الكشف عن غموض 71 جريمة مجهولة    شرطة صنعاء تحيل 721 قضية للنيابة    نيمار.. موهبة صقلها الفقر ودمرها المال    موقع أمريكي: صواريخ اليمن استهدفت الدمام و أبوظبي وتل إبيب    فقدان 60 مهاجرا قبالة سواحل ليبيا    بين صنعاء وعدن .. على طريق "بين الجبلين" والتفاؤل الذي اغتالته نقطة أمنية    ندوة في الحديدة إحياءً لذكرى رحيل العالم الرباني بدر الدين الحوثي    شاهد الان / رد البخيتي على مذيع الجزيرة بشأن وضعه على قائمة الاغتيالات    ترامب يؤكد ان مكان خامنئي معروف ويستبعد استهدافه وإسرائيل تحذّر من انه قد يواجه مصير صدام حسين    الحديدة.. فعاليتان في المنيرة والزهرة بذكرى يوم الولاية    الإمارات توضح موقفها من الحرب بين إيران وإسرائيل وتحذر من خطوات "غير محسوبة العواقب"    السامعي: حرب الكيان الصهيوني ليست على ايران وحدها وعلينا تجاوز الخلافات    الصحة العالمية: اليمن الثانية إقليميا والخامسة عالميا في الإصابة بالكوليرا    من يومياتي في أمريكا .. بوح..!    بنسبة 20%.. تخفيض أجور النقل من ميناء عدن إلى المحافظات الواقعة تحت سيطرة الحوثي    من يومياتي في أمريكا .. بوح..!    العبسي: تعرضنا للاعتداء من رجال مرور وكالوا لنا الشتائم    التربية تعمم باسعار الكتب الدراسية ! (قائمة بالاسعار الجديدة)    لأول مرة في تاريخه.. الريال اليمني ينهار مجددًا ويكسر حاجز 700 أمام الريال السعودي    إيران تطلق موجة جديدة من الهجمات وصافرات الإنذار تدوي في الأراضي المحتلة    افتتاح مشاريع خدمية بمديرية القبيطة في لحج    وزير الاقتصاد يلتقي المواطنين خلال اليوم المفتوح    إخماد حريق في معمل إسفنج بالعاصمة صنعاء    برشلونة يتوصل لاتفاق مع نيكو ويليامز    حوادث السير تحصد حياة 33 شخصاً خلال النصف الأول من يونيو الجاري    استعدادًا لكأس الخليج.. الإعلان عن القائمة الأولية لمعسكر منتخب الشباب تحت 20 عاما    أبو شوصاء يتفقَّد قصر الشباب ويطِّلع على مستوى الانضباط في الوزارة والجهات التابعة لها    الوزير الزعوري يناقش مع مؤسسات وهيئات الوزارة مصفوفة الأولويات الحكومية العاجلة    أخر مستجدات إعادة فتح طريق رابط بين جنوب ووسط اليمن    تلوث نفطي في سواحل عدن    على خلفية أزمة اختلاط المياه.. إقالة نائب مدير مؤسسة المياه والصرف الصحي بعدن    الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال رئيس أركان الجيش الإيراني الجديد    اسعار الذهب في صنعاء وعدن الثلاثاء 17 يونيو/حزيران 2025    الإفراج عن 7 صيادين يمنيين كانوا محتجزين في الصومال    طبيب يفند خرافات شائعة عن ورم البروستاتا الحميد    بالأدلة التجريبية.. إثبات وجود ذكاء جماعي لدى النمل!    صوت الجالية الجنوبية بامريكا يطالب بالسيادة والسلام    الشرق الأوسط تحت المقصلة: حربٌ تُدار من فوق العرب!    أمن العاصمة عدن يلقي القبض على خلية حوثية    قرار مفاجئ للمرتزقة ينذر بأزمة مشتقات نفطية جديدة    راموس: اريد انهاء مسيرتي بلقب مونديال الاندية    كأس العالم للأندية: تشيلسي يتصدر مؤقتاً بفوز صعب ومستحق على لوس انجلوس    وجبات التحليل الفوري!!    القائم بأعمال رئيس المجلس الانتقالي يتفقد مستوى الانضباط الوظيفي في هيئات المجلس بعد إجازة عيد الأضحى    البكري يبحث مع مدير عام مكافحة المخدرات إقامة فعاليات رياضية وتوعوية    تعز.. مقتل وإصابة 15 شخصا بتفجير قنبلة يدوية في حفل زفاف    بايرن ميونخ يحقق أكبر فوز في تاريخ كأس العالم للأندية    علماء عرب ومسلمين اخترعوا اختراعات مفيدة للبشرية    مناسبة الولاية .. رسالة إيمانية واستراتيجية في مواجهة التحديات    حصاد الولاء    مرض الفشل الكلوي (8)    من يومياتي في أمريكا .. صديقي الحرازي    هيئة الآثار :التمثالين البرونزيين باقيان في المتحف الوطني    وزير الصحة يترأس اجتماعا موسعا ويقر حزمة إجراءات لاحتواء الوضع الوبائ    - عضو مجلس الشورى جحاف يشكو من مناداته بالزبادي بدلا عن اسمه في قاعة الاعراس بصنعاء    سرقة مرحاض الحمام المصنوع من الذهب كلفته 6ملايين دولار    اغتيال الشخصية!    فشل المطاوعة في وزارة الأوقاف.. حجاج يتعهدون باللجوء للمحكمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اقتصاد يغدق فقراً
نشر في الجمهورية يوم 08 - 03 - 2007

التحول من دولة التكافل الاجتماعي المنقسم على نفسه تمر دول أوروبا الغربية منذ عدة سنوات بتحولات اجتماعية جذرية،فقد أمسى هم السياسات الاقتصادية والاجتماعية في هذه الدول يتركز في المقام الأول على تقليص دور الدولة وتخلّيها عن توجيه الاقتصاد الوطني وعلى خصخصة مشاريع القطاع العام.من ناحية أخرى أمسى التنظيم النقابي في مهب الرياح؛فكل البوادر تشير إلى أن الحكومات مصرة على سحب البساط من تحت أقدام النقابات العمالية وعلى الحد من حق العمال بالإضراب عن العمل.على صعيد آخر،تفاقمت البطالة الهيكلية ،أي طويلة المدى،وازدادت اللامساواة في توزيع الدخل القومي والثروة الوطنية وتدهورت الأوضاع المالية الحكومية بنحو لافت للنظر.
فالسياسات المنتهجة في الحقبة الحالية،حقبة الليبرالية المحدثة،تسحق الدولة حتى العظم.فالدولة وقعت في فخ لم تعد قادرة على التخلص منه:فمن ناحية صار لزاماً عليها أن تراعي متطلبات جذب الاستثمار الأجنبي وذلك من خلال تقديم الهياكل التحتية المغرية وتقديم تنازلات واعفاءات ضريبية متزايدة ومنح المساعدات المالية لأصحاب الثروة على أمل إغرائهم بالاستثمار في اقتصاد الدولة المعنية وماسوى ذلك من مغريات مالية أمست تقدمها الدولة وإن كانت،هي نفسها،على علم أكيد بأن هذه الاستثمارات المحتملة لن تحقق مردوداً مالياً يذكر،من ناحية أخرى،صارت الدولة تئن من ثقل الأعباء المالية الملقاة على عاتقها بفعل التحولات الاجتماعية المختلفة :البطالة المتفاقمة ،ارتفاع مستمر بالمدفوعات الاجتماعية وماسوى ذلك من نفقات حكومية كثيرة يتعين على الحكومة النهوض بها وإن كان عائدها الضريبي في تراجع مستمر بفعل تفاقم البطالة وتراجع دخول العاملين بأجر.
وإذا كانت غالبية هذه الدول قد ضحت بالكثير مما حققت من مكاسب اجتماعية،آملاً في أن يساعدها هذا على تحقيق الخفض المنشود لمعدلات البطالة ،إلا أن واقع الحال يشهد على أن هذه الدول كانت تركض وراء سراب لانفع منه ووهم لاخير فيه،ففي المنظور العام تتفاقم البطالة بنحو متواصل في الدول الرأسمالية.
بهذا المعنى ،لم يساعد المنهج الليبرالي المحدث هذه البلدان على التخفيف من وطأة البطالة،إن العكس هو الصحيح،فالسياسات الليبرالية المحدثة زادت من ضخاته المشكلة.
والمقصود بالليبرالية المحدثة تلك المجموعة من النظريات الاقتصادية التي ترى أن اقتصاد السوق والانفتاح الاقتصادي خير السبل لتحقيق المجتمع الحر وزيادة رفاهية شعوب العالم المنفتحة اقتصادياتها على السوق العالمية.
وفي الأصل،أي في نهاية اربعينيات القرن العشرين،كان الدافع لصياغة الآراء الليبرالية المحدثة يكمن في تفنيد الاشتراكية عامة الماركسية على وجه الخصوص وإدانتهما باعتبار أنهما«الطريق إلى العبودية»«ü» وفي ندوة اقتصادية عقدوها في باريس عام 1938 استخدم الاقتصاديون الناطقون بالألمانية فريدرش فون هايك وفلهلم روبكه وفالتر أويكن مصطلح الليبرالية المحدثة لأول مرة في التاريخ ،ولأن المؤتمريين لم يتفقوا على اسم لحركتهم الفكرية الجديدة ،لذا أطلقوا في الاجتماع الذي عقدوه عام1947م في مدينة مون بيليران «جمعية مون بيليران» على حركتهم الجديدة،وكان فون هايك،آنذاك ،على اعتقاد تام أن المنهج الليبرالي المحدث سيحتاج إلى جيلين أو ثلاثة حتى يهيمن على الساحة الفكرية ويغدو سياسة تنتهجها الحكومات،،وبالتالي فقد واصل فون هايك،بين الحربين العالميتين،جهوده لتطوير الليبرالية المحدثة أملاً في أن تغدونظرية متكاملة تهتدي بها السياسة الاقتصادية في المجتمعات الرأسمالية،فحصل بفضل ذلك على جائزة نوبل للاقتصاد في عام 1974.
وإذا كانت الليبرالية المحدثة قد ركزت جهودها في بادئ الأمر على تفنيد الاشتراكية المطبقة في أوروبا الشرقية ونظريتها الماركسية،إلا أن أهتمامها تحول في سبعينيات القرن العشرين صوب النظرية الكينزية التي هيمنت على الساحة الأكاديمية وكانت بمنزلة المنار الذي تهتدي به السياسة الاقتصادية المطبقة في البلدان الرأسمالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية،وكان هجوم الليبرالية المحدثة على النظرية الكينزية يتمحور حول ادعاء مفاده أن هذه النظرية لم تعد تلبي متطلبات الوضع السائد وذلك لأنها ليست ذات بال في شرح أسباب الركود الذي عصف بالاقتصاديات الغربية في سبعينيات القرن العشرين،فقال ملتون فريدمان،القطب الآخر في الحركة الفكرية المناوئة للفكر الكينزي ،بشن هجوم على النظرية الكينزية بدعوى أن هذه النظرية تنطبق على واقع اقتصاد مغلق،أي اقتصاد ليست له علاقات اقتصادية مع العالم الخارجي،وراح يصوغ نظريته النقودية (Monetarism)
كبديل عن النموذج الكينزي ،كما تكفل كل من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وكذلك منظمة التجارة العالمية بالهجوم على النظرية الكينزية والدعوة إلى المبادئ الليبرالية المحدثة.
فهؤلاء جميعاً أكدوا ضرورة التراجع عن السياسات الاقتصادية المسترشدة بالنظرية الكينزية،وعلى أهمية الانفتاح الاقتصادي وتحرير أسواق المال والسلع من القيود والتوجيه الحكوميين،تطبيقاً لمبادئ الليبرالية المحدثة، أوبالأحرى رداءها الاقتصادي الموسوم«النظرية الكلاسيكية المحدثة».
المهيمنة على أروقة كليات الاقتصاد في أغلب بلدان العالم في اليوم الراهن،فهذه النظرية توظف جل مقولاتها لخدمة أهداف ايديولوجية الطابع،أهداف تخدم مصالح رأي المال في المقام الأول.
ويعي الاقتصاديون ،على مايبدو أهمية الدور المناط بهم وفاعلية ما يصوغون من نظريات ومغزى مايستنتجونه من هذه النظريات،وكان الاقتصادي الأمريكي الحائز جائزة نوبل بول صامويلسون قد عبر عن هذا الوعي بعبارة مقتضبة لكنها عميقة المغزى حينما قال في حديث له مع مجلة الايكونومست :
«أنا لا أعير اهتماماً بمن يكتب قوانين الأمة...مادام كان بوسعي أن أكتب لها كتبها المدرسية الخاصة بعلم الاقتصاد».واستجاب القدر فعلاً لتطلعات صامويلسن:فهو لم يكتب لأمته فقط كتابها المدرسي،بل كتبه لأمم أخرى كثيرة ،إذ ترجم كتابه إلى العديد من لغات العالم وجرى طبع ملايين النسخ منه،وهكذا أصبح مؤلف هذا القطب الأول من أقطاب النظرية الكلاسيكية المحدثة إنجيل طلبة الاقتصاد وفرقان«üü» عالمنا المعولم.
يتناول كتاب «اقتصاد يغدق فقراً» النتائج التي ترتبت على تطبيق السياسات الاقتصادية المستقاة من المنهج الليبرالي المحدث وسبل الخلاص من هذه النتائج المدمرة.
فحسب رأي المؤلف تمر،حالياً ،الدول الصناعية التقليدية بالمرحلة نفسها التي مرت بها الارجنتين والعديد من دول امريكا الجنوبية في مطلع العصر الصناعي والهند إبان حقبة الاستعمار البريطاني،فقد دمرت حرية التجارة العالمية الصناعية في هذه البلدان وحولتها، من قم إلى أفقر دول العالم وتأسيساً على هذا المنظور يطالب المؤلف بإلحاح بضرورة التخلي عن مبادئ الفكر الليبرالي المحدث،فتجارب الديكتاتوريات الشيوعية في الماضي القريب خير دليل على استحالة تطبيق برنامج واحد على دول وشعوب العالم كافة .فكما هو الشأن مع الفكر الشيوعي المهزوم فإن الفكر الليبرالي المحدث «أممي»أيضاً بنحو ما،فهو يحاول بلا تمحيص وتدقيق،تطبيق القواعد نفسها على كل أمم غاضاً بذلك الطرف عن خصائص كل واحدة منها.
ويشتمل الكتاب على بابين ،عنوان الباب الأول هو:«وداعاً أيتها الرفاهية»وقسم المؤلف هذا الباب إلى ثلاثة فصول:
في الفصل الأول:«الوهم الكبير» ،ينطلق المؤلف من المعطيات الاقتصادية الكلية ويتوصل إلى نتيجة مفادها أننا إذا تجاهلنا بعض الحالات الاستثنائية،فسنلاحظ أن النمو الاقتصادي في ألمانيا قد اتخذ،منذ خمسينيات القرن العشرين،مساراً خطياً ،أي أن معدلات النمو كانت تتراجع من عام إلى آخر وأن هذه المعدلات ستبلغ الصفر مستقبلاً،وأبان المؤلف بنحو واضح أن النمو الخطي لايقتصر على ألمانيا فقط،بل هو ينشر ظلاله على جل الاقتصاديات الصناعية،من ناحية أخرى أقام المؤلف في هذا الفصل الدليل القاطع على أن المجتمع الألماني قد أخذ ينقسم على نفسه طيلة الحقبة الليبرالية المحدثة،وأن التفاوت في توزيع الثروة الوطنية في تفاقم مستمر،ومع أن صافي دخول العاملين بأجر كان في ارتفاع مستمر حتى عام 1970م.إلا أن الأمر الواضح هو أن ثمة تحولات جذرية باتت تنشر ظلالها على الحياة الاجتماعية :ففي الوقت الذي ترتفع فيه دخول المشاريع وأصحاب الثروة بمعدلات تفوق معدلات نمو الناتج القومي الإجمالي بكثير ،ظلت دخول العاملين بأجر عند مستواها المعهود،أي أن النمو الاقتصادي لم يعد يترك أي أثر يذكر على نمو هذه الدخول.
ويبين الفصل الثاني:«من يتحمل الأعباء:رأس المال أم العمل؟» إن الحكومات قد صارت ترمي العبء الضريبي على كاهل عنصر العمل أكثر فأكثر منذ أخذها بتطبيق المنهج الليبرالي المحدث،فإذا كانت النسبة القائمة بين الضرائب المستقطعة من الأجور والناتج القومي الإجمالي قد تضاعفت منذ عام1970م،يستنتج المؤلف من البيانات الإحصائية أن النسبة القائمة بين الضرائب المستقطعة من دخول اصحاب الثروة والمشاريع قد انخفضت بمقدار 50في المائة في الفترة الزمنية نفسها.
وفي الفصل الثالث:«الحلول السياسية واشكالياتها» أسهب المؤلف في مناقشة الاجراءات التي تتخذها،حالياً،الحكومات للتعامل مع الأزمة الاقتصادية الاجتماعية..ومن تحليله لهذه الاجراءات يستنتج المؤلف أن غالبية هذه الاجراءات مضيعة للوقت ،فهي عاجزة بالكامل عن حل المشاكل الهيكلية،والمعضلات الجذرية،وأنها لن تساعد على تخفيف الحيف اللاحق بالعاملين بأجر ناهيك عن أن تساعد على إلغاء هذا الحيف كليا.فالمشكلة الجذرية تكمن ،بحسب تصوراته ،في السوق العالمية المحررة من القيود وفي الانفتاح الاقتصادي على هذه السوق.
وراح المؤلف يعرض في الفصول الثلاثة التي يتكون منها الباب الثاني:
«اقتصاد عالمي غير مجد:هل نحن بحاجة إلى نظام عالمي آخر؟»العديد من الوقائع والأفكار ووجهات النظر المستقبلية.
فقد تناول في الفصل الرابع زيف الزعم القائل بأن التجارة الحرة خير وسيلة لتعزيز النمو الاقتصادي،فواقع الحال يفند هذا الزعم بنحو واضح.
ففي حين أدى تحرير التجارة الدولية إلى نمو هذه التجارة بنحو يكاد يكون انفجارياً،إذا ماأخذنا عام 1970 كسنة أساس،نما الناتج العالمي في جل الدول الصناعية التقليدية وفق مسار خطي لاغير،أي أنه نما بمعدلات متراجعة منذ العام المذكور،على صعيد اخر،سبب تحرير التجارة الخارجية والغاء القيود على حركة اسواق المال الدولية فقدان العمل أهميته في الكثير من دول أوروبا الغربية،وذلك لأن رأس المال صار قادراً على الانتقال إلى ما يسمى بدول الأجور المنخفضة أو الزهيدة.و،للتدليل على هذه الحقيقة يذكر المؤلف،على سبيل المثال لا الحصر، إن القطاع الصناعي الألماني قد نقل إلى خارج البلاد8.2مليون فرصة عمل في الفترة الواقعة بين عام1991م وعام2001م.
ويناقش المؤلف في الفصل الخامس سبل الحد من العولمة وتمكين الدولة من استعادة دورها في حماية اقتصادها الوطني،ويبرز المؤلف هنا دور الضرائب الجمركية في حماية الاقتصاد الوطني وأهمية وضع القيود على استيراد وتصدير البضائع والخدمات وماسوى ذلك من خطوات توجيهية،باعتبار أن هذه جمعاء تشكل عناصر مهمة وضرورية لتعزيز وإنعاش الاقتصاد الوطني عامة والطلب السلعي المحلي على وجه الخصوص.
في الفصل السادس:«إلى أين يفضي الدرب؟» يلخص المؤلف تصوراته بشأن النظام الاقتصادي العالمي الجدير بتخطي النتائج السلبية التي افرزتها العولمة وما نشأ عنها من بطالة جماهيرية وتفاوت في توزيع الخيرات ووهن في الأداء الحكومي وتراجع في معدلات النمو الاقتصادي وتفكك في البنية الاجتماعية.
وعلى خلفية هذه التطورات السلبية،لامندوحة من كسر طوق النظام الاقتصادي العالمي غير العادل والسعي إلى إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد إما من خلال تراجع الدول ،فرادى ،عن حرية التجارة الخارجية تماماً كما تراجع بسمارك عن قواعدها بعدما توحدت ألمانيا على يديه،وكما انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية عن هذه القواعد بعدما شرع الرئيس روزفلت بتطبيق سياسته الاقتصادية الجديدة.وإما بنحو جماعي وذلك من خلال الاتفاقيات والمعاهدات الموقع عليها في رحاب«منظمة التجارة العالمية».ولاريب في أن تراجع هذه الدولة أو تلك عن حرية التجارة الخارجية يحتم وجود سلطة سياسية لديها القوة والإرادة الضروريتين لاتخاذ هذه الخطوة الجذرية،أما التراجع عن حرية التجارة الخارجية في إطار «منظمة التجارة العالمية» فإنه لايحصل إلا في إطار مفاوضات تفترض توافر حد معين من القوة الاقتصادية والسياسية للدول المتفاوضة ،ويرى المؤلف أن إفلات دول العالم من فخ الليبرالية المحدثة لايمكن أن يتحقق على يد دولة اوروبية واحدة،بل يفترض تكاتف دول الاتحاد الأوروبي جمعاء لتحقيق هذا الهدف،فلا ألمانيا ولافرنسا ولا أي بلد أوروبي آخر يستطيع ،بمفرده ،تغيير النظام الاقتصادي العالمي،بهذا المعنى ينطوي تغيير النظام الاقتصادي العالمي على جانب سياسي أيضاً،أي أنه يتوقف على طبيعة القوى التي ستهيمن على الساحة الدولية مستقبلاً.
ولكن ما الخاصية الجديدة التي ينبغي بالاقتصاد العالمي الجديد أن يتصف بها،حسب وجهة نظر المؤلف؟
في النظام الاقتصادي الجديد لابد من التخلي عن التزام الحكومات بتقديم كل ماهو مطلوب لكي يحقق رأس المال أعلى ربح ممكن،بدلاً من هذا الالتزام على الحكومات أن تتعهد ليس بتحقيق الاستقرار الاقتصادي والحيلولة دون اندلاع الأزمات الاقتصادية فحسب،بل أن تلتزم أيضاً باتخاذ كل الخطوات الضرورية لرفع رفاهية المجتمع وتعزيز التكافل بين أبناء المجتمع الواحد،بالإضافة إلى هذه التعهدات والالتزامات على الحكومات أن تركز جهدها على توظيف الخيرات الاقتصادية لتخطي التفاوت الاقتصادي بين فئات المجتمع سواء على مستوى الدولة الواحدة أو على مستوى العالم أجمع.
فتخطي التفاوت الاجتماعي شرط ضروري لأن يتصف عالم المستقبل بالعدالة المنشودة والسلام المطلوب،فبلا عدالة ليس ثمة سلام دائم،وبلا سلام دائم،ليس ثمة رفاهية اقتصادية لأبناء المعمورة كافة وليس ثمة تنمية اقتصادية مستديمة.
بدلاً من تأكيد مصالح رأس المال،لابد من إعلاء شأن رفاهية القطاع الحكومي أيضاً،وذلك لكي يكون بمستطاع هذا القطاع تقديم الخدمات الضرورية لأفراد المجتمع كافة والنهوض بأعباء التكافل الاجتماعي بين أبناء الدولة الواحدة وأبناء المعمورة ككل.
إن هذه الأهداف لاتتحقق إلا إذا كانت هناك قواعد وترتيبات خاصة تراعي خصوصيات ومشاكل وطموحات كل إقليم من أقاليم العالم المختلفة .
بهذا المعنى لابد من أن تراعي مشاريع إصلاح النظام الاقتصادي ،في المقام الأول،مدى النفع الذي تحققه اقتصاديات العالم المختلفة من انفتاحها على السوق العالمية،فهذا النفع يختلف اختلافاً كبيراً من اقتصاد إلى آخر.كما أنه في تغير مستمر عبر الزمن،فماهو في مصلحة البلد المعني في اليوم الحاضر،قد يكون وبالاً عليه بعد حين من الزمن،ولهذا السبب لايجوز فرض الانفتاح أو الحماية التجارية على دول العالم من خلال قرارات وقواعد وترتيبات تنبع من توجهات ايديولوجية معدة مسبقاً و مستنتجة من تحليل نظري ينطلق من شروط لا وجود لها في دول العالم المختلفة.إن من حق كل بلد أن يتخذ لنفسه القرار المناسب لطبيعة ومستوى تطور اقتصاده الوطني.
وفي هذا السياق يسأل المؤلف عن السبب الذي يمنع الدول النامية من أن تنتهج لنفسها ذات الاستراتيجية التي طبقتها الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا في القرن التاسع عشر،حين انتهجت الدولتان السياسة الضرورية لحماية قطاعهما الصناعي الناشئ من مغبة المنافسة البريطانية غير المتكافئة؟فالبلدان ماكان لهما أن يطورا القطاع الصناعي لو لم يفرض حماية فعالة تقي الصناعة الوليدة من مغبة المنافسة غير المتكافئة،وإذا كانت الحماية التجارية سنفضي ،في نهاية المطاف ،إلى تفكك الاقتصاد العالمي كليه،فلا مراء في أن في الإمكان تلافي هذه المخاطر وذلك من خلال تأسيس تكتلات إقليمية تضم دولاً بلغت المستوى نفسه من التطور الاقتصادي والمستوى التكنولوجي ،ففي إطار هذا التكتل أو ذاك يغدو تحرير التجارة مع الدول الشريكة بالتكتل نفعاً أكيداً، إن سياسة التكتل هذه لاتساعد على تحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة فحسب،.بل هي تحقق أيضاً اقتصاداً عالمياً عادلاً إلى حد ما،أضف إلى هذا أن التكتلات الإقليمية تسمح لدول العالم المختلفة أن تطبق المعايير الاجتماعية المنسجمة مع المستوى الاقتصادي الذي بلغته دول التكتل المعني،أعني المعايير الضرورية لصيانة حقوق الطبقة العاملة،فبالنسبة إلى دول الاتحاد الأوروبي،على سبيل المثال،يتيح التراجع عن حرية التجارة الخارجية فرصة ثمينة للعودة إلى مجتمع التكافل الاجتماعي وإلى رفع معدلات الأجور الحقيقية الآخذة بالتدني،بنحو ضطرد،بفعل المنافسة الأجنبية ،أما بالنسبة إلى جل دول العالم الثالث،فإن التراجع عن حرية الانفتاح الاقتصادي ينطوي على فرصة مناسبة جداً لانتهاج سياسة اقتصادية ترمي إلى خفض معدلات الفقر في هذه البلدان وتساعد على التخلص من هيمنة الشركات العابرة للقارات على اقتصادياتها وسياساتها الوطنية.
وإذا ما انتهجت دول العالم هذه السياسة فإنها ستحول دون تفاقم المخاطر التي تتعرض لها الحياة الديموقراطية حالياً، فاستسلام الدول الوطنية لإرادة الشركات العابرة للقارات صار يشكل خطراً على إرادة الشعوب، فالدول المقيدة الإرادة لاتستطيع تمثيل إرادة شعوبها بالنحو المطلوب قطعاً.
وغني عن البيان أنه لايمكن الجزم مسبقاً بالحجم الأمثل للتكتل الاقتصادية المعني، فشروط هذا الحجم تتغير مع مرور الزمن وتختلف من اقتصاد إلى آخر بكل تأكيد.. ومع هذا، فإن الأمر الواضح هو أن أمريكا الشمالية والاتحاد الأوروبي سيظلان يلعبان أهم دور في هذا التكتلات بكل تأكيد.. وليس ثمة شك قط في أن دول جنوب شرقي آسيا ستلعب أيضاً، سواء مع الصين أو من غير الصين، دوراً مهماً في الاقتصاد العالمي، من ناحية أخرى فإن الهند، بمفردها، قادرة على أن تكون تكتلاً لا يستهان به في قائمة.
اقتصاد يغدق فقراً
التكتلات الاقتصادية المكونة للاقتصاد العالمي الجديد، من ثم، هناك دول أمريكا الجنوبية ودول القارة الأفريقية، فهذه الدول قادرة على أن تتخذ الترتيبات الاقتصادية والسياسية الضرورية لخلق تكتلات اقتصادية خاصة بها، تكتلات تمكنها لا من توحيد سياستها الاقتصادية حيال العالم الخارجي فقط، بل وتجعل لها، أيضاً، صوتاً مسموعاً في المحافل الاقتصادية الدولية.
ويعتقد المؤلف أن تكتل الدول المتناظرة اقتصادياً والمتشابهة اجتماعياً والمتضافرة سياسياً وتكوينها تكتلات، تتمتع بأكبر قدر من الحريات الاقتصادية داخليا وتتصف بتحكم الدولة في العلاقات الاقتصادية خارجياً، أي تتصف بقيام الإدارة السياسية للتكتل المعني بالتدخل في تحديد نمط العلاقات مع التكتلات الأخرى وبفرض الحماية التجارية مقابل هذه التكتلات، سيحد من انتقال المشاريع إلى العالم الخارجي وسيكون سوراً منيعاً يحول دون استمرار تدهور معدلات الأجور الحقيقية في البلدان الصناعية، ويرى المؤلف أن كل تكتل من هذه التكتلات يجب أن يكون بحجم لايعيق إدارة التكتل سياسياً ولايحول دون انتهاج قواعد للحياة الاقتصادية تضمن تحقيق الرفاهية لمواطني الدول المشاركة كافة في التكتل المعني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.