عندما تحترق الأقدام ، تتأرجح الرؤوس بين الأنقاض ، بين الأكواخ تغوص الذاكرة مبعثرة الزوايا ، كروائح الموت والمطر ، هي أنشودة المطر ، بقايا حزن ، وبكاء بلدٍ غارق بالشجن ، وحديث القادمين إليه ، إلى الرافدين عبر كل الأزمنة والعصور ، من جلجامشن وعشبته الضائعة إلى وجلة نازك الملائكة وجيكور بدر شاكر السياب ، الذي لم يأتها المطر ليمسح الغبار عن الأحذية القديمة. الرافدين ، بلد الأساطير العربية ومخزنها التاريخي ، الرافدين مهبط الحزن والغربة والحنين ، التي جسدت بشاعر الحزن النحيل بدر شاكر ، الذي عانق الأسطورة بين دهاليز القلب واشتعال الغياب ، وانسياب الأسطورة بين ثنايا المطر فكانت «أنشودة المطر» قصيدة السياب الحزينة الذي مازال حزنها يلف بغداد حتى اللحظة ، يقسم دجلة لتصنع مأتماً يصل الطريق بين الأمس وضحى المغيب عند محارات الخليج ، وسمو نخيل البصرة المتعانقة مع برودة الشتاء ، وضباب المواجع ، وانسياب الألم بين يدين خشنتين ، تعصرني ، وتعصر العراق بلد الخليج واهب المحار ، والضياع لتحملق في الفراغ بين متاهات الخريف من جديد ، لتشتد وطأة الحزن في شواطئ الفرات بلا غياب ، بلا سديم ، وحده الليل هو المخيم في سماء الرافدين لتبكي الأسطورة مهدها الأول ، لتبكي بابل بحزن الأرض والسماء ،حيث تتماوج الأحزان في قلب الشاعر يرثي نفسه المنتقلة من منفى إلى آخر وراثي العراق وصراعاته ،وذلك للدلالة على عدم الاستقرار الروحي: عيناك غابتا نخيل ساعة السحر أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر عيناك حين تبسمان تورق الكروم وترقص الأضواء كالأقمار في نهر يرجه المجداف وهناً ساعة السحر إنه الليل الذي يسود جو القصيدة من المفتتح حتى الختام ، ومازال هذا الليل جاثماً على صدر العراق ، الذي يرزح تحت أقدام محتل آخر ولد من رحم ليل سابق ، وبقت القسوة المتجردة في الإنسانية تلف ليل العراق فيخاطب العينين اللتين غدتا غابتا نخيلٍ في الهزيع الأخير من الليل إنها الصورة الرمزية الأسطورية التي ولدت من رحم المعاناة وليل الضياع ، وإن كانتا عينين جميلتين فاتنتين ، فتنة وسحر العراق ، إنها صورة أسطورية ببنائية رمزية جميلة تبعدنا عن المألوف لتصور المشهد الليلي الحزين والجميل في آنٍ واحد ليحدث التعالق النصي المبهر ، لتمتزج روح الأسطورة في البداية بجسم القصيدة وتصبح إحدى بناتها العضوية. إنه العش المعتم للأساطير كما يقال ، إذ تبدو التجربة الشعورية الإنسانية في أقصى درجاتها من شدة المعاناة ، فتكونت الصورة الرمزية الأسطورية المعبرة بالعينين والشرفتين والسحر والقمر ، إنه المشهد الأول من مسرحية الحزن ، حزن الأسطورة وحزن الزمن ، فنلاحظ الاحتشاد الكئيب حيث يمتزج بتباشير الفجر في تمازج لوني ، عصي على الوصف ، لتنقل الظلالات اللونية إلى القمر وتوهجه لتعطي لوحة فنية رسمت من مخيلة الواقع المرير ، وإن كانت أشعة القمر تنسدل بعذوبة لتصور المكان بدلالة روحية عميقة فيها من بهاء الصورة وسكونها في عالم الروح عند لحظات التجلي والهدوء الليلي الأخير ، فيكون ذلك الاستجلاء للبكاء المتعاظم ، حيث مخاطبة الروح في ثنائية متعانقة تعانق الثنائيات الكونية من عينين وغابتين وشرفتين ، لتلقي الأمكنة بين حضور جسدي وأرضي ومعماري ، «لأن العينين شرفتان باحرتان للجسد في بهائه وتوازنه» لايهدأ رفيفهما ، ولايستقر مافيها من ايحاء خاطف ، أما الغايتان فهما عينا الأرض ، وتأوهما الأخضر المشرئب الذي يمنحها الرسوخ والتناسق والجلال.. إذن هو الحنين العنيف للأرض والوطن ، التي استحضرته الأسطورة برفرها الحنيني إذ تجلت بعنف وقوة منذ وهلة ، وبذلك التركيب الدرامي المبتكر بفن وابداع خلاق ، ربط بين عالمين مرئي وغير مرئي ، فكان الحزن المغلق بالليل ، فتشكلت اللغة بأسلوبية فنية فيها من الرموز والمنطق العذب وهو منطق الخيال الذي وظف الأسطورة لتستمر الحكاية وبالعذوبة نفسها وبنفسها الليلي الحزين. وتغرقان في ضباب من أسى شفيف كالبحر سرّح اليدين فوقه الماء دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف والموت والميلاد والظلام والضياء فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء كنشوة الطفل إذا خاف من القمر وتظهر هنا جلية صورة التشكيل الذي تميز به الشاعر ، معبراً عن أحاسيسه وخلجاته الموغلة في الأسى والحزن ، وتبدو علامات الفقدان والإحساس باليتم والعذاب بعيداً عن الحرية والسعادة اللتين افتقدهما الشاعر كثيراً ، فلم ينته الأسى ، ولا صورة الحزن ، فهاهي صورة الليل وهو يلف البحر بظلامه ، بل هي صورة العراق وهو يتأرجح بين المتناقضات من موت وميلاد وظلام وضياء ، إنه عدم الاستقرار سياسياً واقتصادياً وفكرياً واجتماعياً ، لذا يهزه البكاء البرئ كطفل صغير ينظر وهو مستلق إلى صفحة السماء ، فيجلى لنا الشحن الأسطوري والمناخ البكائي الحزين والليل الغارق في الظلام ، على ما في الصورة من الاستعارات المشخصة التي انطقت الطبيعة وجعلتها تحس وتشعر ، بل جعلت للاشياء المعنوية صفات محسوسة ، «كالبحر سرح اليدين فوقه الماء» وتهبط علينا ايحاءات تستولي على المشاعر لتتحول الصورة تحولاً جذرياً مع تساقط المطر: مطر مطر مطر وهذا التساقط ماهو إلا بكاء على الأرض فحالها حال صياد حزين لايحب المطر لأنه فال سيئ ، باعث للخسارة والحزن يذكرنا برائعة هيمنجوي ، العجوز والبحر ، إنها المأساة ، مأساة صياد بل مأساة شعب تلعب به الأقدار ، إنها المأساة ،حيث في الخليج نعم لاتحصى ، لكن الكل يبتعد عنها ويحترف الحرائق والمصائب فنجد شاعرنا يستغيب بهذا الخير ، خير الخليج ، لكن صوت الصدى يعود مدوياً: يا واهب المحار والردى إنها الجوقات التي تردد ، المحار والردى ، ومازال الصدى ، ومازال الجوع جاثماً على صدر العراق... وفي العراق جوع وينثر الغلال فيه موسم الحصاد لتشبع الغربان والجراد إنه الجوع الصورة الرمزية لأعداء العراق ، الذين يتوالدون في كل زمان ، إنها المعاناة والصراع ، في ليل الأسطورة والحزن والمطر الشاحب ، المطر الذي سيبقى رمزاً للأمل مابقيت الحياة ، وإنه النخيل رمز العروبة مابقي واقفاً شامخاً سيبقى العراق هكذا ربما ارادها الشاعر في الخاتمة إنها أيضاً تناقضات الحياة وإحساس الشاعر بهذا التناقض ولدت هذه الصور المعبرة من ليل الأسطورة وبكاء المطر ، من أعطاف الحزن ساعة السحر ، مطر..... مطر..... مطر....