في بداية تسعينات القرن الماضي عدت من باريس متأبطاً مجموعة من الكتب من بينها كتيب حملته معي إلى الطائرة لكي أقرأه وكان عنوانه "خمسون مصطلحاً أو مفتاحاً في الثقافة العامة المعاصرة" من تصنيف فيليب فوريست . يذكر هذا الكتيب عدداً لا بأس من الكلمات التي كانت متداولة في ثقافة المرحلة، وهو يصنفها حسب الأبجدية الفرنسية من قبيل: العبث، الفن الحديث، المجتمع الاستهلاكي الدولة، العرقية، أوروبا، الديمقراطية، المثقف، والدين، الداروينية، الليبرالية السياسة، والأيديولوجيا . . . إلخ . ولاحظت أن المصطلح الجدير بالذكر كما اعتقدت في حينه، وهو العقلانية لم يرد ذكره على الاطلاق، كذالك لم ترد كلمات مثل العقل أو الوعي، ولا أظن أن الكلمات الأخيرة قد سقطت سهواً، وإنما رأى المصنف أنه لا مكان لهذا المذهب المدعو بالعقلانية في ثقافة المرحلة، علماً بأنها كانت طوال قرون خلت في صلب المذاهب والافكار الفلسفية، لا بل كانت العقلانية محور ما دعي مادي في تاريخ الوعي الغربي في عصر الأنوار أو التنوير، المقابل للظلامية ولاهوت العصور الوسطى ودوغما العصور الكنسية، لا بل العصور التي سادها نمط من الفكر الديني الاعتقادي في العالم كله . وحيث أثبتت العقلانية جدواها في إحداث النقلة العظيمة في أوروبا إلى الحداثة في الفكر والوجود، وأصبحت قطب الرحى في نظام الحياة، رغم وجود ما نافسها منذ نشأتها ما دعي بالاعقلانية، والمذاهب الفكرية الأخرى المناوئة، ولكنها ظلت تثبت وجودها بكل جدارة واقتدار، خاصة أنها تركز على ما هو أسمى ملكة في الكائن الإنساني أي: العقل . على كل حال لا أعتقد أن عدم ورود هذا المصطلح في الكتيب المذكور نقيصة، ولا يؤخذ على صانع الكتيب إهماله لها، ذلك أن البشر في أغلبيتهم المطلقة وثقافتهم لم يكونوا معنيين لا من حيث الرؤية ولا من حيث النظر والسلوك بالتعويل على العقلانية في المرحلة التي عاشها صاحب كتيبنا هذا، وإلا لو كان الأمر عكس ذلك لورد ذكرها في مصطلحاته وجعلها من مفاتيح ثقافة المرحلة . وننتقل من تسعينات القرن الماضي إلى عقدنا الأول من القرن الحادي والعشرين لنجد الإهمال ذاته ولم يتغير نمط الوعي، اللهم إلا في حماسته للتكنولوجيا وعوالم الاتصالات ووسائلها المتعددة . والملاحظ أن مفاتيح أو مصطلحات ثقافة العقد الأول من قرننا الحالي كثيرة، ومتعددة، ولا تتخللها العقلانية، كما الحال في المرحلة السابقة في القرن الماضي . وإننا نردد في أيامنا هذه رغم إشادتنا الإنشائية، وتقريظنا، ومناداتنا بالتعويل على العقل والعقلانية، إلا أن هذه الدعاوى لا تتعدى الجوانب اللفظية . فالفكر والسلوك في عالم اليوم وخاصة في منطقتنا العربية والإسلامية يعولان على كل ملكات الإنسان وقواه الباطنة والظاهرة، ما عدا: العقل والعقلانية . أو التعويل الجدي عليهما ومحاولة تأصيل، وتأسيس وبناء هذه القوى العقلية . والاستئناس بالتراث العقلاني الانساني . إن ما يرد في أذهان الناس عموماً من مصطلحات، سواء على صعيد الثقافة العامة أو الكتابات المتنوعة هنا وهناك في مختلف وسائل الإعلام من قبيل: العولمة، الدين، والجنس، والاستهلاك، والامن، والثورة التكنولوجية .، مع عزل هذه الاخيرة عن منهج الفكر العلمي، إذ إننا نهتم بالمنجز التكنولوجي، وكذلك وسائل الاتصال الاجتماعي والشبكة، وكذلك مصطلحات: التعصب، والتطرف، والمذهبية والإرهاب، والحرب الأهلية، والديمقراطية، والغريب أنه في ما يتعلق بالمصطلح الأخير، أن العالم بأسره يعيش هاجس الديمقراطية، والقتال من أجلها، ورغم أن هذه ظاهرة صحية، ولكن يغيب عن وعينا إزاء هذا المصطلح الذي يأخذ طابعاً سياسياً محضاً ويجرده من تاريخه وأصوله الفكرية، أي أننا ننسى أن الديمقراطية مشروع عقلاني، والذين أصّلوه في الفكر والسياسة، هم من الفلاسفة والمفكرين السياسيين، وهو ليس من صناعة قادة الحركات الشعبية أو الأحزاب السياسية . لقد أصبحت ديمقراطية اليوم عرجاء، وقد ولدت معاقة في واقعنا السياسي والاجتماعي والثقافي، لأنها لم تتأسس في المنزل، وفي المدرسة والشارع والمؤسسة والإدارة ومختلف جوانب الحياة الفردية والاجتماعية وعلاقات الناس . فالعقلانية رغم غيابها، ورغم أنها مسكوت عنها في ثقافة اليوم الإلكترونية وفي الصراعات السياسية والاجتماعية، إلا أنها هي محور تنمية العقل الفردي والجمعي، وهي تجنبنا الوقوع في براثن الأفكار الشمولية والمتطرفة والمتعصبة . فواقعنا الثقافي مبني على نمط من الفكر الثنائي أو فكر تضادي لا يقبل تعايش الضدين، ولا يبتكر أي طريقة في الجدل الخصب بينهما، من أجل العيش على أرضية واحدة تقديساً لحق الوجود الإنساني . فالأمر عندنا هو إما أن يكون أو لا يكون، إما مع أو ضد، إما حق أو باطل، إما التأييد المطلق، وإما الرفض المطلق، وهذه تجليات لا صلة بينها وبين أي نمط من أنماط العقلانية التي عرفها تاريخ الفكر . وللقارئ الحق في السؤال ماذا تعني هذه السطور بمصطلح العقلانية؟ إنها المقابل للإحساس، والغريزة، والأهواء، وهي لا تعني إهمال هذه الجوانب الأخيرة، بل ضبطها، وجعل العقل سلطة تتحكم في مسيرتها ومواجهة انفعالاتها، فالعقلانية بالمعنى التنويري هي الركون إلى العقل كمعيار، واستخدامه كوسيلة نقد دائم للواقع، ولكل ما يعتري الفكر والوجود والحياة من: أخطاء وذلل، وأخيراً تعني عدم الركون إلى النصوص والمتون التي تؤسس لدوغما فكرية منغلقة على النص وشروحه . فالعقل هو معيار الحقيقة وليس مانعاً من وجهة نظر العقلانية، أن يستدعي العقل: الخبرة والتجربة . إن العقل ينمو ويغتني بالمعرفة وينقاد بالمنهج الصارم المسلح بالمنطق سواء المنطق الشكلي أو الجدلي أو الوضعي العلمي، والخلاصة: نحن أمام تحد كبير يقوم على كيفية صناعة رؤية عقلانية، لحركة وجودنا في: السياسة والاجتماع والثقافة . وبكلمة جد مختصرة خلق نظام حياة يقوم على العقل وتحييد كل ما هو لا عقلي . إن هجوم نمط من الوعي الجماهيري في الواقع العربي وخاصة في الواقع السياسي حدا ببعض الكتّاب إلى القول باستحالة تحقيق تحول هذا الواقع نحو المرحلة التنويرية "هاشم صالح" جريدة "الشرق الأوسط الدولية" - لندن (22-11-2012)، ذلك أن الحياة العربية الحديثة يتهمش فيها المعقول وتميل ميلاً شديداً إلى هيمنة كل ما هو غير عقلاني، وإننا ندفع الآن ثمناً غالياً نتيجة إهمال كافة الأنظمة السياسية في العالم العربي، ومنذ ما سمي بعصر النهضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر للعقلانية في القرار السياسي وعدم بث وتشريب أنظمة التعليم والثقافة والحياة عموماً الروح العقلانية، والآن نحن نحصد مخاطر هذا الإهمال اللهم لا شماتة .