العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تربية الشعور في الأسلوب الشعبي، أنموذج: « العرائس والقمر »
أغاني القمر في أدب الأطفال:
نشر في الجمهورية يوم 13 - 02 - 2007

"إن العالم الذي ينتظم في أذهان الأطفال لهو عالم غني جداً أوبهي حقاً حتى لتعجب هل هو حصيلة نشاط لأفكار مكتسبة أو هو تذكر لوجود سابق وتشوف لمعالم سحرية في كوكب مجهول؟"
جيراردي نيرفال
في قصة رحلته إلى الشرق
لقد ظل الرمز في الأدب الشعبي العربي يضطلع دائماً بالتعبير عن الواقع المتشوف أو المتطلع نحو العدالة والحق والخير والجمال، على أن هذا الواقع قد يجنح إلى آفاق الخيال الواسعة «إلى عوالم سحرية بعيدة» تتشوف الطفولة الإنسانية الوصول إليها بحاستها الغريزية أو المبدعة.. وإلى هذا كانت تلمح الدكتورة سهير القلماوي حين تقول:
"أي ذخر من الأغاني يمكن أن يدرسه الفولكلوري ويستخرج لنا حقائق عن تذوق أطفالنا الفني، عما يحرك وجدانهم، عن لعبهم، عن وظيفة الأغنية في حياتهم وفي ألعابهم وفي إقامتهم وفي تفكيرهم وفي تطلعاتهم العطشة المشرئبة نحو غامض مجهول حيث كل الأحلام محققة.
وهنا نقترب من نمط «المثال» في أغاني الأطفال الشعبية والتي كانت قد عالجت موضوع القمر بأسلوب التفعيل والتخيل لأغراض تتعلق بتربية الشعور أو تربية الإدراك الحسي، وذلك في إطار الرمزية المغرقة في الخيال.. ولكنها الخيال الموضوعي الذي ظل يتخذ صورة «المثال» في العقل الشعبي بوحي تصوراته القديمة، بل حلمه القديم في الوصول إلى القمر على صهوة الجواد الطائر بمعزى الوصول إلى العروس الجميلة! والأمر كذلك مع فتى الأحلام الجميل، وقد درج التعبير الشعبي على التقاط هذا المعنى بالانقياد لعناصر الأسطورة في العالم القديم فيما حفظته لنا الذواكر الشعبية من رواسب ثقافية مازلنا نشهدها إلى اليوم على شكل طائفة من المراسيم والطقوس والعادات، ومن خلالها نشأ التمثل بالقمر حين كان قد غدا "المثل الأعلى" في التصور الخيالي الموضوعي كوحدة قياس لأعلى درجات التشخيص الجمالي في الفن الشعبي، لاسيما بعد أن لوحظ وهو يدرج إلى الكمال، فاعتبر بذلك الرمز الكامل للقيم الموضوعية الرئيسية: «الجمال، العدل، الحق، الخير»!
وعلى هذه الصورة جرى تأليه القمر في الفكر الأسطوري مما كان قد علق بالبديهة الشعبية وحيث كان قد ارتبط في تصور الإنسان منذ القدم بالطمث عند المرأة أو بالتحول من مرحلة الطفولة إلى مرحلة المراهقة، وبالاتزان في الحركة والسلوك حتى صارت تضبط به الشهور وتعين به مواقيت الصيد، ومواقيت الزراعة والحصاد ومن أجل ذلك قرنه الإنسان بالمطر فكان بذلك رمزاً للخير.. ومن موازنته بالظلمات التي تكتنفه فقد اقترن بالسحر والعرافة، ومن اتزانه أيضاً في الحركة والسلوك وارتباطه بالتقويم فقد قرنه الإنسان بالحكمة والتعقل فكان بذلك رمزاً للعدل حتى لقد ظهر في الأساطير شيخاً حكيماً يفض النزاعات بين الآلهة، كما أن علاقته بالحساب والقياس قد جعل الإنسان يربطه بالميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات عند حساب الموتى فكان بذلك رمزاً للحق.. وحيث أن القمر قد ظل ولايزال يستدعى في المعتقدات الشعبية ك "قوة" لفك الغموض والإبهام، ولحفظ الإنسان مما قد يصيبه من الشر تحت لائحة اسمه القديم "سين" فإن ذلك كله قد تداعى في أسلوب نفسي، وكأحد المثيرات الحيوية في ميدان التربية الشعورية لأن يعتبر القمر ولحقب طويلة منذ أن نشأت الأسطورة بأنه "السيد"، حين رفع إلى مقام الألوهية وذلك لما كان قد اقترب من الكمال الكلي الذي يميز عالم المثل.
وهكذا تلتقي الملاحظة والأخيلة بما كانت قد اختزنته العقلية الشعبية من رواسب ثقافية عن آلهة القمر في الفكر الأسطوري لتتجاوز الإدراك الحسي المباشر للصورة الجمالية المنظورة، إلى الرغبة في بسط السيادة الكاملة عن طريق الاتصال أو التشبه بتلك الرموز التي يكتنفها القمر.
وعلى هذا، كان الأطفال وقبل أن ينطلقوا إلى الجبال بعهد بعيد حيث يتبعون الذبيحة التي يقتادها الكبار ليقدموها قرباناً للإله «؟» طلباً لنزول المطر.. أو يتبعون موكب الحاج أثناء انطلاقه إلى الأراضي المقدسة «مكة المكرمة»، كانوا يجتمعون للعب في الأمسيات المقمرة، فيتحلقون على شكل دائرة ويرقصون.. أو تؤرجح الأمهات مهد الصبي في الليل في غناء عذب ساحر.. والجميع كانوا يرددون تلك الأهزوجة "المتتالية":
"وسيدي سافر مكه"
وحين نسأل اليوم بعض الشيوخ عن معنى تلك الثيمة التي تتردد في جميع أو في معظم المتتاليات العربية التي تحمل صور هذا النموذج الذي يجرى في أغنيتهم الشهيرة هذه، لاسيما حين كانوا أطفالاً.. فإنهم يجيبون برد واحد: "القمر، سيدي سافر مكه تعني القمر وهو ينحدر صوب مكه، وكنا نلعبها في الليل!.. سيدي تعني القمر"! ولايزال ذلك عند بعض الشيوخ كما كان "ود" القديم، أو المقه العظيم.
وعلى ذلك أيضاً فلسنا نجد غرابة إن وجدنا أطفال الكويت يرددون «أثناء الليل»:
لامشى السيد مشينا غابت القمره علينا.
وسوف نرى في هذا الفصل كيف اتجه الرمز إلى القمر بمعنى "التسود" في أسار العقيدة الدينية وبعد أن غاب ذلك في هجر القول، وعلى ذلك نأخذ أغنية "العرائس والقمر" لنصل من طريقها إلى جوهر هذه السيادة في اللفظ أو «الجذر الثقافي» لمعنى "السيد" وبعد أن نعرض لفضول القول وهو ذو علاقة حميمة بالموضوع.. تقول الأغنية:
ياشجرة البسايس
عودك أخضر ويابس
باشله باشعبكه
بالعب به عرايس
فلطالما سمعنا ومازلنا نسمع هذه الأغنية تجري على لسان كل فتاة في بعض مدن وقرى اليمن لاسيما في عدن، وهي شرح واف لميول كل من تمتلك في نفسها مزايا الإناث بما تتسم به لعبتها المفضلة هذه «أي: العرائس» والتي تجد فيها «مثالاً» لما سوف تصير إليه في مستقبل حياتها، وعلى النقيض نأتي لنكمل الأغنية:
ياشجرة الفقي عمر
عاد الفل ماضمر
باشله باشعبكه
بالعب به على القمر
سرعان ماتحول المعنى هنا من الواقعية في المقاطع الأولى إلى الرمزية في الثانية، وبما أن الطفل كثيراً مايعزف عن عالم الواقع ليلجأ بالتالي أو ليسلم لتيار التخيلات والتأملات في لعبه، وهذا مايحدث على الشاطئ إذ نلفيه يبني أشكالاً هندسية غريبة الصنعة، فهذا ماحدث هنا أن ارتأت الطفلة في القمر صورتها التالية «صنو العروسة ال لعيبة»، ومن جو هذه المقاطع يمكننا أن نلمس اتجاه الطفلة كفرد في المجتمع له شخصيته التي يستقل بها، وهذا بعض من الصورة المتكاملة يضاف إلى ظروف الجمال التي علقت بالتصور القديم للقمر.
وذلكم أيضاً هو الجميع بين الواقعية والرمز في ظرف من ظروف الإبداع في التصوير الشعبي، وكما نجد في كثير من الصور الغنائية عند الأطفال، إنها: أمانيهم، وهي أماني التربية الشعبية تضعها على صورة «مثال»، وتحرص على أن يكون هذا المثال أقرب إلى تصوير الخيال Imagination منه إلى تصوير الوهم Fantasy، والوهم كالذين قالوا لأنفسهم أو قالوا للأطفال في عصرنا: الصواري لها أجنحة/ والنخيل له أجنحة/ والجبل مروحه، فلا يستشف الطفل معنى لأجنحة الصواري والنخيل، وليس بمكنته أن يرى كيف يكون "الجبل مروحه" وذلك عند البنائيين تعقيد معنوي؛ أو مجاز بعيد العلاقة.. وبالنسبة للطفل فهي صور وهمية لاتلبث أن تتلاشى معها "صورة اللفظ".. إنها أحلام الكبار تتقحم الصغار!.. ويشدني إلى هذه النظرة قول الشاعر العربي اليمني المعاصر لطفي جعفر أمان وهو يشير إلى الصور الخيالية المنظورة «في الشعر» كما يجدها الأطفال، والتي كما أرى أن قد أريد للأطفال منها امتصاص صور معنوية يلفها كيان محسوس «ذو طبيعة غائية» هي بالنسبة لنا تمثل حقيقة من الحقائق الكونية ترد في صورة "مثال" وكنموذج" القمر، يقول لطفي:"فهم يستطيعون أن يشاهدوها، ويشيروا إليها بل ويلمسوها بأصابعهم».. ونجد مثالاً لذلك في اللعب بالقمر كما نصت عليه أغنية الأطفال، ومن ميزة الجمع في التواقع والتماثل بين "العروسة والقمر" في هذه الأغنية تنفرط عدد من الصور إلى مخيلات الناشئة تتألف «مثالاً» يرقى إليه الشعور بالحب والقداسة وجلال الوجود قرب أو أثناء فترة التحول من الطفولة إلى المراهقة.
ولايزال هذا المقال يشدني إلى تلك الصور الخيالية المحسوسة التي كنا اختبرناها في بداية تجربتنا الحسية أثناء مرورنا بمرحلة الطفولة الباكرة.. وقد أورد لطفي في هذا الصدد قول أحد النقاد الأفرنج، بترجمته له:"نحن نستطيع أن ننمي في أنفسنا حدة التأثر الحسي باتصالنا المباشر بالحقائق، وأن نغذي حياة الآخرين الخيالية.. وأن نتناول الصور التي هي أصل الثروة التي يتمتع بها الخيال لتنمية ذلك التأثر الحسي».. ويشير الناقد بعد ذلك إلى نماذج من صور الشعر الغربي توفي بهذا الطرد ويقول إننا لن نتفهم خاصيتها المعبرة الدسمة إن لم نحتك بالأشياء الحقيقية التي تشير إليها احتكاكاً حسياً مباشراً، ويترجم لنا لطفي قوله فيما يتمخض عن تلك الصور الحسية المباشرة من عواطف زاخرة فياضة، وقد جاء ذلك في قوله: "إلا أن أمثال تلك التجارب الحسية قد يحولها الشاعر إلى اتجاه آخر فتساعد على التعبير عن أحاسيس وانطباعات وعواطف وغيرها من الحالات الذهنية مما لاتنطوي عليه تلك التجارب الحسية".. فالتجارب الحسية كما يقول لطفي مفسراً ذلك: حقيقة في خيال الشاعر.. ثم تزخر بحيوية دافقة مفرطة حتى إنها تنأى عن التجارب المحسوسة.. وتمتزج بتجارب أشد عمقاً وأبعد مدى ثم تفرغ شحنتها من الجمال لاستثارة العاطفة في تعبير موفق عن تلك التجارب المغلفة بالغموض.
وهكذا حيث كنا قد أشرنا إلى مايتفتق عن تلك الصور الحسية المباشرة في أغنية الأطفال من استطرادات عاطفية غير ماعولت الأغنية في حقيقتها الأولى، فالأغنية حين توفق في الربط بين "العروسة" و"القمر" على نحو تلك الصورة الجمالية، فإنها تفجر فيما بين ذلك فيضاً من الأحاسيس والعواطف العامرة بالخيال غير ماأنطوت عليه تلك الصورة ومما لو كانت الإشارة إلى القمر وحده.. أليس هذا هو مايفعله الشاعر الحديث رغم ما قد يبدو من سذاجة المقارنة وبؤس الصورة في الأولى وهو حين يريد أن «يبدع» أو يرسم منظراً لوطنه فإنه يعرضه على مستويين في آن واحد، فينقلنا عبر الواقعة الحسية «في المثال القريب» إلى الواقعة المتخيلة المحسوسة بصورة من الصور «في المثال القريب»، وكما يفعل إذ ينقلنا من صورة العصر إلى صورة الماضي البعيد رمز سؤدده في "لحظة شعرية" وذلك حين ينصب في مشبه كبير: قيمة اجتماعية أو عنصر إنساني أو بعد حضاري.. أو أثر أدبي أو سياسي..أو مثال من المثل ينزع لاستقدامه إلى الواقع أو أن يرفع هذا الواقع إلى مصافه، وكاستخدام الأسطورة للتعليق على الواقع أو تفسيره؛ «النموذج اليمني: الأرض/ الأم «:» بلقيس أو/ شمس الحضارة».. فإن الشاعر ينشد فيما يأتي به الحلم على نحو ذلك المثال: السطوع في عوالم من السحر أو المعرفة تبرأ بها أسئلته، وعوالم من الإسعاد أو الرفاه يظفر منها بلقمة كبيرة تحتبس كل المذاق.. ثم أليس الحلم هو تلك الأصوات التي تصلنا من الماضي: من بئر الرجعية العميق، ومن بئر الحرمان وتذهب بالضرورة في هذا المقابل صوب المثل الأعلى؟.. وهكذا يمكن أن تنشأ علاقة مماثلة بين العروسة والقمر.
إن اللعب بالألفاظ أو بالصور المحسوسة بين المقطعين من طريق اللعب مرة بالعروسة.. ومرة بالقمر في صورة من صور التزاوج بين الواقع والخيال وبين المكان والزمان.. كما هو دأب الحلم، قد اختزن عدا هذه التجربة الحسية التي اشتملت أبعاداً نفسية وسلوكية واجتماعية، شحنة من العواطف الغامضة تنأى عن التجارب المحسوسة.. وذلك حين يسرح الطفل بنظره بعيداً ليبصر في القمر ذلك «الإله» وكما بدر في الأسطورة خلال مراحل الطفولة الإنسانية ليتصور الطفل أنه «الله»! فالشاعر الشعبي كان قد عبر عن مقاصده في ذلك النمط الشعري للأطفال وفرغ مما أراد.. ولكن الأغنية لاتلبث أن تستمر من بعده بشحنة الوجدان التي أفرغها بداخلها، في إثارة مكمن الخيال الواسع عند الطفل إلى أشياء خارجة عن الموضوع القليل للأغنية.. ولكنه بسببها يتحول الطفل إلى علاقة صميمه مع المثال: فما عسى أن يكون هذا القمر؟ وماهي طبيعته؟ ولماذا هو بالذات الذي نتعشقه في أحلامنا؟.. وأين يسافر بالليل.. أو أين يكون في النهار؟ ومتى نرى تلك الصور «البقع» الظلية التي تلوح في محياه الجميل؟ وهل هو حقيقة مانسعى إليه في توقنا للمجهول والغامض أو لأنه رمز قريب لكنه ذاتنا؟ أو هل ينظر إلينا الآن؟.. أولم نهتف في طفولتنا: أن ثمة شخصاً يتحرك أو يسير فوق القمر؟ وأن القمر أينما نسير يسير معنا.. ولقد نصيخ السمع أحياناً.. في نطاق فردي ضيق فنستصدر القمر أصواتاً يخيل إلينا أنه يهمس بها لنا وحدنا، فيما هي أصواتنا الداخلية تنسج الحلم الوثني!
ونحن اليوم لانحس معنى لهذه الربوبية أو «السيادة»، ولكن دع الكهرباء تنطفي في إحدى المدن الشرقية «الشرقية: لأنه لاتزال تحتفظ بأبنيتها القديمة المتقزمة فيتحد المنظر العام لنجد كيف ننكفا على أنفسنا نفتش فيها عن أخيلة الماضي ونستعيد رؤاه ونعتصر ذكراه.. وكل ذلك يجري تحت ضوء القمر.. وفي هذا الظرف يتجمع الناس خارج البيوت لينسجوا الحكايات، ويلعب الأطفال معا، وفجأة تقفز إلى أذهانهم: كل أغاني القمر المطوية في ذواكرهم مما تعلموه عن الأهل، تماماً كما يحدث عند كسوف القمر.. أوتساقط المطر!.. فلكل ظرف أغنياته التي لاينساها الأطفال، فما الذي يحدث عندئذ؟.. إن جميع المدن تسقط في تلك اللحظة بكل تداعياتها ولايبقى إلا وجه القمر يغزل الأحلام ويبثها في نسيج الحكايات والأساطير والأغنيات، ويدخل خدر العروس المنتظرة فيدغدغ أحلامها بدفء المشاعر ورقتها، ويملأ قلب المغني المجهول بالبهجة ويصور له عوالم سعيدة خلف الواقع الفاني الميت، وربما آمال عذاب تنتظره خلف عتبة الباب، ويحنو على الشيخ المقرور في ركنه الميتم فيشع الدفء في نفسه ويبدد الوحشة من حوله إذ تطفو إلى صدره ذكريات آبقة تملأ عالمه الفارغ فيحيا الماضي والحاضر والمستقبل دفعة واحدة داخل لحظة زمنية قصيرة تمتد في حلم واحد طويل ينتهي داخل الجنة، ويغشي مهد الصبي أو سريره عبر النافذة المفتوحة فيلامس بشرته الناعمة الطرية بنعومة ورقة ردائه الفضي المنسوج برفيف النور، فيجلب النعاس إلى عينيه متدرجاً بطيئاً، ثم لايلبث أن يداعب وجهه الصغير النائم ويضاحكه في التخفي وراء غيمة عابرة.. فأي رؤى حلوة، تلك التي التي يراها الطفل النائم؟
وهكذا كان الاطفال كغيرهم من الناس يتغنون أحلاماً ورؤى عذبة هي أشد عمقاً وأبعد مدى في التعبير عن عاطفة أو انطباع أو إحساس أو غير ذلك من الحالات الذهنية لتجارب مغلفة بالغموض من تلك التجارب المحسوسة المباشرة التي تضمنتها أغانيهم: أغاني القمر، وفي هذا كله يتجلى معنى السيادة عند استشرافنا للبدر، ولكن هيهات لنا اليوم أن نرى كل هذا التجلي الكامل بعد أن رأينا تيار النور الدافق، ولم يعد يتعاقبنا النور والظلام.. فما أن مات القمر حتى انطفأت معه من ثم كل الأحلام التي خبرناها؛ كما انطفأت تلك الأغنيات.
فالشاعر الشعبي كما أردنا هنا فيما يعرض لأطفالنا من صور الشعر المتقحمة على نمط التربية الحديث والذي اعتاد التمرس بالبيئة في جميع مظاهرها العامة، لم يكن قديماً يعير جوهر اللفظ في صورته المجردة الدالة على المعاني الكلية كبير عناية، بل نجده يتخاطب عن طريق الصور الحسية المباشرة.. حتى وهو يتحدث عن «الآله» فإنه يرسم له صورة من طريق لطف آثاره على الكون.. وبهذا يستقيم له المعنى ويبلغ غايته من طريق «التخييل والإقناع» كما رأينا في "المتتالية: صلاة للمطر".
ومن المؤكد أن أمثال هذه النماذج لاتنجم عن الأطفال، وإنما قد أنشأها الكبار أو الأمهات وهي تعرب عن أمانيها الجياشة وامتداحها أو تحببها لولدها فتمثله قبل اكتمال نموه بالقمر، إمعاناً في تأكيد لطافة نوره وإشراقة وجهه ودماثة خلقه واتزانه.. وعموماً بهجة منظره وسلطانه يبسطه على الكون كله، كل ذلك مقروناً بإعزاز الأم له، وكلها صور محسوسة يستقبلها الطفل من طريق أمه كما لوكانت وحيا بأيات، ويتمثلها في ذهنه وتنفعل بها نفسه فيتمنى أن يصير إليها، وينزع إليها منزع التأمل، بل ويبدأ منذ تلك اللحظة أو الهنيهة يعمل كل طاقته التأملية مستخدماً إدراكه الحسي خلال هذه التجربة الشعورية ليبلغ هذا الشيء!.. وكل ذلك يتم هنا تحت صورة «المثال»؛ أي القمر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.