اعتدت في حياتي اليومية وما يعكرها من مشاق أن أدفع بالتي هي أحسن، ودائماً ما تكون النتيجة مرضية وشافية لما يمكن أن يسكن النفس من وسخ الدنيا ودناءتها، وبفضل من الله فإن مساحة كبيرة من العفو والغفران تسكن نفسي التي تأبى أن تحمل الغل على أحد. لكن وبمقابل كل ذلك سواءً لدي أو لدى غيري من الناس فإن قراءة تفاصيل الوجود والسلوكيات وردود الأفعال يجب أن تكون فناً يجيده من لا يستطيع أن تكون الفتنة والنميمة والدخول في أعراض الناس فنّهُ وديدنه، وهنا يأتي دور صناعة المعروف للخروج من موقف النقص إلى مساحة الاكتمال، ومن دائرة الوضاعة إلى مربع التواضع، ومن خلفية التأصيل للقيم إلى مقدمة التعريف بالشيم، فصناعة المعروف ليست فناً وحسب بل هي مبدأ وعقيدة وتربية ومثابرة على التسامق إلى مصاف النجوم. يقول الشاعر: ومن يصنع المعروف في غير أهله يُضرّس بأنيابٍ ويوطأ بمنسم إذاً وكما أن من الحب ما قتل فإن من المعروف ما قتل أيضاً، وقد لا يكون القتل رمزاً للموت بقدر ما هو رمز لانهيار القيم التي من أجلها يناضل البعض حتى الموت.. المعروف أصل من أصول الخير، لكنه فرع من فروع حسن الخلق، لهذا نقول أنه صناعة، لأنه يحتاج إلى أدوات ومواد وأسس وقواعد وأرض خصبة تثمر فيها بذوره لتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ولهذا نقول أيضاً أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، لكن هذا يحتاج منا إلى دراية بطبائع البشر والطريقة التي يصرفون عبرها ما يقدمه إليهم الآخرون من عطاء مادي أو معنوي، فحين نتعرف على من حولنا بشكل جيد ومنصف نستطيع أن نحدد نوع ونسبة المعروف الذي سنقدمه إليهم، وهذا يجعل التبعات المحتملة أقل وقعاً على النفس وأخف تأثيراً عليها, لأن للمعروف أهل يجب أن نقرأ على جباههم أنهم أولئك البشر الذين لا ينكرون الجميل ولا يجحدون العطاء الكثير أو القليل.. وحتى تتوفر لدينا القدرة على قراءة الناس واستشفاف طبائعهم يجب أن تكون أرواحنا مرايا لهم، فمن يستطيع أن يرى وجهه إلا في المرآة؟ وكيف يمكن أن تُرينا المرآة وجوهنا إن لم تكن بتلك النعومة والرقة وأيضاً بوجهٍ واحدٍ فقط؟! نعم يجب أن تكون لنا أرواح شفافة لكن بوجه واحد حتى يستطيع سوانا أن يروا أنفسهم عبرنا ونرى أنفسنا عبرهم ،فالمعروف وأهل المعروف موسومون بالنقاء والطهر والعفاف، ولا أعتقد أن منا من يعجر عن قراءة كل هذا في وجوه هؤلاء إن كان يملك في قلبه مرآة حقيقية.