طفل بعمر زنبق , وزنبق بروحانية ملك , وملك يمشي على الأرض هوناً , يطلع مع هلال رمضان , فيبقى سرمد الدهر في سماء المدينة يحدثها عن ضوئه البازغ , يتورد كالصبح انبلاجاً , وكالقمر بزوغاً , يتهلل وجهه بشغفٍ لا يعرف الانطفاء , وتفيض عيونه ببراءة لا مثيل لها .لكن زكريا لم يعد كذلك الآن , لقد طحنته الحياة بكل ما فيها من آهات , وما يعج بها من تناهيد الوجع , ساقته همومها لتحمل المسؤولية قبل الأوان , ونفثته إلى شارع هائل في العاصمة صنعاء , لا لشي إلا ليفتش عن قوتٍ ما , يقتاته في يومه ليستمر في عروقه جريان الحياة , وتمر في تعاريج عمره الذي لم يدرك ماهيته حتى الآن .كبرياء نفس زكريا حال دون تسوله الموت , فلم يمد يده لأحد , ولم يتذلل لبشر , بل تحمل المشقة وسعى لها , ولم لا ؟؟ وقد قرر في أحسن الحالات أن يقترف التجارة , ولو ببيع نقشة حناء ربما ترسم على وجه أحدهم معنى الحياة .زكريا الذي بدا لي عجوزاً في التاسعة من عمره , ببراءته المعهودة والتي يوزعها بالمجان , وببسمته اللذيذة التي تخفي وراءها الكثير , أكد لي أنه سابع إخوته لأب يفرض عليه أن يقوم بهذا العمل , ومع هذا لا يفتأ أن يشمر عن ساعده طالباً للرزق في شهر الخير , فعكف يطوف من أقصى الشارع إلى أقصاه , يبيع للصبايا ما يزينهن من نقوش ولو بمبالغ زهيدة .ظن زكريا أن رمضان هو موسمه الذي سيجني فيه الكثير , لكنه تفاجأ بحالة السوق الراكدة على غير عادتها هذا العام , ومع تنهيدة مؤلمة يخبرني أن 400 ريال ( دولاران فقط تقريباً ) هي كل ما يجنيه في يومه , هذا اليوم الرمضاني الذي يقضي ليله بنهاره في مهمة شاقة , يطوف مفتشاً عن رزقه الحلال , لكنه لا يجد إلا القليل , ما يجعله يجلس القرفصاء ليتقيأ الألم في وجوه العابرين .لقد أصبحت بين زكريا ومعه الكثير من أمثاله والشارع علاقة لا يمكن لأحد أن يخبر بأخبارها , كيف لا وهنا قوته الذي حرمه طفولته التي لم يرها قط , وهنا أيضاً دفن كل أحلامه البسيطة , وعاش شيخوخته المبكرة , فماذا تبقى من إنسانيتنا اليوم لنمنع عمل الأطفال , ونجعلهم يعيشون حياتهم كما ينبغي ..على الأقل في شهر الخير.