لم يجرّب أي مخرج يمني قبل سمير العفيف إخراج فيلم عن الحرب، ولا توجد سينما يمنية بأي معنى من المعاني حتى نقول إنه تمّت تجربة هذا اللون أو الموضوع من مواضيع السينما في اليمن أو لم تتم تجربته، ولأنه تم استثناء العفيف منذ أول فقرة؛ فلا بد من التوضيح أن العفيف نفسه لم يجرّب سينما الحرب بشكل مباشر؛ لكنه قدّم فيلماً عن آثار الحرب وتبعاتها، وهذه تجربة جديرة بالتأمُّل في حد ذاتها.. يحكي فيلم “أنا وأنت” للمخرج والأكاديمي الدكتور سمير العفيف قصة قرية تتلقّى نبأ نشوب الحرب في الوقت الذي كانت تحيي أحد أعراسها والناس منهمكون في الرقص والأحاديث والأكل، فيمَا الأطفال مشغولون باللعب، وفجأة يندفع أحد الشباب بينهم لينقل لهم نبأ اشتعال الحرب؛ فتنقلب البهجة إلى نقيضها دفعة واحدة، وينسحب الجميع إلى منازلهم تاركين أواني الأكل في العراء، فيما تتحرّك الأرجوحة وحدها في الفراغ. عقب ذلك تحلُّ الكآبة محل البهجة، فتكتسي السماء بألوان قاتمة، وتبدأ الطيور فيها بالنعيب، فيما الكلاب تلعق دماء مجهولة، والأطفال يستبدلون ألعابهم بلعبة الحرب، وتكاد علاقات البشر أن تدخل في قطيعة إلا من بعض التحايا العابرة التي يؤدّونها وهم على عجلة من أمرهم في سيرهم بلا أهداف أو اتجاهات محدّدة، فيما يكون الليل كئيباً وصامتاً تغرق القرية خلاله في الظلام التام الذي تتخلّله فوانيس كنقاط لا تبدّد أدنى عتمة، وثمة تمتمات خافتة وأصوات قلقة تأتي من المجهول، وريحٍ تعول في رحم الغيب. تتمحور قصة الفيلم حول أسرة من القرية يذهب عائلها ويُدعى"فضل" إلى الخدمة العسكرية، وبعد أيام من وصول نبأ الحرب يصل أحد ضباط الجيش ليبلّغ الأسرة بمقتله في الحرب، وخلال ذلك يقترب من أحد ملابس فضل ويتحسّسها بشغف، ثم يجيب عن سؤال طفلة زميله عن مكان وجود أبيها بأنه في كل مكان، ويجلس أمامها في نفس الوضعية التي جلس بها والدها أمامها عند مغادرته، فتأخذ القبعة العسكرية من رأسه لتعيد نفس اللقطة، وينصرف تاركاً الأسرة في حزنها وبكائها. وفي خلفية القصة تظهر شخصية مجهولة الاسم، يؤدّي دورها نبيل حزام، تتابع ما يجري وتنعكس عليها مشاعر الأسرة وحزنها دون أن تقترب منها، وفي اللحظة التي يغادر فيها الضابط القرية يستوقفه ليسأله؛ بيد أن الضابط يعتذر بسبب انشغاله ويمضي. يعمل الفيلم على البناء الرمزي للحدث، لكنها رمزية لا تظهر إلا للباحث عنها، فخلف كل حركة تبدو عادية يمكن للمتابع أن يفسّر ما يحدث بشأنها كما يروق لمخيلته، أو كما يطرأ عليها حين مشاهدة الحركة أو اللقطة، وعندما يترك أهل القرية الساحة التي كانوا يعيشون فيها بهجتهم، تبقى الأرجوحة على حركتها التي تحرّكها يدٌ خفية يبدو أنها يد القلق الذي يساور الجميع أو الذي يسيطر عليهم تماماً ويؤثّر في حركة الأشياء، وما حركة الأرجوحة إلا إشارة إلى حركة المشاعر المتدافعة داخل أرواحهم التي كانت مطمئنة قبل قليل. وكان من الضروري أن يعمل الفيلم على إبراز التناقضات في أكثر من جهة، فالحرب مثلاً نقيضة السلام، وحدوثها في منطقة بعيدة لا يعني أن القرية ستعيش بسلام، فقد ظهرت آثارها على وجوه الناس بالخوف والقلق، وبرزت تبعاتها لدى الأطفال الذين بدأوا بممارسة لعبة الحرب وتقمُّص أدوارهم كمقاتلين في الجبهات، هكذا تغيّرت أحلامهم وصار لها معان أخرى، فيمَ تغيّرت ملامح الناس وصارت التحية بينهم مكلفة وثقيلة، وتلك هي تناقضات الحياة والموت، الحرب والسلام، الود والجفاء. لكن هذه التجليات وحدها لا تكفي، كان بإمكان المخرج أن يسقط الحرب على واقع القرية، أو يضع صراعاتها في مجرى ما يحدث بين الناس فيها، أن يجلب أثرها ليس إلى العين فقط، وإنما إلى الأذن أكثر، بصناعة حوارات تبحث في عناوين الحرب وجدواها وأسبابها ومسارتها، لكن العفيف أراد أن يجرد الأمر من كل ذلك، وأن يمنح فيلمه القصير مساحة واحدة مكثّفة وشاملة. عملت الرمزية في أكثر من نقطة في المشهد الواحد، فقبل أن تركّز الكاميرا على الأرجوحة المتحرّكة بقلق يميناً ويساراً، ركّزت على أواني الطعام التي تركها أهل القرية فارغة وانصرفوا إلى بيوتهم، وإذا كان الطعام يمنح الحياة، فإن الحرب لم تترك للناس فرصة الاستمتاع به بمثل ما لا تترك لهم إمكانية الاستمتاع بالحياة ذاتها. ويقترب المخرج بفيلمه من وقائع أخرى لم يعلنها صراحة، فكون قصة الفيلم محكية باللهجة اليمنية؛ لا يعني أنه موجّه إلى اليمنيين فحسب؛ ذلك أن القصة يمكن لها أن تحدث في أي مكان في العالم يعيش أوضاعاً شبيهة، ولذلك لم يحدّد في الفيلم أي مكان أو زمان، لكنه اقترب من تداعيات الحدث وآثاره. يصل الضابط الذي يبلّغ أسرة فضل بمقتله إلى القرية على متن سيارة محمّلة بالمواد الغذائية؛ هي إذاً ثمن حياة فضل يدفعها أحد أطراف الحرب إلى أسرته ولا أكثر من ذلك، اكتفى المخرج بالتقاط مشهد السيارة محمّلة بالمواد الغذائية دون التركيز عليها أو ذكرها على لسان أحدهم، تاركاً للمشاهد وحده استشفاف ذلك. يألف اليمنيون هذا المشهد على الواقع تقريباً عند مقتل جندي في المعركة، يحصل أهله - وهذا ليس دائماً - على كمية من الطعام ترسلها مخازن التموين العسكري، تصل أكياس وعلب الطعام إلى منزله قبل جثته التي قد لا تصل، يعود الرجل إلى ذويه مواد غذائية، ليست ثمة رمزية في الواقع، إنهم لا يمنحون أهله الحياة، هم فقط يقدّمون ثمن تضحيته بهدوء تام، لكن العفيف يضع هذا المشهد في فيلمه كعلامة في فراغ كثيف من الأسئلة، ماذا تعني أكياس الدقيق لبشر تركوا أواني طعامهم في ساحة القرية وذهبوا للاختباء من حربٍ بعيدة عنهم. تظهر أكياس الطعام كأنها جثث تحملها سيارة الجيش، الطعام الذي يمنح الحياة، ووجوده في مشهد ما يعني بالتأكيد رمزية ما لتلك الحياة؛ يظهر في أنا وأنت كجثث عائدة من معركة لا معنى لها. تعمل الشخصية التي جسّدها نبيل حزام كقارئ للحدث على وجوه وألسنة أسرة فضل، أو أنه مستقبل لصدى ما يحدث هناك، فكل ما يحدث لدى الأسرة يحدث وقعٌ له في نفسه ويتأثر به بأكثر من طريقة. لكن الفيلم أفسد على نفسه قضيته حين أخبر المشاهد منذ المشهد الأول بمقتل رب الأسرة، واستغرق بقية مدّته لحكاية كيف حدث ذلك وما كانت تداعياته، هنا قتل المخرج عامل التشويق في الفيلم، واجترار الأحداث إلى نهايتها غير المعروفة، لم يفلح العفيف في استخدام تقنية «الفلاش باك» لأن هذه التقنية لا تعني أن تبدأ القصة من نهايتها التامة، أو النهاية التي ليس بعدها أي أثر للتشويق، هي تأتي فقط من أجل المزيد من الحبكة والإثارة، وتبدأ عادة من نقطة ما قبل النهاية المطلقة للقصة، وربما لم يكن ثمة لازمة أو ضرورة لظهور السؤال العادي في نهاية الفيلم: “لماذا حرمتموني من أبي..؟!” فظهوره بدا كنتوء لا معنى له، ليضيف عيباً آخر إلى الفيلم الذي كان تنقصه واقعية أداء الممثّلين الذين ظهر أغلبهم كأنهم يؤدّون في مسرح وليس في فيلم، وإن كانت الطفلة أمل محمود قد أبدت قدرة فائقة في تقمُّص شخصية الفتاة وتجسيدها. الفيلم من سيناريو وحوار الدكتور سمير العفيف وبطولة الفنان نبيل حزام، ذكرى أحمد علي، حسن بخيت، علي اليافعي، أحمد جحزة، والطفلة أمل محمود.. إدارة تصوير أحمد جحزة, إضاءة عبده السماوي, مونتاج أيمن المخلافي, مكياج سميح العجمي, والفنان نادر المذحجي مدير عام الإنتاج.