لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الريال يخطط للتعاقد مع مدرب مؤقت خلال مونديال الأندية    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    نقابة الصحفيين تدعو إلى سرعة إطلاق الصحفي المياحي وتحمل المليشيا مسؤولية حياته    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    الحكومة تعبث ب 600 مليون دولار على كهرباء تعمل ل 6 ساعات في اليوم    "كاك بنك" وعالم الأعمال يوقعان مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري لدعم الشركات الناشئة    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    مئات الإصابات وأضرار واسعة جراء انفجار كبير في ميناء بجنوب إيران    برشلونة يفوز بالكلاسيكو الاسباني ويحافظ على صدارة الاكثر تتويجا    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    السوبرمان اليهودي الذي ينقذ البشرية    لتحرير صنعاء.. ليتقدم الصفوف أبناء مسئولي الرئاسة والمحافظين والوزراء وأصحاب رواتب الدولار    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدل العقل والغريزة فى تحولات ما بعد الثورة
نشر في المساء يوم 16 - 02 - 2013


أولا فضاء النظام والاستقرار:
ثمة إجماع على أن الإنسان حيوان اجتماعى يميل إلى تأسيس المجتمعات، والاستئناس بحياة الجماعة؛ وثمة إجماع أيضاً على أن حياة الاجتماع هذه أساسها التعاون والتكامل. فالمجتمعات تنتقل من حالة من التضامن إلى أخرى، ومن حالة من الفعل إلى أخرى، ومن حالة من السلطة إلى أخرى، ومن نمط من الوازع إلى آخر، ولكنها فى كل الأحوال لا تفقد تكاملها ولا ترابطها، كما لا تفقد قاعدتها الأساسية من التعاون، فبقاء الإنسان على ما يذهب ابن خلدون -لا يتحقق إلا بأمرين: «القوت أو الطعام الذى يحتاجه جسمه لكى يعيش وينمو، والدفاع الذى يقيه غائلة العدوان؛ وكلاهما لا يتحقق إلا بقدرة الإنسان على الاجتماع والتعاون» ومالم يكن هذا التعاون فلا يحصل (للإنسان) قوت ولا غذاء... ولا يحصل له أيضاً دفاع عن نفسه... ويعالجه الهلاك عن مدى حياته ويبطل نوع البشر» (1).
وتختلف المجتمعات فى درجة ما تصل إليه من تعاون وتكامل بين سكانها، وفى عاداتها ومعتقداتها السياسية وأساليب حياتها؛ ولكن ثمة حاجة ماسة فى كل الأحوال إلى حد أدنى من القواعد المتفق عليها يتأسس عليها العمران البشرى والاجتماع الإنساني، ولعل الصيغة المثالية التى تتجلى فى تطور المجتمعات والحضارات هى الصيغة التى تقوم على التكامل والتعاون بين أفراد مختلفين بالضرورة وبين جماعات مختلفة بالضرورة. وأحسب أن تلك هى الصيغة التى من أجلها بعثت الديانات، وتبلورت الفلسفات الأخلاقية، وقامت الثورات، بل من أجلها قامت ثورتنا المجيدة، ولذلك فإنها الصيغة التى نأمل فى أن نعيش فى كنفها فى مجتمعنا المصرى فيما بعد الثورة المعاصرة. ويتأسس المجتمع فى هذه الصيغة على مبادئ وأسس أهمها:
المدنية: فالمدنية هى بديل عن الفوضى، وليست المدنية بحال بديلا عن الدينية،أو العسكرية أو أى شيء آخر إلا الفوضى. فالمجتمع غير المدنى هو المجتمع الذى لا قانون ولا دولة فيه . إن المدنية تعنى احترام القانون، واحترام إرادة الآخر وأهدافه ووسائله التى تحقق هذه الأهداف طالما أنها مشروعة، واعتبار الدولة فوق الأفراد طالما أنها تحقق المصلحة العامة للجميع وتحرص على الخير العام، والعمل فى تحقيق حد أدنى من القيم الإنسانية والأخلاقية المستمدة من الدين، ومن التراث الفكرى الإنساني. وكل ذلك يمكن البشر من العيش سوياً فى نظام اجتماعى مستقر.
التعددية: تمنح الحياة فرصة العيش المتنوع فى كل واحد. فالحياة متنوعة بحكم تعريفها دينياً، واجتماعياً، وثقافياً، وفكرياً، وسياسياً. وتزيد الحياة الحديثة هذا التنوع تعقيداً. ولا يمكن للمتنوع أن يظل على خصوصيته وإبداعه إذا ما ظل مفككاً غير قادر على أن يحدث « لًمة» للناس، أو إذا ما طل منه فريق يريد أن يصنع «لًمته» الخاصة على حساب الآخرين، أو إذا ما أنكر البعض على البعض الآخر حقوقاً هى لهم بحكم الاجتماع والإنسانية. وإذ يسقط المتنوع فى هذه الظروف، ويحرم المجتمع حق الاستمرار والاستقرار، وهما لا يعاودان الظهور إلا فى «لًمة» الجميع على هدف واحد دون أن يفقدوا تنوعهم.
الثقة: وهى الخيط «اللاضم» الذى يمكن الذوات المتفاعلة من أن تتعايش معًا، يفهم بعضها بعضاً، ويؤمن كل طرف فيها بأن الآخرين يعيشون من أجله لا من أجل أنفسهم فحسب. هنا يؤكد علماء الاجتماع بأن الثقة تعد رابطة عامة تستغرق حياة الفرد والجماعة والمجتمع، وهى الأصل فى تكوين العلاقات الإيجابية البناءة التى تؤسس لراس المال الاجتماعى(2).ولذلك فإن الثقة هى الأصل فى قيم أخرى ليست أقل أهمية فى تدفق السلام فى الحياة الحديثة، مثل قيم التسامح والاحترام والتطوع والانخراط المدنى والانحياز إلى الجمعية لا الفردية، وإلى العمومية لا الخصوصية ، وإلى الإنجاز لا القبلية والشللية. فكلما تعمقت العلاقات القائمة على الثقة بين البشر، وتقلصت مشاعر الشك والريبة والتوجس والتآمر، تدفقت هذه القيم فى شرايين المجتمع.
التفكير العملى والتدبر العقلى: تعيش المجتمعات لكى تنتج فكراً عملياً يطور من حياتها، ويسهم فى رقيها، كما تعيش المجتمعات بإدارة رشيدة قادرة على أن تتخذ من العقل وسيلة للحكم على الأشياء، وأن تتدبر بالفعل أفضل الحلول للصالح العام (لا الصالح الخاص). ويشكل هذان الركنان الأساس الفكرى لإدارة المجتمع. فتلك الإدارة تحتاج إلى مجموعة من القيم والأطر الفكرية الحاكمة التى لا يمكن الوصول إليها، إلا بجهد من التفكير العملي؛ وهو نمط من التفكير قادر على أن يحول المقولات المجردة إلى أفكار عملية يمكن أن تطبق فى الواقع (تؤخذ فكرة مقاصد الشريعة على أنها نمط من هذا التفكير العملى الذى يجتهد فى اشتقاق مبادئ يمكن تطبيقها فى ظروف متغيرة) (3). أما التدبر العقلى فإنه مرتبط بخلق مجال عام ناضج، لا يقوم على العراك والتنابذ، بل يقوم على الاستماع والنقاش والتفاوض والثقة، واللغة الخالية من صور التشوه، والتفاعل الخلاق، وكلها أسس للتدبر العقلى، ولبناء مجال عام يصبح فضاءً حراً للنقاش وتداول الأفكار والتفاوض من أجل بناء القيم التى تؤسس للاتفاق العام والصالح العام.
الدولة الوطنية : وهى وحدة العيش المشترك ، لا فوقها ولا تحتها. أعنى أنه لا يصح تجاوز الدولة القومية برابطة شعوبية عشائرية أو إقليمية أو دينية، كما لا يصح تجاوزها بالدعوة إلى روابط فوق قومية. صحيح أن الأفراد يستطيعون أن ينظموا أنفسهم فى روابط وأحزاب ومنظمات، ولكن من أجل تقوية رابطة أكبر هى الدولة الوطنية، الوحدة الدولية – الإقليمية للعيش المشترك. وصحيح أن قادة الدولة يمكن أن يدعو إلى روابط اقتصادية أو سياسية تعلو على الدولة الوطنية ، ولكنها لا تتجاوز حدود التعاون الاقتصادى والسياسى والثقافى ، وهى تعمل من أجل تقوية وتدعيم روابط أصغر ، هى روابط الدولة الوطنية المشتركة فى هذا التجمع أو ذاك .
وإذا ما رسخت هذه المبادئ فى ضمير المجتمع، وفى عقول الأفراد الذين يشكلون «الأمة»، فإن المجتمع يستطيع أن يحل مشكلة النظام العام: أى أنه يصبح قادراً على أن يبنى الحد الأدنى من الإجماع على القيم والاستقرار الاجتماعي، والاستمرار فى الوجود، والقدرة الدائمة على التكيف مع الصراعات من أجل التجدد الدائم، وخلق تواصل بين الماضى والحاضر، والحفاظ على الهوية الاجتماعية والثقافية، وبناء الذوات القادرة على الإنجاز المتوثبة إلى الفضيلة والعمل من أجل المجموع. والبديل لهذه الحالة هو حالة الفوضى التى لا حدود لها، والتى تدخل فى المجتمع فى دائرة ما أطلق عيه توماس هوبز « حرب الكل ضد الكل»(4). إن هذه الحالة يقترب منها المجتمع إذا ما فشل فى أن يحقق الإجماع على القيم والمبادئ، وإذا فشل فى أن يتكيف مع الصراعات وبقدرة فائقة على التجديد والتحول والتأمل الذاتي، وإذا ما فشلت الذوات الفاعلة فيه أن تتجاوز الأبنية الداخلية للذات المؤسسة على الأنانية المفرطة لتخرج إلى الفضاء الأرحب للجماعة، والمجتمع المحلى، والمجتمع الأكبر. ويساعد على تفشى هذه الحالة أيضًا والاقتراب منها، ندرة الموارد والخوف. وكلاهما يؤدى إلى الآخر. فندرة الموارد تؤجج الحرمان، ومن ثم الصراع على «الخير المحدود» ويفرز ذلك تباعداً وخوفاً وتوجساً وشكاً. كما أن الخوف يولد التباعد فيفسد تقسيم العمل، ويبعث على الفردية والأنانية مما يسهم فى تقليص الموارد، خاصة تلك المرتبطة بنظام تقسيم العمل.
والحقيقة أن النظام لا يكون هدفاً فى حد ذاته . ففى بعض الأحيان يتحقق النظام بالقسر والعسف وظلم البشر للبشر، على اختلاف الأوصاف السياسية التى تعطى لهذه الصورة «القائمة» من تحقيق النظام. وأحسب أن تحقيق النظام بهذه الطريقة يكون له ضحايا أشبه بضحايا الفوضى، ناهيك عن أنه يوقف مسيرة التطور عند النقطة التى يريدها الحكام الطغاة، فيذهب بالمجتمع إلى حالة من شح الموارد، كما أنه يولد الخوف فى نفس الأفراد من فرط العسف والظلم. ومن ثم، فإنه يتحول إلى مجتمع يحقق النظام عسفاً وعنوة، ولكنه يبنى من الداخل على لا مبادئ، فيقرب بأهله إلى وضع لا يختلف كثيراً عن حالة الفوضى.
وفى ضوء ذلك، يمكن القول بأن النظام العام لا يكون هدفاً فى ذاته إلا إذا كان نظاماً عاماً يحقق التعددية والإجماع والثقة والقيم المدنية، وكل ما من شأنه أن يفتح الأفق أمام كل المواطنين للعمل سوياً من أجل الصالح العام. ليس نظاماً مقصوداً فى حد ذاته ذلك النظام الذى تسيطر عليه فئة من الناس (فيدخل فى عداد الأوليجاركية أو حكم القلة أو الطغمة، والتى حذر منها الفلاسفة والمفكرين منذ أيام أفلاطون وأرسطو) وليس نظاماً مقصوداً ذلك النظام العام الذى يؤسس له فرد واحد (فيدخل فى عداد النظم الدكتاتورية أو نظم الطغيان، وهى أبشع صور الحكم وأشدها ظلماً وقسوة) وليس نظاماً عاماً مقصوداً فى حد ذاته ذلك الذى يسيطر عليه حزب واحد (فيدخل فى عداد النظم الشمولية التى تدمج الناس بالقسر والقوة، ولكنها تمنعهم عبر أجهزتها القمعية من أن يتنافسوا أو يكون لهم صوت مسموع)، ولذلك فإننا عندما نتحدث عن الاستقرار والاستمرار، وتحقيق النظام العام بكل أبعاده، فإننا نرنو إلى نظام عام يتأسس على المبادئ العامة للمجتمع الذى يصطبغ بالمدنية والثقة والتعددية ويدبر شئون حياته بشكل ديمقراطى فى إطار دولة وطنية متماسكة. نظام لا سيطرة فيه لطرف على طرف آخر، ولا احتكار فيه للقوة أو الفضيلة أو التدين أو الأخلاق، فكل ذلك قدرات عامة (معممة) تنتشر بين كل الناس ولا يستطع أحد أن يقول باحتكارها، وبالتالى فإنه مجتمع لا يعرف الاستبعاد ورفض الآخر، بل يعرف الاندماج وقبول الآخر، ويؤمن –من ثم- بأن إرادة القوة التى تمنح أصحابها السلطة للحكم والادارة وحتى استخدام القسر الفيزيقى فى حالة الضرورة إنما تستمد شرعيتها من المجتمع وليس من إرادة الأفراد أو إرادة عدد من أفراد المجتمع حتى وإن أجمعت عليهم الأغلبية. إن ماكس فيبر عندما عرف الدولة بأنها «المؤسسة الوحيدة التى تحتكر استخدام القسر والقوة الفيزيقية»(5)، كان يعنى أن الدولة لها إرادة مستقلة تجعلها قادرة على استخدام القسر مع المجرمين والخارجين عن القانون من أجل حماية الصالح العام، ولا يحق لغيرها أن يفعل ذلك. بل كان يعنى أن هذه الإرادة التى تملكها الدولة دون سواها، والتى تسوغ لها استخدام القسر، ليست إرادة مفروضة من قبل فرد أو جماعة أو «طغمة» وإنما هى إرادة شرعية مستمدة من رضا المجتمع بأسره واتفاقه العام.
ثانيا المجتمع (والحضارة).. انكسار الغريزة وارتفاع العقل:
ولكن ثمة قضية أخرى أهم، تتصل بتأسيس النظام العام المؤسس على الديمقراطية والمستبعد لآليات القهر أو التهميش أو الاستبعاد، تلك التى تتصل بالجذر الثقافى –العقلى- فى بناء المجتمع المنظم (ومن ثم بناء الحضارة). والقضية هنا لا تحتاج إلى تفكير عميق: فلنبحث معاً عن العقل، لا فلنبحث معاً عن العقل فى مقابل الغريزة. فترسيخ النظام العام، وبناء القاعدة القوية للاستقرار، هو انتصار للعقل فى مقابل كبح وانكسار الغريزة. فالحضارات - والمجتمعات الناهضة التى تزدهر فيها- هى حضارات تأسس على إعلاء شأن العقل، الذى كان قادراً على أن ينتج أفكاراً عملية لبناء هذه الحضارة، وينتج من ناحية قدرة على التدبر لإدارتها وحوكمتها . وفى المقابل تتراجع الغريزة التى ترتبط بالمشاعر البدائية، والرغبة فى الانتقام، وتحبيذ قوة الجسد على قوة العقل.
إن مقابلة العقل بالغريزة ليس تبسيطاً أو تحليلا ثنائيًا بسيطًا ، فلا العقل يسود سيادة مطلقة، ولا الغريزة تختفى كلية. إنما العقل يسود والغريزة تنكسر. يكون العقل فى الصدارة، وتكون الغريزة فى المؤخرة، ولا تظهر إلا عندما يسمح لها العقل بالظهور. وعندما نقول العقل فإننا لا نقصد مجرد المنتجات الفكرية والتقنية والثقافية والفنية التى ينتجها العقل، وإنما نقصد منظومة حياتية متكاملة تتأسس على العقل والروية والاطمئنان. ومن ناحية أخرى، فإننا عندما نتحدث عن سيطرة العقل على الغريزة، فإن ذلك لا يعنى أن الغريزة لا محل لها من السلوك، أو أنها غير ضرورية. إن الغريزة جزء من التكوين النفسى والشخصى للفرد، وهى التى تحدد الدافعية الفردية وتغذيها، ولكنها عندما تتأجج دون ضابط من العقل فإنها تحدث حالة من الارتباك أو الركام الذى يفقد النظام. إن الغريزة أو «انكسار الغريزة أمام العقل» يعنى عملية تنظيم للغريزة، بل يعنى تويجيه الطاقة الفيزيقية الكامنة خلف الغريزة نفسها لدفع العقل نحو التغيير، وتحويل الطاقة البدنية إلى طاقة عقلية يمكن توجيهها إلى تحقيق هدف معين. ولا أود هنا أن أقدم أمثلة من انتصار العقل عبر التاريخ، وقدرته الفائقة على صناعة حضارات عظيمة. ولكى لا نتهم بالتحيز للحضارة الغربية - أو بأى أوصاف أخرى - فإننى أشير فقط إلى فترة الازدهار فى الحضارة الاسلامية. فعند التأريخ لهذه الحضارة، فلا يكون التركيز منصباً فقط على ما أسهمت به من فتوحات أو توسعات، بل يسبق ذلك ويلحقه الحديث عن الإسهام العلمى والفلسفى والفكرى لهذه الحضاره. وما كان لهذا الإسهام أن يتحقق لولا الركون إلى العقل والانتصار له. فذلك هو الذى جعل هذه الحضارة تستوعب أفكار أرسطو – فى الوقت الذى كان يرفضها الغرب فى العصور الوسطى ويحاربها- وتنسج عليها أطراً فكرية مستحدثة. كما أن الغرب لم يستطع أن يحقق قفزته الحضارية إلا حين استوعب النزعة العقلية والمنهجية المنطقية الأرسطية عبر الفيلسوف العربى ابن رشد. وهكذا تلاقحت الحضارة الإغريقية، مع الحضارة العربية - الاسلامية، مع الحضارة الغربية، لتضع أساسًا للنهضة الحديثة ، ولانتصار العقل الذى عبر عنها شعار ديكارت (1596-1650) «أنا أفكر إذن أنا موجود».
وفى الوقت الذى استطاع فيه الغرب السير فى أفلاك العقل فكراً وعلما وثقافة، استطاع أيضًا أن يتفوق فى إقامة النظام الاجتماعى العام ، أعنى بناء المجتمع وإدارته على نحو ديمقراطى، والحكم فيه على أساس قيم الحرية والعدل والمساواة والثقة والتسامح والتعددية. قد يكون الغرب ظالماً فى النظر إلى الغير، ومتحيزاً فى تعامله مع الشعوب الأخرى .وهذا الحكم صحيح إلى حد كبير ،بل قد أزيد بالقول بأن مسيرته أنتجت حروباً ودماراً (على الأقل مرتين فى التاريخ الحديث هذا إذا ما غضضنا الطرف عن مئات الحروب التى اشتعلت هنا وهناك، والتى انخرط فيها الغرب بشكل مباشر أو غير مباشر). فالحضارة الغربية ليست هى النموذج المثالى – المعيارى الذى أود أن أقيس عليه. فالمقياس عندى هو حضارة نقية يحكمها العقل والتفكير العملى، ولا مكان فيها للحرب أو الاستعمار، ولكن رغم ذلك فإن الحضارة الغربية ماثلة أمامنا، ولا يمكن أن نتحدث عن سيادة العقل وانكسار الغريزة دون الإشارة إليها، والإشارة إلى قدرتها الفائقة على الاستمرار، وعلى تنظيم الحياة الاجتماعية وإداراتها على نحو عقلانى رشيد، يتم فيه تحويل الطاقة الغريزية إلى طاقة عقلية بناءة وإفراز أفكار عقلية عملية لمراجعة النفس والتأمل الذاتى والنقد الذاتى(6).
إن أفكاراً مثل فكرة الضمير الجمعى (دوركايم) ،والأنا الأعلى (فرويد)، والروح الكلية (هيجل) ، وإرادة القوة (نيتشه) ، والمسئولية الاجتماعية (روسو)، والاغتراب (هيجل وماركس) ونورانية العقيدة (سبيوزا)، والعمل كطريق للخلاص الدينى (كالفن) ، والمجال العام (هابرماس) وغيرها من الأفكار لم تكن مجرد ترف فكرى فلسفى، بل تحولت إلى تفكير عملى تجسد على أرض الواقع فى تأسس النظام الاجتماعى العام، الذى يكبح فيه كل ما هو عام كل ما هو خاص، ويكبح فيه كل ما هو عقلى كل ما هو غريزى، وتنتشر فيه المسئولية الأخلاقية وتتحكم فيه إرادة القوة بشكل شرعى، ويفتح فيه المجال العام حرية النقاش والتفاوض والتدبر، ويفهم فيه الدين على أنه مصدر للأخلاق، ودافع للعمل والانجاز، ونور يهدى الله به عباده.
ثالثًا انكسار العقل وانتصار الغريزة.. حالتنا الراهنة:
لا أود أن أوحى إزاء الصورة التى وصفتها، والتى يسيطر فيها العقل على الغريزة أننا - فى ظرفنا الراهن - قد فقدنا عقلنا وانتصرنا للغريزة. فالعقل لا يغيب عن المجتمع غياباً كلياً، وإن تراجع وانكسر فى بعض الظروف، كما أن الغريزة لا تسيطر على المجتمع كلية إلا فى حالة الفوضى العارمة التى لا تبقى ولا تذر حتى وإن بانت وكشفت عن أنيابها فى بعض الظروف. ولقد أطلت فى شرح أسس النظام الاجتماعي، وفى شرح أهمية العقل فى بناء المجتمعات لكى نضع هذه الصورة أمامنا ونحن نتأمل حالتنا الراهنة فى تحولات ما بعد الثورة. وإذا كان لى أن أصف هذه الحالة فإننى أصفها بأنها حالة جدل مستمر بين العقل والغريزة، فى حالات من الانكسار والانتصار، ولكن اللحظات التى تسيطر فيها الغريزة على العقل هى لحظات أطول توحى بأن العقل قد غاب أو يكاد.
لقد بدأت الثورة المصرية فى الخامس والعشرين من يناير 2011 كثورة عقلانية حيث رفعت شعار السلم، وواجهت القوات الحاشدة للنظام بشعارات سلمية، تدعو إلى السلم، وتحددت أهداف الثورة ومطالبها بأنها التغيير، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة، والعيش الكريم، وتندد بالحكام وتصفهم بالجشع والفساد، وتؤكد أن الشعب المصرى متحد، من خلال تأكيد اتحاد الشعب والجيش. وقد كان رد فعل أولئك الذين لم يشاركوا فى الثورة عقلانياً هو الآخر، حيث نظموا أنفسهم فى فرق أمنية (لجان شعبية) لحماية الشوارع والمساكن، ولقد كان هذا سلوكاً عقلانياً من جانب الثوار والشعب. وحتى عندما خرجت الغريزة من مكمنها وبدأت أحداث سلب ونهب وعنف، واجهها الشعب باليقظة أو العقل. وقد استمرت هذه العقلانية لتتجسد فى صور مختلفة من السلوك أثناء الاستفتاء الأول على التعديلات الدستورية (يوم 19 مارس 2011)، وأثناء الانتخابات الرئاسية فى جولتها الأولى (23-24 مايو 2012)، والثانية (16-17 مايو 2012)، والتى صوت فيها أكثر من 23 مليون مواطن. وإذا كانت هذه الصور من العقلانية قد تجسدت فى سلوك الشعب، فإن هناك صوراً أخرى تجسدت فى سلوك النخبة ،خاصة أثناء التنافس على كرسى الرئاسة، فقد كان سباقاً شريفاً، وتنافساً نزيهاً أثبت فيه من زعموا فى أنفسهم القيادة (نعم لم يكن من بينهم قائداً للثورة أو لكتلة جماهيرية كبيرة أو لحركة سياسية محددة المعالم، كما أن الثورة كانت بلا قيادة واعتمدت على حشود نظمت نفسها فى المكان، وفى اللحظة، واعتمدت على فن الحضور الجسدى المستمر والملح والمتكاثر بشكل مطرد) نقول أثبت فيه من زعموا فى أنفسهم القيادة أنهم على مستوى عال من المسئولية فى التنافس، وكشفوا بذلك عن قدر جيد من العقلانية.ورغم أن المشاعر البدائية الغريزية تنفجر بقوة مع تزايد حدة الانقسام فى المجتمع ، وزيادة حدة الحوار ( أو انعدامه ) بين النخب السياسية ، وتراجع هيبة الدولة ، وعدم قدرة أجهزتها التنظيمية والأمنية على ضبط الأمور. ويؤدى هذا الوضع إلى نتائج خطيرة فى مسيرة تحولات ما بعد الثورة ، والسعى نحو تكوين المجتمع الديمقراطى المنظم، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر :
أ. الحيود عن الأهداف العامة لبناء « نظام اجتماعى مستقر « على النحو الذى تم توضيحه فى بداية هذه المقالة. وفى هذا الحيود جنوح إلى بناء نظام غير مستقر، أو بناء نظام مستقر على ضرب من المشقة والكبد على الناس، وعلى السلطة الحاكمة على حد السواء، بكل ما تعنيه كلمتا المشقة والكبد من معان.
ب . يرتبط هذا الحيود بتفجير طاقة الغريزة والانتصار لها على حساب طاقة العقل وحضوره. لقد كادت طاقة العقل التى صاحبت الثورة، والتى كشفت عنها بعض الممارسات اللاحقة، أن تذبل ويصيبها الوهن أمام هذا السيل من الطاقة الغريزية غير المنضبطة ، والتى ترتبط بأساليب ظاهرة للاستبعاد والتهميش.
ج . المزيد من تراكم النزعات العدائية ، والتباعد الاجتماعى . إن الصراع والعنف لا يولد مزيدًا من الصراع والعنف فقط ، بل يؤدى إلى تراكم المشاعر العدائية ويزيدها احتقانا .
ولا شك أن كل من هذه العناصر يرتبط بالآخر ، فالحيود عن الأهداف ، والتحيز يؤدى إلى الانتصار للغريزة والعمل عليها واتخاذها وسيلة لتحقيق الأهداف ،كما يؤدى إلى مزيد من العدوان والعدائية. كما أن الانتصار للغريزة يبعدنا دائمًا عن الأهداف، ويحيل السلوك إلى نوع من التضارب والفوضى والتراكم المستمر لآثارها ونتائجها التى لا يمكن إصلاحها بسرعة. وفى كل الأحوال يغيب العقل وتصبح القدرة على التدبر العقلى والتفكير العملى ( وهما أساسان لبناء الحضارة) ضعيفة.
ولكى لا يكون حديثنا نظريا مرسلا لا معنى له دعونا نتأمل فيما تبقى من هذه الورقة بعض المواقف – فى المشهد المعاصر – التى تشى بكثير من الانتصار للغريزة والانكسار للعقل، كما تشى بتراكم العدوان والعدائية والتباعد الاجتماعى :
1 الأجساد لتعطيل المصالح العامة:
لقد فتحت الثورة الآفاق نحو التعبير عن الرأى ، ولكن حالة التعبير عن الرأى هذه قد تحولت – مع حالة الاحتقان وغياب الدولة – إلى صور من السلوك التى يكاد يغيب عنها العقل كلية، وتحضر فيها القوة البدنية والجسدية، التى تستخدم لحصار المصالح الحكومية ( كما حدث فى حصار مجلس الوزراء ) واحتلال مكاتب الرؤساء، وقطع الطرق، وخطوط السكك الحديدية. صحيح أن بعض هذه السلوكيات هى صيحات غضب وحرمان يرفعها الشعب فى وجه الدولة التى لا تسمعه ، ولكنها تركن فى مجملها إلى أساليب غير عقلانية أو قل إنها تستبدل الغريزة بالعقل، وتميل إلى التفكير بقوة الجسد لا بقوة الإرادة.
2 قص الشعر أم بتر العقل :
وقد نأخذ هنا من حادثة قص شعر التلميذة من قبل إحدى المدرسات، التى رأت أنه لا ينبغى على هذه الطفلة أن تذهب إلى المدرسة مكشوفة الرأس مثالا لأنماط من السلوك بدأت تشيع فى مجتمعنا فى المشهد المعاصر. ومنها أيضًا ضرب الفتيات السافرات ، أو توجيه النصائح الأخلاقية بشكل ينطوى على إهانة الآخرين والتقليل من شأنهم. وتشترك هذه الممارسات جميعًا فى أنها تمثل تدخلا فى شئون الآخرين ، وانتهاك لحرياتهم الشخصية . وإذا ما أخذنا حادثة «قص الشعر» كنموذج حى وظاهر لهذا السلوك العدوانى ، يمكن تأويله على أنه دلالة على محاولة بتر العقل. فبتر جزء من الجسد عنوة ، هو بتر للإرادة، وبتر للنفس والعقل فى آن واحد.
3 تسييج الرأى والحكم العادل :
يتجسد الفعل غير العقلانى أمامنا بشكل واضح فى حصار المحكمة الدستورية (الذى بدأ يوم الأحد 2 ديسمبر؛وهو اليوم الذى كان مخصصًا للنطق بالحكم فى دستورية تشكيل اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور ) . هذا الحصار الذى استخدمت فيه القوة الجسدية لمنع القضاة من إصدار حكمهم العادل ، وأحسب أن هذا الحصار هو رمز لعدم الرضا عن العدل ، وعدم اعتبار العدل العام (العدل بمفهومه الإنسانى العام) وسيلة للحكم على الأشياء ؛ أو قل عدم الاعتراف بالعدل كما يفهمه المجموع، والركون إلى تفسير العدل من وجهة نظر معينة، أو قل رفض العدل كلية . فلماذا العدل إذا كنا نحن نعرف ما العدل ، وإذا كنا نعتقد أن أجساد البشر القوية وعنف نفوسهم وأيديهم يمكن أن تكون بديلة عنه . كما تتجسد هذه الصورة من الفعل غير العقلانى فى حصار مدينة الإنتاج الإعلامى. هذه المرة حصار للفكرة والرأى الحر، ويحمل هذا النوع من الحصار رفضًا صريحًا لحرية الفكر ورفضًا لحرية الكلمة. والأجساد إذ تتحول إلى سياج هنا وهناك، فإنها تسيج العدل والفكر والحرية، وتصنع من الفعل الانفعالى بديلا للفعل العقلانى الرشيد .
4 مجاز الغريزة وبلاغتها:
هنا يتجسد العنف والاستبعاد والتعسف بشكل مختلف ، يتجسد فى مجاز اللغة وبلاغتها . لقد قال الفلاسفة منذ عصور قديمة – وجاراهم فلاسفة المسلمين - بأن الإنسان حيوان اجتماعى ؛ وقيل فى العصر الحديث بأنه حيوان ناطق وعاقل وعامل وكل الصفات الايجابية . أما أن يشبه الإنسان بالحيوان ، وأن تذبح الحيوانات على أسماء بشر بعينهم ، أو تشبيه أحد المعارضين لمسودة الدستور من يؤيدون الدستور بأنهم «خراف»، داعيهم إلى الانسحاب من صفحته على الفيس بوك قائلا « لو سمحت اى خروف عندى يمسح نفسه ويطلع بره مش عايزين خرفان فى الصفحة عندى ». وتتحول اللغة فى بعض صورها البلاغية الغريزية إلى تحريض على عنف كالقول: « يلا يا ... اضرب تانى لسه ... ولسه ...»، أو مخاطبة أحد الأطراف معارضيه بتشبيههم بأنهم أولاد صغار جالسين على «... » ، أو تشبيه البعض لأنفسهم «بالأسود» فى مقابل الآخرين «الكلاب».يتجه خطاب الانقسام ذى النزعة الغريزية (غير العقلانية) هنا إلى استبعاد الآخرين، وتحقير شأنهم (يصل فى بعض الأحيان إلى تهديد صريح لبعض الإعلاميين والفنانين والمثقفين وبالأسماء، وأحيانا بالسخرية والتشبيهات غير المحببة إلى النفس). وعلى سبيل المثال، فقد وصفت مدينة الإنتاج الإعلامى بأنها مكان «للنجاسة»، وأن من فيها يستحق أن يقام عليه «حد الحرابة»؛ كما وصفت بعض الفنانات بأوصاف لا إنسانية، واتهامات لا دليل عليها ولا برهان. وقد وصل هذا النوع من الخطاب فى بعض الأحيان إلى التحريض على القتل، أو الوعيد بالانتقام فى المستقبل. ومثل ذلك الخطاب يبث الرعب فى النفوس، ويزرع الخوف فى العقول.
وإذا غضضنا الطرف عن حجم التشوه اللغوى القائم هنا، وعن حجم التشوه الاتصالى ، وعن حجم العدوانية أيضًا ، فإن استخدام هذا المجاز الغريزى ، وتلك البلاغة الغريزية، يفرغ اللغة – وبالتالى الاتصال – من مضمونها العقلى ، بل إنه قد يدفع الأطراف التى يوجه إليها إلى أن تتخلى عن العقل أيضًا ، وتركن إلى نفس الأساليب إن لم يكن بشكل أكثر قسوة.
5. الغريزة فى المزاج العام للمجتمع:
هذه أمثلة متفرقة من مجليات الغريزة فى حياتنا المعاصرة، وفى مشهد تحولات ما بعد الثورة، ولكنى قد أذهب أبعد من ذلك بافتراض أن هذا الميل للانتصار لفعل الغريزة على حساب فعل العقل يكاد يكون مزاجاُ عاماً فى المجتمع المصري. ولا استدل على ذلك من صور للتفاعل الحياتي، بقدر ما استدل عليه من تحليل مضمون بعض الإعلانات التجارية التى أظن أنها تستمر فى الوجود لأنها تجد صدى فى المزاج العام الذى تخلق أو الذى فى طريقه للتخلق. تقوم هذه الإعلانات على مجاز غريزي، عندما تقدم تشبيهات ومقارنات غريزية صرف . فالقوة( متجسدة فى القوة البدنية أو بسطة الجسم أو القدرة الجنسية) لابد وأن تكون قوة أسد ( أنظر كيف يتحول الطفل إلى أسد ويهاجم أبيه، أو السخرية من الخروف أو ذكر البط أمام القوة الهائلة («الجنسية» للأسد) . ومن ناحية أخرى، فإن القوة تعنى ( الرجولة ) ليس حتى بالمعنى النفسى والاجتماعى للرجولة وإنما بالمعنى الجسدى المقيت،على ما فى ذلك من اهانة للمرأة واحتقار لها. وفى هذا - وغيره كثير - دلالة رمزية على أن العقل قد خرج من الحياة ، وأن الغلبة تكون للأقوى والأعنف ، فى مجتمع كل شيء فيه يؤدى إلى كل شيء ، مجتمع قادر ، كما يذهب الإعلان ، على أن يفعل « كل حاجة والعكس». فى هذا المشهد يستبدل العنف والتعسف والاستبعاد بالعقل والروية والاطمئنان، كما يستبدل المجاز واللفائف اللغوية الغريزية بالتفكير العملى : فتقال الكلمات فى غير سياقها ، وتبرر الأقوال والأفعال بلغة مشوهة، والنتيجة خوف مستمر يزحف على النفوس والعقول ، ونقص فى الموارد يزحف بالجوع على البطون، ويتفاعل الخوف مع الندرة ، فيزحف العنف والفوضى ، وتفقد الدولة هيبتها وأهميتها، فيتحلل النظام الاجتماعى العام، ويدخل الناس فى حرب الكل ضد الكل. وهذه نتيجة لا يحبها أحد ولا يرومها أحد ، حتى أولئك الذين يعتقدون أن تداعيات الثورة لابد وأن تشهد بعض العنف. ولكن الوعى بها والتحذير من مخاطرها واجب وطنى.
خاتمة:
إننا نسعى جميعًا إلى تأسيس مجتمع مدنى ديمقراطى ، مجتمع تكون فيه قيمة المواطنة هى القيمة الأسمى والأعلى, ويكون فيه النظام العام القائم على الثقة والتعددية والانتماء إلى الدولة الوطنية,يكون غاية منشودة. والطريق إلى ذالك قد يكون طريق صعبا، ولكن ثمة درسا حضاريا هاما لابد أن نعيه ولا نحيد عنه مفاده أن العقل أذا غاب عن المجتمع فأنه يحطم نفسه على أصداء الغريزة والانفعال والهوى. وإذا كان الشعب المصرى فى ثورته المباركة قد كشف عن عقلانية لا نظير لها، فإننا فى أمس الحاجة إلى أن تصبح هذه العقلانية سمتا لأفعالنا, جماهير ونخبة. فبالعقل نفكر, ونتصل بالآخرين, ونبنى حضارة, ونتغلب على مشكلاتنا, ونصحح مسارنا, وبالعقل تستمر الحياة.
الهوامش:
1 عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، تحقيق عبد السلام الشعراوى ، الدار البيضاء، 2005.
2 انظر حول الثقة بهذا المفهوم : - J.S.Colman, Foundations of Social Theory, Combridge and Londen : Harvard Unviersity Rress, 1990
3 انظر حول الاهتمام بفكرة مقاصد الشريعة كتفكير عملى ايجابى ، وارماندو سالفاتورى ، المجال العام : الحداثة الليبرالية والكاثوليكية والإسلام ، ترجمه أحمد زايد ، المركز القومى للترجمة ، 2012.
4 أكد توماس هوبز فى كتابه عن الدولة بوصفها أداة قهر هذه المعانى .
5 انظر تعريف ماكس فبير للدولة فى مقالة فى مقاله التالى : M.Weber, Politics as Vocation» .
6 وقد يعّن للقارئ النابة هنا مفارقة تتشكل فى ذهنه مما يذاع حوله من خطاب على تردى المجتمعات المتقدمة، وانخراطها فى الرزيلة (أو قل الغريزة)، ومن ثم غياب العقل والروية عنها. وأحسب أننا قد نفهم ذلك على أنه نوع من الصراخ فى وجه الحداثة لغير القادرين على تملك عقلها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.