الصخب يتصاعد من المكان.. الأرض تمتلئ بالأقدام، وعلى الطاولة المتسخة تستلقي بذهول الأذرع العارية.. النادل ذو الفوطة القذرة يتماوج بين الطاولات بجسمه المرن بحركة آلية.. الكؤوس الممتلئة ترتفع وتهبط لتسقط فارغة في نهاية المطاف.. الرجل الناحل ذو الشعر (الأكرت) يتضاءل هيكله بين تلك الطاولات فيما تتسلل من عينيه الذابلتين علامات التساؤل الخاوية.. يده الناحلة لا تظهر بين غابة الأذرع المرتفعة والنادل الآلي لا تجذبه إلا السواعد الممتلئة التي تزدان معاصمها بالساعات الثمينة.. اليد النحيلة تحاول التحليق في سماء المكان والصوت الخافت تلتهمه الهمهمات النهمة.. ((عندما لا تجدي الأيدي يجب على الأقدام أن تصنع شيئا))!!.. قلت ذلك في نفسي وتحاملت بخمول باتجاه النادل الآلي الذي انعطف من خلف الطاولة واصلت مسيرتي بخطوات متهدجة.. أقدامي ذات النعل الرخيص لا تصدر دويا فوق لبلاط الشارع المرصوف.. كان وقع أحذية سوداء لامعة على الرصيف المقابل يدندن في أذني لم يتواصل ذلك الوقع الذي سرعان ما خلف سحابة من الدخان ورذاذ متطايرا من بركة راكدة خلفتها الأمطار (الموسمية). كانت السماء تضج (بالبخور) المتصاعد من أنابيب حديدية في مؤخرة المركبات..!! وكان الشارع الفارع أمامي يحفل بالأذرع والأقدام.. زخات من المطر بدأت تتساقط بتمطي كالمستيقظ من النوم لتصنع وسائد من الماء بين ضفتي الإسفلت الخشن.. كانت مرارة الارتطام بالأرض تنتشر في فمي.. انعطفت إلى الشارع الترابي الموحل.. كان حذائي الرخيص يبطبط في أرضه الرخوة التي جعلته (كخف) الجمل..!! الباب الخشن رحب بي بإصدار فرقعة عظيمة من مفاصله المتصلبة فيما بدا أكثر بدانة بعد تشبعه بالمطر.. كان البيت صامتا إلا من طنين ذبابة نزقة أخذت تحوم حول الطاولة الوحيدة بالبيت.. المرآة المشروخة ما زالت مثبتة هناك وعلى الطاولة ما زال ينتصب كوب فارغ. الذبابة تقف على حافة الكوب ووجهي الشاحب ينقسم إلى شطرين متماثلين يفصلهما شرخ متعرج.. أصبح لي شاربان مشدودان رقيقان.. وهناك أنفان معقوفان وخصلتان من الشعر في مقدمتي رأسي المدببين.. استلقيت تحت الطاولة واستسلمت لنوم عميق لترتخي يدي عن قصاصة صغيرة كتبت بحروف مرتجفة: الشمس تطل من الأعلى عباد الشمس ينكس رأسه أقدام القروي البلهاء يتسلل ماء الأرض إليها تلسعه أرصفة الشارع تتقاذفه الأفرشة الرثة يبحث عن دفء الأرض.. يعود.