إنه نهار متوهج من شهر يوليو، أحد أشد أشهر الصيف حرارة، حيث يلف المكان هواء خانق يكاد يكتم الأنفاس.. هو أحد الأماكن في الريف اليمني، ذاك البلد الذي تتسع فيه دائرة الفقر، بسبب الأزمات السياسية المتواترة وغياب التنمية، لتزداد أفواج العاطلين عاماً بعد آخر.. حينها كانت العجوز الثكلى ترقب ما يحدث بقلب مكلوم وعيون دامعة حزينة...!! كانت شارفت على السبعين من عمرها، بعد ان تخلى عنها الجميع. الزوج غيبته يد المنون والأبناء كل ذهب لحال سبيله، وحدها الأرض ظلت لصيقة بها تبادلها الوفاء بمثله ولم تتنكر لها كالآخرين .. وهي كأسلافها عاشت لا تعرف من الحياة غير أرضها بل الأخيرة هي الحياة بذاتها، يأتي الآخرون ويرحلون وتبقى لها الأرض، كل يحنو على الآخر. تستيقظ مع خيوط الفجر الأولى لتفي بمتطلباتها، تعني بها وتزيل عنها الحشائش الضارة، تحرث ظاهرها لترمي في جوفها البذور، وبعد أن تجود السماء غيثاً يروي ظمأ الأرض، ويستحيل وجهها البني الكالح إلى الأخضر الجميل، ترنو العجوز إليها عبر نافذة دارها العتيق، فيمتلئ قلبها بالحبور وتشعر بالرضا والطمأنينة، فلديها الآن ما يسد رمقها لأيام طويلة قادمة ويكفيها شر السؤال والتذلل إلى الناس. في ذلك النهار الكئيب، سمعت العجوز أصواتاً وجلبة خارج دارها، وعندما أطلت برأسها رأت آلة معدنية (جرافة) تبتلع أجزاء من أرضها في شراهة وجنون.. هالها المنظر، فخرجت تصرخ كالملدوغ، محاولة إيقاف ما يحدث.. غير أن ابنها منعها بقسوة حائلاً بينها وما تريد.. كان قد عاد حديثاً من المدينة، لبناء سكن على ذات الأرض الزراعية التي ورثها عن أبيه...وكانت عندما أخبرها برغبته تلك، هاجت واعتراها الغضب، خاصة والقرية ملأى بالأرض القفر، غير أن غضبها لم يردعه، فهو كالكثير من أترابه لم يعد يدرك قيمة الأرض والزراعة في بلاد أدمنت الهبات والمساعدات. وحدها العجوز من بين ذلك الجمع الغافل الذي كان حاضراً تعي خطورة ما يحدث، لذا كان ما تراه موجعاً، وهي التي رغم تقدم سنها كانت قادرة على حماية أرضها من كوارث الطبيعة وغدرها، غير أنها وقفت مشلولة عن أن تدفع عنها أذى الإنسان، فكيف إذا كان هذا (الإنسان) بضعة منها .. حينذاك فقط شعرت بالعجز وكم هو قاسٍ ومؤلم. وفي المساء عندما عادت إلى البيت خائرة القوى، حاولت النوم فلم تستطع، كان صوت كشط وصرير الآلة لا يزال يتردد على مسامعها كأنما سكاكين تنغرز في جسدها الواهن الضعيف، وتبدى لها أن الحياة أضحت مستحيلة.. وهل ثمة حياة بعد الأرض؟! [email protected]