باريس سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    مذكرات صدام حسين.. تفاصيل حلم "البنطلون" وصرة القماش والصحفية العراقية    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    كيف حافظ الحوثيون على نفوذهم؟..كاتب صحفي يجيب    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    قيادات الجنوب تعاملت بسذاجة مع خداع ومكر قادة صنعاء    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العلامة الشيخ "الزنداني".. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    على خطى الاحتلال.. مليشيات الحوثي تهدم عشرات المنازل في ريف صنعاء    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التصاهر والتزاوج بين اليمانيين والقريشيين
هذا هو تاريخ اليمن (الإرهاص)
نشر في الجمهورية يوم 18 - 12 - 2006


د. عبد الله علي الكميم ..
تناولت موضوع اللغة، والكتابة من حيث النشأة في المجلد الأول من مؤلفي هذا، ولكني مررت عليها مرور الكرام، وأجَّلت الخوض فيها بإسهاب لهذا الذي خصصته للغة اليمنيين وكتاباتهم التي أعتبرها كما يعتبرها الكثير من العلماء والكتاب وفي مقدمتهم العقاد أصل لغات الساميين وكتاباتهم، وهي لغة القرآن، وخط المسند هو خطه أيضاً كما ستثبت هذه الدراسة، إن شاء الله.
سأتناول هنا معنى اللغة والكلمة مستعيناً بأهم المراجع المتيسرة مرتبة زمنياً ما أمكن.
كانت هذه هي القضية الأولى التي أثبتها باستدلاله الهادئ الأستاذ نور (رئيس نيابة مصر) في بحث علمي صادق أجراه، ثم لا يمضي إليه إلا بعد ثقته بأنه قد حصل على اعتراف محاوره بسلامة الأساس الذي أقامه عليه، وهو أن اللغة التي تعلمها إسماعيل من جرهم لغة قديمة قد مضى على تعلمه إياها ما يزيد عن ألفي سنة، خضعت خلالها للتطور والتبدل الطبيعيين في بيئتين مختلفتين: الأولى الحجاز، والثانية اليمن، فتحولتا بحكم اختلاف البيئتين، وبحكم اختلاف الأحداث التي نزلت بحياة الشعبين ابني الأصل الواحد، تحولتا إلى لهجتين متباعدتين، مهما زاد بينهما هذا التباعد، فإنهما كانتا من أصل واحد يوم تعلمهما إسماعيل الشمالي الأصل من جرهم الجنوبية الأصل، فاتخاذ المراحل الأخيرة من صورتيها وما فيها من خلاف أساساً للحكم بتزييف تاريخ قديم وجد قبل وجود هذا الخلاف عمل غير علمي ومنهج فاسد).
وجدير بي أن أتابع هذا الأستاذ الجليل (نور) في طريق استدلاله فأنظر إلى القضية من زاوية المثل الذي أثاره طه حسين نفسه، وكان أولى به أن يهرب منه، وهو:
1- هذه اللغة السريانية التي أشار صاحبنا إليها، وإلى التفاوت الواقع بينها وبين اللغة الفصحى، وقدمها نموذجاً ومثلاً للخلاف القائم بين الحميرية والفصحى. أليست هي والفصحى تطورا عن أصل واحد هو اللغة السامية الأم، هو الذي تطورت عنه الحميرية والفصحى والحبشية جميعاً؟.
2- هل منع هذا الاختلاف الذي نزل بالفروع بعد أن انعزل كل منهما في بيئته التي قر بها أهله أن يكون أصل لغتهم واحداً، وأن يكونوا جميعاً قد برزوا من أصل واحد.
3- هل اعتمد علماء اللغات على هذا الخلاف للخروج إلى القول بأن هذه اللغات لأقوام يبرأون عن الأصل الواحد الذي ينسبون إليه؟ أو إلى أن هذه اللغات بحكم ما بينها اليوم من خلاف لا ترجع إلى أصل واحد؟
لم يقل أحد منهم هذا قط، بل إنهم قالوا: أن هذه الشعوب كلها من أصل واحد، وأن هذه اللغات كلها بنات أم واحدة، هي اصطلاحاً السامية الأولى، وبعضهم يقول بأن الفصحى هي هذه اللغة الأم.
وكان اعتمادهم في الخروج إلى هذه النتيجة هو لمح (وجوه التشابه) مع قيام وجوه الخلاف الواسعة بين هذه اللغات ذهبوا كلهم، وهم العلماء عند طه حسين، مذهباً ذهب هو إلى نقيضه وخرجوا إلى نتائج أراد هو أن يخرج إلى عكسها. أثبتوا القرابة والنسب، وأراد هو أن يخرج إلى القطيعة والإنكار، ورتب على الخلاف الحاضر إنكار قضية من أخطر قضايا التاريخ والدين خطأ وجهلاً.
وقد أدرك الأستاذ (نور) بقوة أن أصل هذا التردي هو الجهل، والرجل كيِّس، رائع الأدب، فراح يلمح ولا يصرح. يقول في آخر فقرته الماضية: (والتشكك بغير دليل طريقة سهلة جداً في متناول كل إنسان عالماً كان أو جاهلاً.
ويمضي البهبيتي في تحليل نصوص المحاكمة قائلاً: ولكنه كان قاضياً محققاً، فمضى عجلاً إلى هدفه من كشف حقيقة الجهل الماثل وراء كل ادعاءات العلم والبحث العلمي الحديث، أشار إليها في تهكم من عباراته الماضيات.
كان الرجل يريد أن يقف على ما عند طه حسين من علم حقيقي بهذه القضايا التي اتخذها مرتكزات للهجوم على أقدس مقدسات الإنسان.
فإذا بالعالم يضطرب وتتزلزل الأرض من تحت قدميه، ولكنه يأبى إلا الاحتجاب وراء التلويحات العامة الواسع العريض، الذي يشرك نفسه فيه مع القدماء دعوى كاذبة، ومع المستشرقين، ولأول مرة نجده يتشبث بالمستشرقين وعلمهم في محاولة يائسة للوقوف على قدميه، فيسقط فيما هو أبشع وأدل على الجهل والإدعاء. !!
ذلك أنه لجأ إلى التعميمات فذكر لغة حمير التي درست ووضعت لها قواعد النحو والصرف والمعاجم، وكيف أن هذا كان شيئاً غير معروف قبل الاكتشافات الحديثة.
ومن الطريف الظريف في هذه المناسبة أن المعجم المعتمد عليه في تفسير النقوش الحميرية التي عثر عليها كان هو المعجم العربي نفسه، لم يوضع لتلك اللهجة معجم خاص بها فضلاً عن المعاجم (بالجمع). أما كتب القواعد والتصريف التي يتحدث عنها فكانت حتى ذلك العهد لا تزيد على كتيب صغير جداً لا ترتقي صفحاته إلى العشرين صفحة فيما أذكر، فليس الكتاب بين يدي الآن. وهو للمستشرق جويدي.
والقواعد المدرجة في هذا الكتاب لا تتجاوز أداة التعريف وأداة التنكير، ولا يقدم الكتاب في الواقع أكثر من صورة للحروف اليمنية القريبة التكوين جداً من الحروف العربية التي تعرف باسم خط الجزم.
ولا أكاد أرتاب في أن الرجل الذي بحث موضوع الكتاب الطهوي بمثل الدقة التي بحث بها الأستاذ (نور) الكتاب، ورجع في سبيل التهيؤ له إلى ما رجع من أصول ومصادر، قد اتصل بهذا الكتاب وعرف بالمكايدة أين تقع الحميرية من العربية الفصحى، بل لعله اتصل بها كذلك عن طريق الدارسين المصريين المتخصصين في هذا الفرع من المعارف القديمة، وقد جربت الأمر بنفسي بعد أن فارقت عهد الطلب بزمن قصير فقرأت بعد قليل من ساعات العمل في هذا الكتاب جميع النصوص التي كان الدكتور يحيى ناجي قد أدار حولها موضع رسالته الدكتوراه، ونشرها، قرأتها بعد أن أهداها إلي.
ونور ليس أقل مني إن لم يكن أكثر. فلا غرابة إذا كان الرجل قد أدرك هذا التهافت والصخب. يدق طبل أجوف. ثم إن طه حسين في التجائه إلى مقارنة بعد ما بين الحميرية والفصحى ببعد ما بين السريانية والفصحى، كان يقدم الدليل على سقوط نظريته (إن أصررنا على إعطاء هذا الخلط اسم النظرية!!) بينما هي ليست له كما أنها لا تنطبق على الحالة الموصوفة!!.
وما كاد طه حسين يصل إلى ختام إجابته حتى كان قد انتهى إلى أقصى درجات المغالطة، فلقد كان يكفي في الإجابة على سؤال رئيس نيابة مصر بيان بعض الأدوات المتخالفة مثل أداتي التعريف والتنكير، وموقع أداة التعريف في الحميرية في آخر الرسم مقابل وضعها في الفصحى في أوله. وكان يمكن أن يقدم مثلاً لاختلاف معاني الألفاظ لفظ: (ثب) أو شيئاً من ذلك مما ورد في المعاجم العربية.
غير أن طه حسين لم يكن يعرف حتى هذه البسائط الأولى، لأنه أخذ كل ما عرف من هذا الذي قاله من غير أصل، إلا ما يشبه الشائعات من المعارف الأولية في الموضوع. فراح يغني بما شاء، متصوراً أنه إذا كان قد عرف، وهو لا يعرف هذا القدر، فإن المختصين لابد أن تكون بين أيديهم المعاجم، وكتب القواعد التي أظنه تصورها على ندرة كتب قواعد الفصحى، ضخمة وممتلئة، والنصوص التي ظنها طبعت في تلك الأيام لم تكن تزيد على أصابع اليد إلا قليلاً، فظن أن ما نشر منها وترجم قد ملأ الدنيا وشغل الناس.
لذلك جاء رده غريباً فقال:
فأما إيراد النصوص والأمثلة فيحتاج إلى ذاكرة لم يهبها الله لي ولا بد من الرجوع إلى الكتب المدونة في هذه اللغة.
ولكن (نوراً) لم يفلته فقد عرف أنه قد قبض آخر الأمر على فريسته، فأحكم القبضة، يقول له في أدبه الجم: هل يمكن لحضرتكم أن تبينوا لنا هذه المراجع أو تقدموها لنا؟
ويأتي جواب الرجل الكاشف عن حقيقته.
أنا لا أقدم شيئاً.
وكأن نوراً قد خشي أن يسقط طالبه في الامتحان، فقدم له (الملحق المنقذ) بأن ترك له حق الرجوع في داره أو في المكتبة العامة إلى نفسه أو إلى خبير يتم له ما عجز عن الإتيان به، فإذا به يلقي بيد اليائس فرد رده: أنا لا أقدم شيئاً!!
وكان جديراً بالقاضي عندئذ أن يقنع، وأن ينتهي على أدبه الغزير إلى الحكم بأن الطالب الكبير قد سقط في الامتحان!!
فقال قولته التي مرت بنا وتضمنها قراره: وأما عن الدليل الثاني فإن المؤلف لم يتكلم عنه بأكثر من قوله: ولدينا الآن من النقوش ما تمكننا من إثبات هذا الخلاف. فأردنا عند استجوابه أن نستوضحه ما أجمل فعجز.
ويسترسل البهبيتي: لقد كان للأستاذ وكيل النيابة (النائب العام) قدرة خارقة من قدرات العمل القضائي، فإنه لم يعتبر نفسه مسئولاً عن حمل المؤلف على رائع اختياره للاسم على الاعتراف الكامل بأنه مدعياً للعلم، جاهلاً بما زج فيه من قضايا التاريخ والأدب واللغات. داخلاً على ما ليس له فيه بعناوين من المعارف لا تكفي طالباً مبتدئاً، ولكنه اعتبر نفسه كذلك مسئولاً عن تحقيق القضايا العلمية الخطيرة التي تعرض لها هذا (المؤلف) الفج، فرجع إلى المراجع الأصلية التي لم يرجع إليها الأستاذ الجامعي، ووازن وقارن وقاس، واستدل، وانتهى إلى وضع الأمور في مواضعها الصحيحة، وأبرز الأخطاء الصارخة في الاستدلال.
ومن أجمل ما رأيته في قياساته الفقهية تنبهه إلى التحوير المقصود الذي أصاب به (المؤلف) نص ابن سلام الأول، الخاص بلسان حمير وأقاصي اليمن، وتنبه إلى وجوب الربط بين دلالتي هذا النص من أقوال أبي عمرو بن العلاء وبين دلالة نصه الثاني الذي نسب فيه العرب كلهم إلى إسماعيل إلا حمير وبقايا جرهم. وحجته في ذلك فقهية صحيحة. وهي أنه ما دام المروي عنه واحداً والراوي واحد فإن محاولة المؤلف الخروج عن أحدهما بحكم يناقض ما جاء في الآخر خطأ يسقط النتيجة والحكم. وفيه الدليل على أن المعنى الذي ذهب إليه المؤلف طه حسين انحراف بمقصد الرجل الذي يفسر بعض كلامه بعضه، ولو أن أبا عمرو بن العلاء قصد بعضه الأول إلى معنى يريده إلى نقض الثاني. ويمثل ما ذهب إليه طه حسين لمحاً واحداً من اليقين، فالرجل لم يكن من صنف الرجال الذين يقعون هذا الموقع من العلم أو الفضل أو الذمة أو الخلق.
ويختتم البهبيتي كلامه بالقول:
والواقع أن طه حسين قد تربى في الصحف، وعاش بها وفيها وبأساليبها في العمل في تلك الأيام. ومن هذه الصحف وعلى طريقتها حصل ثقافته، وفيها قدم للناس ادعاءاته العريضة بالعلم الذي فشل في تحصيله في الدراسة المنتظمة. فسقط (في عالمية العميان) بالأزهر حين كان موضوع الامتحان مواد صلبة محددة مطلوب من الطالب تحصيلها حتى ينجح.
كما سقط في الامتحان بين يدي وكيل النيابة حينما بلغ النقاش مستوى التحصيل الفعلي للأساس الذي بنى عليه ادعاءاته، وعندما جاء به الرجل إلى مرحلة الابتلاء الصحيح في منطق الاستدلال العلمي (102).
الفصل الرابع
عن تزاوج اليمانيين والقرشيين
بقي ما هو أهم من هذا كله، وهو مسألة الاختلاط والتزاوج بين اليمانيين والقرشيين. فقد قمت بمتابعة عمود نسب الرسول صلى الله عليه وسلم واحداً واحداً؛ فوجدت أنهم جميعاً قد صاهروا إلى اليمنيين وأن بعضهم قد تزوج أربع يمنيات، وأقلهم تزوج بيمنية واحدة. وهذه خلاصة الدراسة.
فقد رجعت إلى شجرة الدوحة النبوية الشريفة في كل المراجع المتاحة مبتدئاً بجده عبد المطلب بن هاشم حتى جده الأعلى معد بن عدنان، فوجدت أنه لا يكاد يخلو واحد منهم من مصاهرة اليمنيين، من جرهم أو خزاعة أو الأوس والخزرج أصحاب يثرب، بل لقد تزوج بعضهم ثلاثاً من اليمنيات، وسمي البعض منهم بأسماء أمهاتهم اليمنيات كما هو الحال بأبناء خندف (أبناء إلياس).
أولاً: عبد المطلب بن هاشم - (شيبة الحمد)
أمه سلمى بنت عمرو بن زيد من بني النجار (من بني الخزرج) يثرب.
ونظراً لطرافة قصته مع أخواله وأعمامه، وهي دليل على مدى الاحتكاك بين الحيين،كما تدل على أنهم كانوا يتكلمون لغة واحدة، ولم يكن بينهم أحد من (مستشرقي ولا مستعربي طه حسين) بعد عودته إلى مكة نسوقها كما رواها الطبري. قال: حدثني هذا الحديث علي بن حرب الموصلي قال: حدثني أبو معين عيسى من ولد كعب بن مالك عن محمد بن أبي بكر الأنصاري عن مشائخ الأنصار قالوا: تزوج هاشم بن عبد مناف امرأة من بني عدي بن النجار ذات شرف، تشرط على من خطبها المقام بدار قومها. فتزوجت بهاشم فولدت له شيبة الحمد (عبد المطلب) فربا في أخواله مكرماً، فبينا هو يناضل فتيان الأنصار إذ أصاب خصلة فقال: أنا ابن هاشم. وسمعه رجل مجتاز فلما قدم مكة قال لعمه المطلب بن عبد مناف: قد مررت بدار بني قيلة (الأوس والخزرج) فرأيت فتى من صفته ومن صفته يناضل فتيانهم فاعتزى إلى أخيك، وما ينبغي ترك مثله في الغربة. فرحل المطلب حتى ورد المدينة فأراده على الرحلة فقال ذاك إلى الوالدة، فلم يزل بها حتى أذنت له. وأقبل به فأردفه، فإذا لقيه اللاقي وقال من هذا يا مطلب قال: عبد لي؛ فسمي عبد المطلب. فلما قدم مكة وقفه على ملك أبيه وسلمه إليه. فعرض له نوفل بن عبد مناف في ركح له قطعة أرض فاغتصبه إياه، فمشى
عبد المطلب إلى رجالات قومه فسألهم النصرة على عمه فقالوا: لسنا بداخلين بينك وبين عمك. فلما رأى ذلك كتب إلى أخواله يصف لهم
حال نوفل.
وكتب في كتابه -انظر عبارة (كتب في كتابه) في ذلك الوقت- وهو دليل على وجود الكتابة والشعر معاً وهذا يؤكد مذهبنا:
أبلغ بني النجار إن جئتهم
إني منهم وابنهم والخميس
رأيتهم قوماً إذا جئتهم
هووا لقائي وأحبوا حسيس
فإن عمي نوفلاً قد أبى
إلا التي يفضي عليها الخسيس
قال: فخرج أبو أسعد بن عدس النجاري في ثمانين راكباً حتى أتى الأبطح، وبلغ عبد المطلب فخرج يتلقاه فقال: المنزل يا خال! فقال: أما حتى ألقى نوفلاً فلا. قال: تركته جالساً في الحجر في مشايخ قريش، فأقبل حتى وقف على رأسه ثم استل سيفه ثم قال: ورب هذه البنية لتردن على ابن أختنا ركحه أو لأملأن منك السيف. قال: فإني ورب هذه البنية أرد ركحه، فأشهد عليه من حضر، ثم قال: المنزل يا بن أختي! فأقام عنده ثلاثاً واعتمر، وأنشأ عبد المطلب يقول:
تأبى مازن وبنو عدي
ودينار بن تيم اللات ضيمي
وسادة مالك حتى تناهى
ونكب بعد نوفل عن حريمي
بهم رد الإله عليّ ركحي
وكانوا في التنسب دون قومي
وقال في ذلك سمرة بن عمير أبو عمرو الكناني:
لعمري لأخوال لشيبة قصرة
من أعمامه جمعاً أبر وأوصل
أجابوا على بعد دعاء ابن أختهم
ولم يثنهم إذ جاوز الحق نوفل
جزى الله خيراً عصبة خزرجية
تواصوا على بر وذو البر أفضل
قال: فلما رأى ذلك نوفل حالف بني عبد شمس كلها على بني هاشم. قال محمد بن أبي بكر: فحدثت بهذا الحديث موسى بن عيسى فقال: يا ابن أبي بكر هذا شيء ترويه الأنصار تقرباً إلينا إذ صير الله الدولة فينا. عبد المطلب كان أعز في قومه من أن يحتاج إلى أن تركب بنو النجار من المدينة إليه. قلت: أصلح الله الأمير قد احتاج إلى نصرهم من كان خيراً من عبد المطلب. قال: وكان متكئاً فجلس مغضباً وقال: من خير من عبد الملطب؟ قلت: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: صدقت. وعاد إلى مكانه. وقال لبنيه: اكتبوا هذا الحديث من ابن أبي بكر.
وقد حدثت هذا الحديث في أمر عبد المطلب وعمه نوفل بن عبد مناف عن هشام بن محمد عن أبيه قال: حدثنا زياد بن علاقة التغلبي، وكان قد أدرك الجاهلية قال: كان سبب بدء الحلف الذي كان بين بني هاشم وخزاعة، الذي افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه مكة. وقال: لتنصب هذه السجاية بنصر بني كعب. إن نوفل بن عبد مناف وكان آخر من بقي من بني عبد مناف ظلم عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف على إركاح له وهي الساجات. وكانت أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو النجارية من الخزرج. قال: فتنصف عبد المطلب عمه فلم ينصفه، فكتب إلى أخواله:
يا طول ليلي لأحزاني وإشغالي
هل من رسول إلى النجار أخوالي
بني عدياً وديناراً ومازنها
ومالكاً عصمة الجيران عن حالي
قد كنت فيكم لا أخشى ظلامة ذي
ظلم عزيزاً منيعاً ناعم البال
حتى ارتحلت إلى قومي وأزعجني
عن ذاك مطلب عمي بترحال
وكنت ما كان أحيا ناعماً جذلاً
أمشى العرضنة سحاباً لأذيالي
فغاب مطلب في قعر مظلمة
وقام نوفل كي يعدو على مالي
أنىّ رأى رجلاً غابت عمومته
وغاب أخواله عنه بلا وال
أنحى عليه ولم يحفظ له رحماً
ما أمنع المرء بين العم والخال
فاستنفروا وامنعوا ضيم ابن أختكم
لا تخذلوه وما أنتم بخذال
ما مثلكم في بني قحطان قاطبة
حي لجار وإنعام وإفضال
أنتم ليان لمن لانت عريكته
سلم لكم وسمام الأبلخ القالي
قال: فقدم عليه منهم ثمانون راكباً فأناخوا بفناء الكعبة. فلما رآهم نوفل بن عبد مناف قال لهم: أنعموا صباحاً، فقالوا له: لا نعم صباحك أيها الرجل،أنصف ابن أختنا من ظلامته. قال: أفعل بالحب لكم والكرامة، فرد عليه الأركاح وأنصفه.
قال: فانصرفوا عنه إلى بلادهم. قال: فدعا ذلك عبد المطلب إلى الحلف، فدعا عبد المطلب يسر بن عمرو، وورقاء بن فلان ورجالاً من رجالات خزاعة فدخلوا الكعبة، وكتبوا كتاباً، وكان إلى عبد المطلب بعد مهلك عمه المطلب بن عبد مناف ما كان إلى من قبله من بني عبد مناف من أمر السقاية، والرفادة. وشرف في قومه، وعظم فيهم خطره. فلم يكن يعدل به منهم أحد، وهو الذي كشف عن زمزم بئر إسماعيل بن إبراهيم، واستخرج ما كان فيها من مدفونات. وذلك غزالان من ذهب كانت جرهم دفنتهما فيما ذكر، حين أخرجت من مكة وأسياف قلعية وأدراع، فجعل الأسياف باباً للكعبة، وضرب في الباب الغزالين صفائح من ذهب، فكان أول ذهب حليته -فيما قيل- الكعبة، وكانت كنية عبد المطلب أبا الحارث، كني بذلك لأن الأكبر من ولده الذكور كان اسمه الحارث وهو (شيبة).
وتزوج عبد المطلب عدداً من النساء اليمنيات كان منهن :
تبيلة بنت حباب بن كليب بن مالك بن سعد بن الخزرج، أولدت له العباس وضراراً ابني عبد المطلب.
لبنى بنت هاجر بن عبد مناف طاهر بن سلول الخزاعي. وأنجبت له أبا لهب.
أما عبد الله أبو الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو طالب، والزبير وجميع بنات عبد المطلب عدا صفية فأمهم فاطمة بنت عمرو بن عابد بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.
ويمكن أن نستنتج من النصين السابقين أشياء كثيرة منها:
أن أخوال عبد المطلب بن هاشم يمانيون من يثرب، وأن بعض زوجاته من الخزرج وخزاعة.
أن السطوة والهيمنة على مكة كانت حتى في عهد قريش لليمانيين.
أن اليمانيين كانوا قد اكتشفوا المعادن في زمن متقدم، ومنها الذهب الذي كان معروفاً أيام وقبل جرهم.
أن الكتابة كانت منتشرة في صفوف العرب وبالذات عرب الجنوب.
أن اللغة -أي لغة- لا تنشأ كاملة بألفاظها ومعانيها ونحوها وصرفها من فراغ، ولا تنشأ فجأة أو عبر جيلين من الناس، كما أنها لا تنشأ إلا في مجتمع مستقل وحر ومتطور، وهذه لم تتوافر في قريش!!
الجد الثاني للرسول صلى الله عليه وسلم (هاشم بن عبد مناف)
وقد تزوج أربعاً من اليمانيات هن:
قيلة بنت عامر بن مالك الخزاعي. وأنجبت له أسداً.
هند بنت عمرو بن ثعلبة الخزرجية، وأنجبت له أبا صيفي وحبة.
امرأة من قضاعة، وأنجبت له نضلة والشفاء.
سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد من بني النجار (الخزرج) وولدت له عبد المطلب (شيبة الحمد) ورقية.
وقد بينا سابقاً قصة زواج أبيه من أمه فهي التي اشترطت أن يعيش في بني قومها.
الجد الثالث للرسول صلى الله عليه وسلم. عبد مناف بن قصي
أمه حبى بنت جليل بن حبشية الخزاعي، الذي كان والياً على البيت الحرام قبل أن يؤول الأمر إلى قصي، في قصة دراماتيكية، أوردنا فحواها. وخلاصتها أنها كانت انقلاباً دبره قصي، واستعان بإخوانه القضاعيين بعد أن جمع بعض شتات قريش، ودارت معركة حامية الوطيس بينهم وبين خزاعة كان النصر فيها حليفهم (حليف قصي ومناصريه).
كما تزوج عاتكة بنت مرة بن فالج بن ذكوان السلمية من بني سعد العشيرة اليمنية، وولدت له عمراً وهو هشام والمطلب وعبد شمس ونوفلاً.
كما تزوج وافدة من بني مازن بن صعصعة السلمية أيضاً. الجمهرة ص14.
الجد الرابع للرسول صلى الله عليه وسلم (قصي بن كلاب) الملقب بالمقرش.
أمه فاطمة بنت سعد بن سبل الأزدي، أو باسل بن خثعمة الأسدي من اليمن. وتزوج حبى بنت جليل بن حبشية من خزاعة، فأنجبت له أولاداً أربعة، هم: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبيد بن قصي. (الطبري ج1 ص113).
الجد الخامس للرسول صلى الله عليه وسلم (كلاب بن مرة)
وهذا صاهر الأزد فتزوج منهم فاطمة بنت سعد بن سبل أو باسل الجدرة (سمي الجدرة لأن جده عامراً بنى جدار الكعبة، وهو ابن خثعمة الأزدي من اليمن) وقد ولدت له قصياً وزهرة (ابن هشام ج1ص 109).
الجد السادس للرسول صلى الله عليه وسلم (مرة بن كعب)
وكانت إحدى زوجاته امرأة من (بارق) بن الأسد أو أو الأزد. وقد أنجبت له يقطة.
الجد السابع للرسول صلى الله عليه وسلم (كعب بن لؤي)
أمه كانت ماوية بنت كعب القضاعية.
الجد الثامن للرسول صلى الله عليه وسلم (لؤي بن غالب)
تزوج ماوية بنت كعب بن أبطن بن قضاعة، وولدت له كعباً وعامراً وسامة، وقد انتمى سامة إلى عمان هرباً من أخيه عامر لشنآن بينهما، فأخافه عامر وكانت قصة!.
أما عوف فقد التحق بغطفان، وقد نقل كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن سامة وطلب عودهم إلى أصولهم إذا هم أرادوا. (البداية والنهاية)
الجد التاسع للرسول صلى الله عليه وسلم (غالب بن فهر)
أصهر إلى خزاعة وتزوج سلمى ابنة كعب بن عمرو الخزاعي، وأنجبت له مولباً وقبا. (الطبري).
الجد العاشر للرسول صلى الله عليه وسلم (فهر بن مالك)
أمه جندلة بنت عامر بن الحارث بن مضاض الجرهمي. وقيل: جميلة بنت عدوان بن بارق بن الأزد.
وفهر هذا هو جماع قريش. قال الزبير بن بكار، وقد أجمع نساب قريش وغيرهم أن قريشاً إنما تفرقت من فهر بن مالك، والذي عليه من أدركت نسب قريش أن ولد فهر بن مالك قرشي.
وأن من جاور فهراً بنسبه فليس من قريش ثم نصر هذا القول نصراً عزيزاً. (البداية والنهاية). وكان فهر في زمانه رئيس الناس بمكة، فيما حدثنا يحيى حميد قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق فو ابن جرهم حسان بن عبد كلال بن مثوب بن حرث الحميري، وكان حسان فيما قيل أقبل من اليمن مع حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن ليجعل حج الناس عنده في بلاده. (البداية والنهاية ج2 ص49).
الجد الحادي عشر للرسول صلى الله عليه وسلم (مالك بن النضر)
وهذا هو الآخر تزوج جندلة بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، وأنجبت له (فهراً).
الجد الثاني عشر للرسول صلى الله عليه وسلم (النضر بن خزاعة)
كان له من الولد مالك والصلت، وقد صار الصلت في اليمن، ويقال: إنه أبو خزاعة.
الجد الثالث عشر للرسول صلى الله عليه وسلم (خزيمة بن مدركة)
أمه سلمى بنت سليم بن إلحاف بن قضاعة.
وتزوج فكهة بنت هف بن بلى بن عمرو بن قضاعة. ويقال لها النفراء. وأنجبت له عبد مناة.
وقيل أنها هالة بنت سويد بن الغطريف بن أزد شنوءة، وكان لخزيمة أخ من أمه يسمى ثعلب بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة. (الطبري- ابن كثير).
الجد الرابع عشر للرسول صلى الله عليه وسلم (مدركة بن إلياس)
وقد تزوج امرأة من قضاعة اليمنية، فأنجبت له خزيمة وهذيلاً. (البداية والنهاية).
الجد الخامس عشر للرسول صلى الله عليه وسلم (إلياس بن مضر)
تزوج امرأة من اليمن تسمى خندفاً (ليلى بنت حلوان) قال الطبري: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق أنه قال: أم بني إلياس (خِندف) وهي امرأة من اليمن، فغلبت على نسب بنيها، فقيل (بنو خندف). وهكذا عرف آل إلياس جميعهم بآل خندف أو بني خندف. وهنا لا بد أن نلاحظ أمراً مهماً، وهو أن المستوى الخامس عشر للنسب الشريف عرفوا باسم أمهم (خندف) اليمانية. وهي إشارة ذات دلالة قوية على مدى علاقة الفئتين ومدى سطوة الأم أحياناً، إما في مرحلة زمنية معينة أو في قبائل معينة، وقد تخضع لمدى قوة شخصية هذه المرأة أو تلك.
الجد السادس عشر للرسول صلى الله عليه وسلم (مضر بن نزار)
أمه سودة بنت عك وأخوه إياد. وهناك تنازع بين اليمن ومعد (العدنانيين) حول نسبة إياد.
وقد أوصى (مضر) بنيه بأن يستفتوا أفعى نجران في حالة اختلافهم في توزيع تركته وأحكام وصيته. وبعض الرواة قالوا أن إياداً هو الذي أوصى بنيه بذلك.
الجد السابع عشر للرسول صلى الله عليه وسلم (نزار بن معد)
يكنى أبا إياد وقضاعة، ومعروف أن قضاعة قبيلة من كبريات قبائل اليمن، بل لقد جعلوها تعدل كفة من ينتمي إليها! وقد بينا القول في هذا الاختلاف مفصلاً. ويقول بعض المؤرخين: إن نزاراً أبو ربيعة ومضر وأنمار، وأن أم إياد ومضر سودة بنت عك، وأم ربيعة وأنمار شقيقة بنت عك. وبعضهم قالوا: إن أم مضر وربيعة عاتكة بنت يزيد بن زيد بن عمرو بن الهدهاد الحميري.
وأم إياد أروى ابنة ليث بن عمرو الكلبي. وكانت أم أنمار وازعة بنت غالب من بني مالك بن غريب بن زيد بن كهلان.
الجد الثامن عشر للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم (معد بن عدنان)
تزوج معانة بنت جرهم بن جلهمة أو جلهمة بعد هلاك ابنه. وتختصر القصة المعروفة، وبعد أن عاد هو إلى الحجاز من اليمن - حسب رأي بعض المؤرخين- ومن العراق حسب الرأي الآخر مع اختلافهم حول طريق ووسيلة عودته.
هذا فيما له صلة بصلب النسب النبوي الشريف، فقد رأينا بعد مراجعة أهم المصادر التاريخية أنهم جميعاً قد أنجبوا أولادهم، الذين ينحدر منهم الرسول صلى الله عليه وسلم من أمهات يمنيات. فكيف الحال بالنسبة لبقية شخصيات مكة في هذه الفترة؟
وكيف بالأفخاذ والبطون والقبائل الأخرى؟! إنهم لا شك غير بعيدين عن مثل هذا الوسط الاجتماعي الذي عاشتها سلالة الرسول، من حيث الاختلاط والتزاوج وتبادل المنافع والانتقال من مكان إلى آخر، وتخلى البعض عن انتمائه السابق، والانتماء إلى قبيلة أقوى طلباً للحماية أو للرفعة في النسب والنباهة في الذكر.
كما أن هنالك قبائل من هنا وهناك كانت تحمل اسماً واحداً مثل ربيعة وبلي وجذام... إلخ.
وهناك الكثير من اليمنيين تزوجوا من عدنانيات. الأمر الذي يجعل بعد هذا كله الحديث عن وجود لغة عدنانية مستقلة أو قرشية حديث خرافة، ولغواً من القول الذي لا سند له من علم أو منطق أو أسباب وجيهة تبرره.
ولا تفوتنا هنا عبارة قالها أحد الكتاب العرب المعاصرين والمشهورين بنقدهم الحصيف لتاريخ الأدب العربي أعني الأستاذ (أحمد حسن الزيات) الذي قال عن العصر الجاهلي وعلاقة القحطانيين بالعدنانيين:
العصر الجاهلي ويبتدئ باستقلال العدنانيين عن اليمنيين في منتصف القرن الخامس للميلاد، وينتهي بظهور الإسلام سنة 622ه . والآن إذا كان الأمر هكذا فما هي إذن لغة القرآن الكريم؟
الفصل الخامس
لغة القرآن الكريم
إذا كنا قد نفينا وجود لغة تسمى (لغة قريش أو لغة عدنان أو لغة النبط أو كتابتها) فمن باب أحرى أن ننفي أن القرآن الكريم قد كتب بلغة وكتابة ليستا موجودتين أصلاً.
إذن فبماذا كتب القرآن؟ بأي لغة وبأي خط؟ ومن أين جاء؟ وكيف؟ ومتى؟ وهي أسئلة طه حسين الحائرة التي طرحها واعترف بعدم قدرته بل وتحدى غيره أن يكون قادراً على الإجابة عليها ومات مسكيناً وفي نفسه ألف حسرة وندامة!! لأنه لم يستطع تحديد أصل هذه اللغة، ولم يعرف كيف ومن أين ولا متى جاءت؟! كما أنه لم يعرف كيف كتبت؟ ولا بأي خط كتبت؟ ولا بأي ذنب قتلت؟!!
إن اعتراف طه حسين بعجزه عن الإجابة على تساؤلاته والعوامل والأسباب العلمية والموضوعية والديمغرافية التي أتينا بها كانت كافية للقول الفصل وبكل ثقة واطمئنان أن القرآن كتب باللغة العربية اليمنية، التي تعرضت لمراحل عديدة من التطور حتى ظهر فيها الحرفان السحريان المعجزان الألف واللام أو لام التعريف (أل).
لقد كان الطبري رحمه الله أول من تعرض للغة القرآن وشخصها، لا بغرض تحديد وتثبيت المراد من العربية الفصيحة أو (المتينة) كما سماها البعض أو كادوا يجمعون على هذه التسمية، وإنما لهذا ولبيان مدى سلامة أو خطأ القول بأن القرآن يكتب بحرف واحد أو بلغة واحدة (على حد تعبير طه حسين) والأصح لهجة أو أنه كتب بلغة غير عربية. مهتدياً ومستدلاً بالقرآن الكريم نفسه وبأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، لهذا نراه يقول:
قال أبو جعفر: وقد دللنا على صحة القول بما فيه الكفاية لمن وفق على أن الله عز وجل ثناؤه أنزل جميع القرآن بلسان العرب دون غيرها من ألسن سائر أجناس الأمم. وعلى فساد قول من زعم أن منه ما ليس بلسان العرب ولغتها. نقول الآن: إذا كان ذلك صحيحاً في الدلالة عليه، فبأي ألسن العرب أنزل؟ أبألسن جميعها أم بألسن بعضها؟ إذا كانت العرب -وإن جمعها اسم أنهم عرب- فهم مختلفو الألسن بالبيان، متباينو المنطق والكلام. وإذا كان ذلك كذلك، وكان الله جل ذكره قد أخبر عباده أنه قد جعل القرآن عربياً، وأنه أنزل بلسان عربي مبين، ثم كان ظاهره محتملاً خصوصاً وعموماً إلا ببيان من جعل إليه بيان القرآن وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان ذلك كذلك وكانت الأخبار قد تظاهرت عنه صلى الله عليه وسلم بما حدثنا جلاد بن أسلم قال: حدثنا أنس بن عياض عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنزل القرآن على سبعة أحرف، فالمراء في القرآن كفر ثلاث مرات. فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه).
ولم يحدد الطبري اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم أو الخط الذي كتب به، وإنما قام بتحديد وتعداد الطرق التي ورد بها الحديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف، واختلاف بعض الصحابة في حفظ بعض الآيات وصور قراءتها. وقال إن القرآن أنزل بألسن بعض العرب دون ألسن جميعها، وأن قراء كالمسلمين اليوم ومصاحفهم التي بين أظهرهم هي بعض الألسن التي نزل بها القرآن دون جميعها فنراه أنه لم يحدد اللهجة التي نزل بها.
وكان عدد رواة الحديث 21 من خيار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. أما ابن عباس رضي الله عنه، فقد أورد الحديث برواية أخرى مغايرة بعض الشيء فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف.
ورواية أخرى نصها: وإن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت إليه: أن هوِّن على أمتي، فأرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف فرددت إليه: أن هوِّن على أمتي على سبعة أحرف، فقال ميكائيل ائتياني فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يسراي، فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف. فقال ميكائل: استزده. حتى بلغ سبعة أحرف. وفي حديث أبي بكرة رضي الله عنه: فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة .
وعن تباين قراءات بعض الصحابة لبعض آيات القرآن، نجد في كتب التفسير والحديث والأخبار انعكاساً لذلك، فهنالك روايات تذكر أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقرأون القرآن قراءات فيها بعض الفروق والتباين، وكانوا يتعززون بقراءاتهم ويتمسكون بها، ومنهم من كان يقرؤها عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يعترض عليها، بل روي أنه قال: اقرأوا كما علمتم.
وروي أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقرأني عبد الله بن مسعود سورة أقرأنيها زيد، وأقرأنيها أبي بن كعب، واختلفت قراءاتهم فبقراءة أيهم آخذ؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وعلي إلى جنبه. فقال علي: ليقرأ كل إنسان بما علم، كل حسن جميل. ورووا على لسان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم. فلما سلم لببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: كذبت. فوالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهو أقرأنيها. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها. وأنت أقرأتني سورة الفرقان: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله يا عمر! اقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا عمر. فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منها.
وكالذي ذكروه أن رجلاً قرأ عند عمر فغير عليه فقال: لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يغير علي. فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال: بلى. فوقع في صدر عمر شيء فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في وجهه فضرب صدره وقال: أبعد شيطاناً قالها ثلاثا. ثم قال: يا عمر، إن القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذاباً أو عذاباً رحمة .
وعن رجلين آخرين اختصما في قراءة آية من القرآن وكل منهما يزعم أنه سمعها من الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة مثلما قرأه فتقارءا إلى أبي، فخالفهما الاثنين؛ فرفعوا قضيتهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله اختلفنا في آية من القرآن. وكلنا يزعم أنك أقرأته فقال لأحدهما: أصبت. وقال لأبي: اقرأ فخالفهما فقال: أصبت. قال أبي: فدخلني من الشك من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دخل في من أمر الجاهلية. قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في وجهي. فرفع يده فضرب صدري وقال: استعذ بالله من الشيطان الرجيم. قال: فتصببت عرقاً وكأني أنظر إلى الله فرقاً. وقال: إنه أتاني آت من ربي فقال:
إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: رب خفف عن أمتي. قال : ثم جاء فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاء الثالثة فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف ولك بكل ردة مسألة ... إلخ.
ويلخص الدكتور جواد علي مسألة اختلاف الصحابة في قراءة القرآن فيقول: روي عن زيد بن وهب قال: أتيت ابن مسعود استقرئه آية من كتاب الله فأقرأنيها كذا وكذا. فقلت: إن عمر أقرأني كذا وكذا خلاف ما قرأها عبد الله قال: فبكى حتى رأيت دموعه خلال الحصى ثم قال: اقرأها كما أقرأك عمر. فوالله لهي أبين من طريق السيلحين.
وأورد العلماء أحاديث أخرى بهذا المعنى، تظهر كلها وقوع الخلاف بين الصحابة في قراءة القرآن. وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم به وتجويزه لهم القراءة بقراءاتهم كل إنسان بما علم. وقد اختلف العلماء في معنى هذه السبعة الأحرف، وما أريد منها، على أقوال جمعها القرطبي على خمسة وثلاثين قولاً، وجعلها السيوطي على نحو أربعين قولاً، تحدث هو وغيره عنها، والحديث عنها في هذا الكتاب يخرجنا من حدود بحثنا المرسوم، وهو التاريخ الجاهلي، لذلك فسوف لا أتكلم في هذا المكان إلا عن الأقوال التي عينت تلك الأحرف، ونصت على أسمائها بالنص أو التعيين فأقول. والقول للدكتور جواد:
قد رأينا الأحاديث المذكورة والأخبار المروية وهي عامة لم تنص على أن المراد بالأحرف السبعة حرفاً معيناً ولساناً خاصاً من ألسنة العرب، غير أننا نجد أخباراً نصت على تلك الأحرف وعينتها وشخصتها. إذا تتبعنا سندها ورجالها نجدها تنتهي ب(ابن عباس) وأكثر القائلين بها هم علماء العربية مثل (أبو عبيد) وأبو عمرو بن العلاء، وثعلب، والأزهري. وسند هذه الأخبار: (الكلبي) عن أبي صالح عن ابن عباس، أو عن قتادة عن ابن عباس. وأمثال ذلك من طرق فقد ورد عن ابن عباس قوله: نزل القرآن على سبع لغات، منها لغات خمس بلغة العجز من هوازن، قال أبو عبيد:والعجز هم بنو سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونضر بن معاوية، وثقيف، وهؤلاء كلهم من هوازن، ويقال لهم عليا هوازن. ولهذا قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن. وسفلى تميم يعني درام.
وأخرج أبو عبيد من وجه آخر عن ابن عباس قال: نزل القرآن بلغة الكعبيين: كعب قريش، وكعب خزاعة. قيل: وكيف ذلك ؟ قال: لأن الدار واحدة. يعني أن خزاعة كانوا جيران قريش فسهلت عليهم لغتهم. وقال أبو حاتم السجستاني:
نزل بلغة قريش وهذيل وتميم والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر. وذكر بعض آخر أنه نزل بلغة قريش، وهذيل وثقيف، وهوازن، وكنانة، وتميم، واليمن، وسعد بن بكر، وهم من عليا هوازن، ومعنى هذا أنه نزل بلغات عدنانية ولغات قحطانية أي بجميع ألسن العرب.
وقد حاول بعض الكتاب العرب المشهورين أمثال طه حسين ومصطفى الرافعي بعد أن علموا أن ما بنوا من أوهام وأفكار بدت لهم أنها ترقى إلى مستوى النظريات!!
أقول: إنه بعدما علموا أن ما قالوه حول تغلب وتغليب لغة قريش، وأنها هي لغة القرآن دونما سند من علم أو براهين موضوعية أو أدلة مادية، وأيقنوا أن استمرار جدالهم حول ذلك ما هو إلا مراء ورعونة واعتداء على إجماع ومقدسات الأمة، حاولوا الإضفاء على كلامهم مسحة دينية وأغلفة من لغة الكهان، إلا أن ذلك لم ينقذهم من السذاجة والبلادة، إذ ربطوها بالغيبيات وخوارق الطبيعة والمعجزات الكونية التي لا يوجد لها تفسير!! وكان ذلك هو المنحدر السحيق الذي وصلوا إليه فضلوا وأضلوا، وقد أوردت عشرات الأمثلة من تناقضات وتهافتات (عمود الأدب العربي سابقاً!) ومثل ما سنعرض لصاحبه الكاتب اللوذعي مصطفى الرافعي الذي يقول تحت عنوان (الدور الثالث في تهذيب اللغة): أما هذا الدور فهو عمل قريش وحدها، وهي القبيلة الأخيرة في تاريخ الفصاحة، بعد أن كان الثاني عمل القبائل جميعاً، وكان الأول عمل القبيلة الأولى، وتكون اللغة قد أحكمت على أدوار التاريخ الاجتماعي كل الإحكام. وذلك أن قريشاً كانوا ينزلون من مكة بوادٍ غير ذي زرع لا يستقل أهله بتكاليف الحياة ولا يرزقون إذا لم تهو إليهم أفئدة من الناس، وكانت الكعبة شرفها الله وجهة العرب وبيت حجهم قاطبة في الجاهلية، فكان لكل قبيلة منهم صنم يحجون إليه، حتى قيل أنهم كانوا يقربون القرابين في الكعبة من الإبل والغنم لثلاثمائة وستين صنماً، وكانت تلك لغاتهم بطبائعها متباينة اللهجات، مختلفة الأقيسة المنطقية المودعة في غرائزها، فكان قريش يسمعون لغاتهم ويأخذون ما استحسنوه منها فيديرون به ألسنتهم ويجرون على قياسه، ولو كانوا بادين كسائر القبائل ما فعلوه، ولكن نوع الحضارة الذي اكتسبوه من تاريخهم ألان من طباعهم، وكسر من صلابتهم فاتفقت في ذلك حياتهم اللغوية، وحياتهم الاجتماعية القائمة بالتجارة وتبادل العروض مع أصناف الناس، فلما اجتمع لهم هذا الأمر ارتفعت لغتهم عن كثير من مستبشع اللغات ومستقبحها، وبذلك مرنوا على الانتقاد، حتى رقت أذواقهم، وسمت طبائعهم وقويت سلائقهم، حتى صاروا في آخر أمرهم أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعاً، وأبينها إبانة عما في النفس.
ويواصل: وكانت لهم رحلتان في التجارة كل عام: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى بصرى في حوران، وهي حاضرة ذلك الجيل، وكذلك كانوا يضربون في الأرض إلى فارس، وإلى الحبشة، فسمعوا مناطق الناس، وبذروا وجوه العذوبة في أعذبها، وتناولوا كثيراً من ألفاظ تلك الأمم قد أحلت كلامهم، وأعربوها في الرومية والفارسية والعبرانية والحبشية والحميرية، وعلى ذلك صاروا بطبيعة أرضهم في وسط العرب كأنهم مجمع لغوي يحوط اللغة، ويقوم عليها ، ويشد أزرها ، ويرفع من شأنها، ويزيد في ثروتها، وبالجملة يحقق فيها كل معاني الحياة اللغوية.
وهنا لا يسعنا إلا أن نقول: ليته اكتفى بالنص السابق فهو بالمنطق الشعبي اليمني (كلام مرقع بصميل !!) فكيف يمكن لقريش أن:
تقوم بتهذيب لغة الضاد أو اللغة المتينة أو لغة القرآن أو لغة عدنان على حد تعبير طه حسين بمعزل عن القبائل العربية الأخرى، وقريش تعتبر نقطة في بحيرة أو جزيرة في محيط عظيم من العرب هم في الغالب من اليمانيين؟
تصنع هذه اللغة في الوقت الذي يعترف أنها تعيش في واد غير ذي زرع، وأنها كذلك تستفيد ممن تهوى نفوسهم إلى الكعبة المشرفة، وأن القرشيين كانوا يسمعون لغاتهم، ويأخذون ما يستحسنون منها، ويدعون ما لا يريدون. فكيف كان يتسنى لهم ذلك؟ هل بمجرد السماع فقط؟ أم كانوا يكتبون ما يريدونه؟ أم كانت لديهم أجهزة تسجيل؟ علماً بأننا نعرف أن كتبة الوحي والقراء اختلفوا في رواية بعض آيات الكتاب المبين. مما اضطر عثمان إلى إحراق كل المصاحف واعتمد على مصحف واحد هو الذي كتبه الغلمة الأربعة أو الخمسة المكلفين!!
تطور هذه اللغة بسبب تحضرها على سائر القبائل في حين أننا نعرف أنهم، أعني (أهل مكة) والأثرياء منهم بالذات، كانوا يبحثون عن مراضع لأولادهم في البادية، وكان منهم الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم نفسه، ثم إننا نعرف جيداً أنه عندما بدأوا في وضع قواميس اللغة وآداب العرب وأشعارها كانوا يرجعون إلى بدو الصحراء، ويحتجون بأقوالهم، ولا يعتدون بأقوال أهل الحضر، باعتبار أن الأخيرين قد اختلطوا بغيرهم من الأجانب لذلك فقد فسدت لغتهم. لهذا استبعدوا الاستدلال بلغة اليمن بكاملها وحرموا بصنعهم هذا المعجم اللغوي العربي من حوالي 50: 60% من مفردات لغة الضاد وبالذات في مجالها الحضاري الصناعي والزراعي والنباتي. والطبي والفلكي ... إلخ.
ثم من كان أكثر تحضراً وقتها -وهو أسوأ عهود اليمن الماضي منذ آلاف السنين- أهل مكة أم أهل اليمن؟!!
تسميتها لغة الضاد ولغة القرآن الكريم في الوقت الذي استقت كثيراً من مفرداتها من فارس والحبشة، ومن العبرانيين وحمير، (وكذلك كانوا يضربون في الأرض إلى فارس وإلى الحبشة، فسمعوا مناطقهم وبذروا وجوه العذوبة في أعذبها وتناولوا كثيراً من ألفاظ تلك الأمم، قد أحلت كلامهم وأعربوها من الرومية والفارسية والعبرانية والحبشية والحميرية. وعلى ذلك صاروا بطبيعة أرضهم في وسط العرب كأنهم مجمع لغوي، يحوط اللغة، ويقوم عليها، ويشد أزرها،ويرفع من شأنها، ويزيد في ثروتها، وبالجملة يحقق فيها كل معاني الحياة اللغوية.
هل هذا الكلام معقول؟ وهل يمكن أن يصدر عن عالم وأديب من أشهر الأدباء العرب في القرن العشرين؟!! إنه كلام إنشائي أخرق. لا يمت إلى واقع الناس في أي زمان ومكان بصلة على الإطلاق. إن مثل هذا الكلام قد ينطبق على مصنع ينتج مجموعة من السلع المتشابهة، وأن مجموعة -ولتكن هنا قريش- قد تخصصت في إنتاج نوع مميز من إنتاج هذا المصنع. أما أن يكون مما يتعلق بتطوير لغة من اللغات فكيف إذا كانت اللغة العربية أغنى اللغات وأقدمها وأقدسها؟ إنه أمر مستحيل وغير مقبول ولا معقول!!
تمنيت أن لو اكتفى بالنص السابق الذي أبنا بعض تناقضاته، وهي بالفعل تناقضات فظيعة تنم عن عدم إدراك للموضوع الخطير الذي يبحثه، وعن اضطراب وارتباك إن لم نقل جهلاً مطبقاً: لموضوع اللغة اليمنية والخط المسند، وأنهما أب وأم اللغات والخطوط جميعاً. كما بين العلم الحديث كما أسلفنا؟!!
أقول: ليته اكتفى لأنه اختتم كلامه بالنص الطلسمي التالي:
ولا يسع المتأمل في الأدوار التي تعاقبت على قريش في تهذيبها اللغة إلا أن يستسلم للدهشة، ويحار من أمر هذا التعاقب، فإنه كالسلم المدرجة، تنتهي الدرجة منها إلى درجة على نمط متساوق من الرقي، إن لم يكن عجيباً في تاريخ أمة متحضرة، فهو عجيب على الخصوص في تاريخ العرب، ولا سيما إذا اعتبرنا مبدأ تلك النهضة، وأنها لا تتجاوز مائة سنة قبل الهجرة إلى مائة وخمسين على الأكثر، فلابد من التسليم بأنها حادثة كونية من خوارق النظام الطبيعي، ظهرت نتيجتها بعد ذلك في نزول القرآن الكريم بلغة قريش، وهو أفصح الأساليب العربية بلا مراء والله يحكم ما يشاء ويقدر.
هكذا يلجؤن إلى ما يشبه أساليب المشعوذين والسحرة في موضوعات علمية خطيرة تتعلق بلغة العرب (لغة القرآن الكريم)، وهكذا يقزمون تاريخ هذه الأمة الذي يضرب في عمق الزمن أكثر من ثلاثة عشر ألف سنة من تاريخ عاد، ويحصرونه في 150 سنة!! لا لشيء إلا لأنهم يريدون قسراً تسييد لغة قريش. ولا يهمهم هدم وتحقير وتشويه تاريخ الأمة بكاملها، على أنه كان قد أورد نصاً قبل هذا على طرفي نقيض منه، يعترف فيه بأن العرب كل العرب هم الذين صنعوا لغتهم بحكم المجاورة والمخالطة بالتزاوج وتبادل المنافع. وبحكم وحدة المكان قال:
وكانت العرب يأخذ بعضها من بعض بالمخالطة والمجاورة فربما انتقل لسان العربي عن لغته إلى لغة قبيلة أخرى. لاحظ كلمة لغة والأولى أن يقول: وربما تداخلت اللغات فنشأت من اللغتين لغة ثالثة، على أنهم في ذلك لا يخرج كل منهم عن قياس نفسه ووزن طبعه، حتى كأن ألسنتهم تختلف مثل الاختلاف ما بين أجسامهم وأذواقهم، فكل منهم يفصل من الكلام ويتصرف في وجوه القول على حسب هذا القياس الذي خلق فيه وركب في طبعه، وكان مظهر قريحته، ومن هذه الجهة نشأ بينهم التنافس في أحكام اللغة والمفاخرة بالبيان وانحراف اللسان عن الشذوذ الذي يعتبرونه خلقياً في الألسنة الشاذة، وساعدتهم على ذلك مواقعهم وأيامهم وأسواقهم التي يقصدونها للتسوق والبياعات والمنافرة والحكومة وغيرها مما هو من طبيعة المخالطة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.