فيما بقيت كثير من النُخب العربية من السياسيين والمثقّفين في وجه خاص على مدى ما يقرب من نصف قرن من الإحباطات وهم يحيلون في جل كتاباتهم وحواراتهم وأحاديثهم إلى ما يطلقون عليها «نكسة 1967م» كسبب للتردّي السياسي العربي والتعطيل للفعل الحقيقي لبناء الإنسان والدولة العربية؛ كانت هناك ثورة عارمة في جنوباليمن هي ثورة الاستقلال من 30 نوفمبر 1967م. وفي حين أن ما زعمته النُخب السياسية العربية ومثقفوها في حال النظر إلى أحداث ما أسموها «نكسة 67م» لم تكن كذلك ولكنها كانت هزيمة لكل النُخب العربية والمجتمعات التي بقيت مرتهنة لمنظومات الفساد الشمولي حتى اللحظة، وكان التعويل قد انصب على هذه وتلك النُخب السياسية والمثقفة الفاسدة والانتهازية في جلّها. غير أنه وفي حين ازداد الهروب نحو التذرع بحدوث «هزيمة 67م» في الحالة العربية في سياق الصراع العربي الصهيوني، فقد كانت هناك ثورة حقيقية في اليمنجنوباً, هي ثورة الاستقلال من 30 نوفمبر 1967م التي نعيش ملامحها ودلالاتها المزامنة بذكراه أمس. كانت ثورة 30 نوفمبر في الجنوب قد استطاعت أن تواجه وتكافح ما اعتبر حينها الاستعمار أو الاحتلال البريطاني، وهي الثورة نفسها التي استطاعت في اليمنالجنوبي أن تصهر في بوتقتها 23 ما بين سلطنة وإمارة وإدماجها في مفهوم سياسي هو الدولة في الجنوب، في حين عجزت ما يسمى في الشمال ب«الثورة الأم» نتيجة كما يبدو لسطوة الأب في بطركيته واستبداده العسكري والقبلي الجهوي؛ أأقول عجزت عن أن توحّد أو تذيب داخلها كدولة مجتمع لا فرد: مكون واحد هو «القبيلة»بنفوذ المشيخات التي تتساقط اليوم، وبينهما المكوّن الاجتماعي للمواطنين الذي بقي حتى اللحظة مستبعداً من الاستحقاقات بالرغم من تساقط مهيمن مراكز القوى أو بعضها كما بنفوذ وتأثيرات تحالفات شتى دأبت في الارتباط بسلطة الجنرال والشيخ والمكفر. وهنا وبصرف النظر عن ما شاب الدولة في الجنوب ما قبل عام 1990 من منظور شمولي الطابع ومن أخطاء بالرغم من تقنّعها بأفق يساري منفتح؛ فقد كانت دولة نظام وقانون، وكانت هناك هيبة للدولة وتقاليد القوانين وشخصيتها في المجتمع على صعيد المحاسبة؛ لكنها كدولة انتهت بحدوث أخطاء دموية فيما تلاها من أحداث يناير 1986م، غير أن تقاليد الدولة في الجنوب بقيت كثقافة لدى وعي كثيرين من الشعب، واليوم يتنامى الوعي بالقضية الجنوبية ومطالبها بعد أن كانت الدولة هناك طريقاً مرسومة الملامح ومخطوطة تم تدميرها بخطأ الاندماج السياسي باسم يافطة «الوحدة السياسية» كوحدة مصالح رسمت بين جهويات وأصحاب نفوذ، وهي كانت في الحقيقة وحدة تمّت دون أية دراسة جدوى ثقافية واستراتيجة تستهدف بناء حقيقياً للإنسان في الشمال والجنوب في آن معاً.