكها، ومسايراً لقواعدها، وحريصاً على تطبيق تلك القواعد وعدم تجاوزها.. بهدف الحفاظ على المجتمع من التفكك والانهيار. [email protected]