عناصر الانتقالي تقتحم مخبزا خيريا وتختطف موظفا في العاصمة الموقتة عدن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    تقرير... مخطط الحرب واحتلال الجنوب سبق إعلان الوحدة    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    العلامة الشيخ "الزنداني".. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    على طريقة الاحتلال الإسرائيلي.. جرف وهدم عشرات المنازل في صنعاء    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    التعاون الدولي والنمو والطاقة.. انطلاق فعاليات منتدى دافوس في السعودية    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    18 محافظة على موعد مع الأمطار خلال الساعات القادمة.. وتحذيرات مهمة للأرصاد والإنذار المبكر    خطر يتهدد مستقبل اليمن: تصاعد «مخيف» لمؤشرات الأطفال خارج المدرسة    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    اسباب اعتقال ميليشيا الحوثي للناشط "العراسي" وصلتهم باتفاقية سرية للتبادل التجاري مع إسرائيل    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    وفاة شابين يمنيين بحادث مروري مروع في البحرين    الحوثيون يلزمون صالات الأعراس في عمران بفتح الاهازيج والزوامل بدلا من الأغاني    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اعتراف أمريكي جريء يفضح المسرحية: هذا ما يجري بيننا وبين الحوثيين!!    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    ضربة قوية للحوثيين بتعز: سقوط قيادي بارز علي يد الجيش الوطني    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يعزز مركزه بفوز على بلباو    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    قيادية بارزة تحريض الفتيات على التبرج في الضالع..اليك الحقيقة    قبل شراء سلام زائف.. يجب حصول محافظات النفط على 50% من قيمة الإنتاج    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    فريق طبي سعودي يصل عدن لإقامة مخيم تطوعي في مستشفى الامير محمد بن سلمان    "نهائي عربي" في بطولة دوري أبطال أفريقيا    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تربية الشعور في الأسلوب الشعبي، أنموذج: « العرائس والقمر »
أغاني القمر في أدب الأطفال:
نشر في الجمهورية يوم 13 - 02 - 2007

"إن العالم الذي ينتظم في أذهان الأطفال لهو عالم غني جداً أوبهي حقاً حتى لتعجب هل هو حصيلة نشاط لأفكار مكتسبة أو هو تذكر لوجود سابق وتشوف لمعالم سحرية في كوكب مجهول؟"
جيراردي نيرفال
في قصة رحلته إلى الشرق
لقد ظل الرمز في الأدب الشعبي العربي يضطلع دائماً بالتعبير عن الواقع المتشوف أو المتطلع نحو العدالة والحق والخير والجمال، على أن هذا الواقع قد يجنح إلى آفاق الخيال الواسعة «إلى عوالم سحرية بعيدة» تتشوف الطفولة الإنسانية الوصول إليها بحاستها الغريزية أو المبدعة.. وإلى هذا كانت تلمح الدكتورة سهير القلماوي حين تقول:
"أي ذخر من الأغاني يمكن أن يدرسه الفولكلوري ويستخرج لنا حقائق عن تذوق أطفالنا الفني، عما يحرك وجدانهم، عن لعبهم، عن وظيفة الأغنية في حياتهم وفي ألعابهم وفي إقامتهم وفي تفكيرهم وفي تطلعاتهم العطشة المشرئبة نحو غامض مجهول حيث كل الأحلام محققة.
وهنا نقترب من نمط «المثال» في أغاني الأطفال الشعبية والتي كانت قد عالجت موضوع القمر بأسلوب التفعيل والتخيل لأغراض تتعلق بتربية الشعور أو تربية الإدراك الحسي، وذلك في إطار الرمزية المغرقة في الخيال.. ولكنها الخيال الموضوعي الذي ظل يتخذ صورة «المثال» في العقل الشعبي بوحي تصوراته القديمة، بل حلمه القديم في الوصول إلى القمر على صهوة الجواد الطائر بمعزى الوصول إلى العروس الجميلة! والأمر كذلك مع فتى الأحلام الجميل، وقد درج التعبير الشعبي على التقاط هذا المعنى بالانقياد لعناصر الأسطورة في العالم القديم فيما حفظته لنا الذواكر الشعبية من رواسب ثقافية مازلنا نشهدها إلى اليوم على شكل طائفة من المراسيم والطقوس والعادات، ومن خلالها نشأ التمثل بالقمر حين كان قد غدا "المثل الأعلى" في التصور الخيالي الموضوعي كوحدة قياس لأعلى درجات التشخيص الجمالي في الفن الشعبي، لاسيما بعد أن لوحظ وهو يدرج إلى الكمال، فاعتبر بذلك الرمز الكامل للقيم الموضوعية الرئيسية: «الجمال، العدل، الحق، الخير»!
وعلى هذه الصورة جرى تأليه القمر في الفكر الأسطوري مما كان قد علق بالبديهة الشعبية وحيث كان قد ارتبط في تصور الإنسان منذ القدم بالطمث عند المرأة أو بالتحول من مرحلة الطفولة إلى مرحلة المراهقة، وبالاتزان في الحركة والسلوك حتى صارت تضبط به الشهور وتعين به مواقيت الصيد، ومواقيت الزراعة والحصاد ومن أجل ذلك قرنه الإنسان بالمطر فكان بذلك رمزاً للخير.. ومن موازنته بالظلمات التي تكتنفه فقد اقترن بالسحر والعرافة، ومن اتزانه أيضاً في الحركة والسلوك وارتباطه بالتقويم فقد قرنه الإنسان بالحكمة والتعقل فكان بذلك رمزاً للعدل حتى لقد ظهر في الأساطير شيخاً حكيماً يفض النزاعات بين الآلهة، كما أن علاقته بالحساب والقياس قد جعل الإنسان يربطه بالميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات عند حساب الموتى فكان بذلك رمزاً للحق.. وحيث أن القمر قد ظل ولايزال يستدعى في المعتقدات الشعبية ك "قوة" لفك الغموض والإبهام، ولحفظ الإنسان مما قد يصيبه من الشر تحت لائحة اسمه القديم "سين" فإن ذلك كله قد تداعى في أسلوب نفسي، وكأحد المثيرات الحيوية في ميدان التربية الشعورية لأن يعتبر القمر ولحقب طويلة منذ أن نشأت الأسطورة بأنه "السيد"، حين رفع إلى مقام الألوهية وذلك لما كان قد اقترب من الكمال الكلي الذي يميز عالم المثل.
وهكذا تلتقي الملاحظة والأخيلة بما كانت قد اختزنته العقلية الشعبية من رواسب ثقافية عن آلهة القمر في الفكر الأسطوري لتتجاوز الإدراك الحسي المباشر للصورة الجمالية المنظورة، إلى الرغبة في بسط السيادة الكاملة عن طريق الاتصال أو التشبه بتلك الرموز التي يكتنفها القمر.
وعلى هذا، كان الأطفال وقبل أن ينطلقوا إلى الجبال بعهد بعيد حيث يتبعون الذبيحة التي يقتادها الكبار ليقدموها قرباناً للإله «؟» طلباً لنزول المطر.. أو يتبعون موكب الحاج أثناء انطلاقه إلى الأراضي المقدسة «مكة المكرمة»، كانوا يجتمعون للعب في الأمسيات المقمرة، فيتحلقون على شكل دائرة ويرقصون.. أو تؤرجح الأمهات مهد الصبي في الليل في غناء عذب ساحر.. والجميع كانوا يرددون تلك الأهزوجة "المتتالية":
"وسيدي سافر مكه"
وحين نسأل اليوم بعض الشيوخ عن معنى تلك الثيمة التي تتردد في جميع أو في معظم المتتاليات العربية التي تحمل صور هذا النموذج الذي يجرى في أغنيتهم الشهيرة هذه، لاسيما حين كانوا أطفالاً.. فإنهم يجيبون برد واحد: "القمر، سيدي سافر مكه تعني القمر وهو ينحدر صوب مكه، وكنا نلعبها في الليل!.. سيدي تعني القمر"! ولايزال ذلك عند بعض الشيوخ كما كان "ود" القديم، أو المقه العظيم.
وعلى ذلك أيضاً فلسنا نجد غرابة إن وجدنا أطفال الكويت يرددون «أثناء الليل»:
لامشى السيد مشينا غابت القمره علينا.
وسوف نرى في هذا الفصل كيف اتجه الرمز إلى القمر بمعنى "التسود" في أسار العقيدة الدينية وبعد أن غاب ذلك في هجر القول، وعلى ذلك نأخذ أغنية "العرائس والقمر" لنصل من طريقها إلى جوهر هذه السيادة في اللفظ أو «الجذر الثقافي» لمعنى "السيد" وبعد أن نعرض لفضول القول وهو ذو علاقة حميمة بالموضوع.. تقول الأغنية:
ياشجرة البسايس
عودك أخضر ويابس
باشله باشعبكه
بالعب به عرايس
فلطالما سمعنا ومازلنا نسمع هذه الأغنية تجري على لسان كل فتاة في بعض مدن وقرى اليمن لاسيما في عدن، وهي شرح واف لميول كل من تمتلك في نفسها مزايا الإناث بما تتسم به لعبتها المفضلة هذه «أي: العرائس» والتي تجد فيها «مثالاً» لما سوف تصير إليه في مستقبل حياتها، وعلى النقيض نأتي لنكمل الأغنية:
ياشجرة الفقي عمر
عاد الفل ماضمر
باشله باشعبكه
بالعب به على القمر
سرعان ماتحول المعنى هنا من الواقعية في المقاطع الأولى إلى الرمزية في الثانية، وبما أن الطفل كثيراً مايعزف عن عالم الواقع ليلجأ بالتالي أو ليسلم لتيار التخيلات والتأملات في لعبه، وهذا مايحدث على الشاطئ إذ نلفيه يبني أشكالاً هندسية غريبة الصنعة، فهذا ماحدث هنا أن ارتأت الطفلة في القمر صورتها التالية «صنو العروسة ال لعيبة»، ومن جو هذه المقاطع يمكننا أن نلمس اتجاه الطفلة كفرد في المجتمع له شخصيته التي يستقل بها، وهذا بعض من الصورة المتكاملة يضاف إلى ظروف الجمال التي علقت بالتصور القديم للقمر.
وذلكم أيضاً هو الجميع بين الواقعية والرمز في ظرف من ظروف الإبداع في التصوير الشعبي، وكما نجد في كثير من الصور الغنائية عند الأطفال، إنها: أمانيهم، وهي أماني التربية الشعبية تضعها على صورة «مثال»، وتحرص على أن يكون هذا المثال أقرب إلى تصوير الخيال Imagination منه إلى تصوير الوهم Fantasy، والوهم كالذين قالوا لأنفسهم أو قالوا للأطفال في عصرنا: الصواري لها أجنحة/ والنخيل له أجنحة/ والجبل مروحه، فلا يستشف الطفل معنى لأجنحة الصواري والنخيل، وليس بمكنته أن يرى كيف يكون "الجبل مروحه" وذلك عند البنائيين تعقيد معنوي؛ أو مجاز بعيد العلاقة.. وبالنسبة للطفل فهي صور وهمية لاتلبث أن تتلاشى معها "صورة اللفظ".. إنها أحلام الكبار تتقحم الصغار!.. ويشدني إلى هذه النظرة قول الشاعر العربي اليمني المعاصر لطفي جعفر أمان وهو يشير إلى الصور الخيالية المنظورة «في الشعر» كما يجدها الأطفال، والتي كما أرى أن قد أريد للأطفال منها امتصاص صور معنوية يلفها كيان محسوس «ذو طبيعة غائية» هي بالنسبة لنا تمثل حقيقة من الحقائق الكونية ترد في صورة "مثال" وكنموذج" القمر، يقول لطفي:"فهم يستطيعون أن يشاهدوها، ويشيروا إليها بل ويلمسوها بأصابعهم».. ونجد مثالاً لذلك في اللعب بالقمر كما نصت عليه أغنية الأطفال، ومن ميزة الجمع في التواقع والتماثل بين "العروسة والقمر" في هذه الأغنية تنفرط عدد من الصور إلى مخيلات الناشئة تتألف «مثالاً» يرقى إليه الشعور بالحب والقداسة وجلال الوجود قرب أو أثناء فترة التحول من الطفولة إلى المراهقة.
ولايزال هذا المقال يشدني إلى تلك الصور الخيالية المحسوسة التي كنا اختبرناها في بداية تجربتنا الحسية أثناء مرورنا بمرحلة الطفولة الباكرة.. وقد أورد لطفي في هذا الصدد قول أحد النقاد الأفرنج، بترجمته له:"نحن نستطيع أن ننمي في أنفسنا حدة التأثر الحسي باتصالنا المباشر بالحقائق، وأن نغذي حياة الآخرين الخيالية.. وأن نتناول الصور التي هي أصل الثروة التي يتمتع بها الخيال لتنمية ذلك التأثر الحسي».. ويشير الناقد بعد ذلك إلى نماذج من صور الشعر الغربي توفي بهذا الطرد ويقول إننا لن نتفهم خاصيتها المعبرة الدسمة إن لم نحتك بالأشياء الحقيقية التي تشير إليها احتكاكاً حسياً مباشراً، ويترجم لنا لطفي قوله فيما يتمخض عن تلك الصور الحسية المباشرة من عواطف زاخرة فياضة، وقد جاء ذلك في قوله: "إلا أن أمثال تلك التجارب الحسية قد يحولها الشاعر إلى اتجاه آخر فتساعد على التعبير عن أحاسيس وانطباعات وعواطف وغيرها من الحالات الذهنية مما لاتنطوي عليه تلك التجارب الحسية".. فالتجارب الحسية كما يقول لطفي مفسراً ذلك: حقيقة في خيال الشاعر.. ثم تزخر بحيوية دافقة مفرطة حتى إنها تنأى عن التجارب المحسوسة.. وتمتزج بتجارب أشد عمقاً وأبعد مدى ثم تفرغ شحنتها من الجمال لاستثارة العاطفة في تعبير موفق عن تلك التجارب المغلفة بالغموض.
وهكذا حيث كنا قد أشرنا إلى مايتفتق عن تلك الصور الحسية المباشرة في أغنية الأطفال من استطرادات عاطفية غير ماعولت الأغنية في حقيقتها الأولى، فالأغنية حين توفق في الربط بين "العروسة" و"القمر" على نحو تلك الصورة الجمالية، فإنها تفجر فيما بين ذلك فيضاً من الأحاسيس والعواطف العامرة بالخيال غير ماأنطوت عليه تلك الصورة ومما لو كانت الإشارة إلى القمر وحده.. أليس هذا هو مايفعله الشاعر الحديث رغم ما قد يبدو من سذاجة المقارنة وبؤس الصورة في الأولى وهو حين يريد أن «يبدع» أو يرسم منظراً لوطنه فإنه يعرضه على مستويين في آن واحد، فينقلنا عبر الواقعة الحسية «في المثال القريب» إلى الواقعة المتخيلة المحسوسة بصورة من الصور «في المثال القريب»، وكما يفعل إذ ينقلنا من صورة العصر إلى صورة الماضي البعيد رمز سؤدده في "لحظة شعرية" وذلك حين ينصب في مشبه كبير: قيمة اجتماعية أو عنصر إنساني أو بعد حضاري.. أو أثر أدبي أو سياسي..أو مثال من المثل ينزع لاستقدامه إلى الواقع أو أن يرفع هذا الواقع إلى مصافه، وكاستخدام الأسطورة للتعليق على الواقع أو تفسيره؛ «النموذج اليمني: الأرض/ الأم «:» بلقيس أو/ شمس الحضارة».. فإن الشاعر ينشد فيما يأتي به الحلم على نحو ذلك المثال: السطوع في عوالم من السحر أو المعرفة تبرأ بها أسئلته، وعوالم من الإسعاد أو الرفاه يظفر منها بلقمة كبيرة تحتبس كل المذاق.. ثم أليس الحلم هو تلك الأصوات التي تصلنا من الماضي: من بئر الرجعية العميق، ومن بئر الحرمان وتذهب بالضرورة في هذا المقابل صوب المثل الأعلى؟.. وهكذا يمكن أن تنشأ علاقة مماثلة بين العروسة والقمر.
إن اللعب بالألفاظ أو بالصور المحسوسة بين المقطعين من طريق اللعب مرة بالعروسة.. ومرة بالقمر في صورة من صور التزاوج بين الواقع والخيال وبين المكان والزمان.. كما هو دأب الحلم، قد اختزن عدا هذه التجربة الحسية التي اشتملت أبعاداً نفسية وسلوكية واجتماعية، شحنة من العواطف الغامضة تنأى عن التجارب المحسوسة.. وذلك حين يسرح الطفل بنظره بعيداً ليبصر في القمر ذلك «الإله» وكما بدر في الأسطورة خلال مراحل الطفولة الإنسانية ليتصور الطفل أنه «الله»! فالشاعر الشعبي كان قد عبر عن مقاصده في ذلك النمط الشعري للأطفال وفرغ مما أراد.. ولكن الأغنية لاتلبث أن تستمر من بعده بشحنة الوجدان التي أفرغها بداخلها، في إثارة مكمن الخيال الواسع عند الطفل إلى أشياء خارجة عن الموضوع القليل للأغنية.. ولكنه بسببها يتحول الطفل إلى علاقة صميمه مع المثال: فما عسى أن يكون هذا القمر؟ وماهي طبيعته؟ ولماذا هو بالذات الذي نتعشقه في أحلامنا؟.. وأين يسافر بالليل.. أو أين يكون في النهار؟ ومتى نرى تلك الصور «البقع» الظلية التي تلوح في محياه الجميل؟ وهل هو حقيقة مانسعى إليه في توقنا للمجهول والغامض أو لأنه رمز قريب لكنه ذاتنا؟ أو هل ينظر إلينا الآن؟.. أولم نهتف في طفولتنا: أن ثمة شخصاً يتحرك أو يسير فوق القمر؟ وأن القمر أينما نسير يسير معنا.. ولقد نصيخ السمع أحياناً.. في نطاق فردي ضيق فنستصدر القمر أصواتاً يخيل إلينا أنه يهمس بها لنا وحدنا، فيما هي أصواتنا الداخلية تنسج الحلم الوثني!
ونحن اليوم لانحس معنى لهذه الربوبية أو «السيادة»، ولكن دع الكهرباء تنطفي في إحدى المدن الشرقية «الشرقية: لأنه لاتزال تحتفظ بأبنيتها القديمة المتقزمة فيتحد المنظر العام لنجد كيف ننكفا على أنفسنا نفتش فيها عن أخيلة الماضي ونستعيد رؤاه ونعتصر ذكراه.. وكل ذلك يجري تحت ضوء القمر.. وفي هذا الظرف يتجمع الناس خارج البيوت لينسجوا الحكايات، ويلعب الأطفال معا، وفجأة تقفز إلى أذهانهم: كل أغاني القمر المطوية في ذواكرهم مما تعلموه عن الأهل، تماماً كما يحدث عند كسوف القمر.. أوتساقط المطر!.. فلكل ظرف أغنياته التي لاينساها الأطفال، فما الذي يحدث عندئذ؟.. إن جميع المدن تسقط في تلك اللحظة بكل تداعياتها ولايبقى إلا وجه القمر يغزل الأحلام ويبثها في نسيج الحكايات والأساطير والأغنيات، ويدخل خدر العروس المنتظرة فيدغدغ أحلامها بدفء المشاعر ورقتها، ويملأ قلب المغني المجهول بالبهجة ويصور له عوالم سعيدة خلف الواقع الفاني الميت، وربما آمال عذاب تنتظره خلف عتبة الباب، ويحنو على الشيخ المقرور في ركنه الميتم فيشع الدفء في نفسه ويبدد الوحشة من حوله إذ تطفو إلى صدره ذكريات آبقة تملأ عالمه الفارغ فيحيا الماضي والحاضر والمستقبل دفعة واحدة داخل لحظة زمنية قصيرة تمتد في حلم واحد طويل ينتهي داخل الجنة، ويغشي مهد الصبي أو سريره عبر النافذة المفتوحة فيلامس بشرته الناعمة الطرية بنعومة ورقة ردائه الفضي المنسوج برفيف النور، فيجلب النعاس إلى عينيه متدرجاً بطيئاً، ثم لايلبث أن يداعب وجهه الصغير النائم ويضاحكه في التخفي وراء غيمة عابرة.. فأي رؤى حلوة، تلك التي التي يراها الطفل النائم؟
وهكذا كان الاطفال كغيرهم من الناس يتغنون أحلاماً ورؤى عذبة هي أشد عمقاً وأبعد مدى في التعبير عن عاطفة أو انطباع أو إحساس أو غير ذلك من الحالات الذهنية لتجارب مغلفة بالغموض من تلك التجارب المحسوسة المباشرة التي تضمنتها أغانيهم: أغاني القمر، وفي هذا كله يتجلى معنى السيادة عند استشرافنا للبدر، ولكن هيهات لنا اليوم أن نرى كل هذا التجلي الكامل بعد أن رأينا تيار النور الدافق، ولم يعد يتعاقبنا النور والظلام.. فما أن مات القمر حتى انطفأت معه من ثم كل الأحلام التي خبرناها؛ كما انطفأت تلك الأغنيات.
فالشاعر الشعبي كما أردنا هنا فيما يعرض لأطفالنا من صور الشعر المتقحمة على نمط التربية الحديث والذي اعتاد التمرس بالبيئة في جميع مظاهرها العامة، لم يكن قديماً يعير جوهر اللفظ في صورته المجردة الدالة على المعاني الكلية كبير عناية، بل نجده يتخاطب عن طريق الصور الحسية المباشرة.. حتى وهو يتحدث عن «الآله» فإنه يرسم له صورة من طريق لطف آثاره على الكون.. وبهذا يستقيم له المعنى ويبلغ غايته من طريق «التخييل والإقناع» كما رأينا في "المتتالية: صلاة للمطر".
ومن المؤكد أن أمثال هذه النماذج لاتنجم عن الأطفال، وإنما قد أنشأها الكبار أو الأمهات وهي تعرب عن أمانيها الجياشة وامتداحها أو تحببها لولدها فتمثله قبل اكتمال نموه بالقمر، إمعاناً في تأكيد لطافة نوره وإشراقة وجهه ودماثة خلقه واتزانه.. وعموماً بهجة منظره وسلطانه يبسطه على الكون كله، كل ذلك مقروناً بإعزاز الأم له، وكلها صور محسوسة يستقبلها الطفل من طريق أمه كما لوكانت وحيا بأيات، ويتمثلها في ذهنه وتنفعل بها نفسه فيتمنى أن يصير إليها، وينزع إليها منزع التأمل، بل ويبدأ منذ تلك اللحظة أو الهنيهة يعمل كل طاقته التأملية مستخدماً إدراكه الحسي خلال هذه التجربة الشعورية ليبلغ هذا الشيء!.. وكل ذلك يتم هنا تحت صورة «المثال»؛ أي القمر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.