مع نفحات ليالي رمضان، وهبوب نسائم ذكرى تعطر الأمكنة، وتنير القلوب الباحثة عن النور وصفاء الروح، يجد المرء نفسه يقلب أوراق ماضيه من شجون وأشذاء مخملية، فتحلق أسراب تعطي الطموحات والأحلام لونها، فوق عشب مبلل بالندى، بقايا سعادة، ونشوة طفل صغير يعانق القلم، بقايا ذكريات لأقدام تحث الخطى، وأنامل مرتعشة تصافح يد معلم وريشه الأبيض. إنه معلمي الأول، الذي لم أنسه، ولم ينسه كل فرد في قريتي الصغيرة، كان معلماً ورسولاً بكل ماتعنيه الكلمة من معنى، حط رحاله في مدرستنا، هاهو يأخذ بيدي في أول يوم دراسي عملاقاً يعانق رأسه السحاب، إنه الأستاذ إبراهيم. رجل خمسيني، صعيدي الملامح، جهوري الصوت، رقيق المشاعر والخلجات فما عليك إلاَّ أن تحبه، تتعلق به ،إذ يربت على رأسك بحنان وببتسامته العذراء، فتركض من أمامه حالماً سعيداً تردد ماتعلمته سائر يومك في حلك وترحالك، يقظتك ونومك. يهابه الجميع صغاراً وكباراً طلاباً وأولياء أمور لأنه يعلم الجميع، الكل مغترف من معينه العذب الصافي، لذا بقيت ذكراه تتوهج في العقول فكراً وسحراً تنسج في عالمنا نثراً وشعراً، إنها قصة معلم، قصة الفصول، فبقيت كنجمة، تداعبنا رغم الظلمة، بعد معلمي توافد الكثير من المعلمين على مدرسة قريتي من عرب ويمنيين لكنهم مروا مرور الكرام، لم يتركوا أثراً يذكر، وإن كان لهم أثر فهي خربشات على كراسات الأطفال ثم انمحت، لكنها ذكراه قامة تركض في خيالي تتلون بلون الشفاه بعطر الأودية، عرق الحياة، أهزوجة، وموال وشجن، تداعب عالمي المفتون، عالمي المجنون فهي سعادتي لأن استرجع طفولتي السعيدة فهي سعادة عندما كنت استمع إليه يتحدث ويشرح الدروس المقررة، فتغدو شراباً سائغاً لذة للشاربين، فهي سعادة جدي وكهول القرية في الظهيرة تستقبله بحفاوة وترحاب، فيبدأ في تعليمهم وتلقينهم السور القصار من كتاب الله الكريم بعد أن حرموا من تعلمه لطفولتهم البائسة في ظل الكهنوتية الظالمة. كم افتقدك أيها الأب الحنون، ياذكرى أحلامنا وسعادة طفولتنا وبداية طموحاتنا ومهد بداياتنا مع القلم والأبجدية،هاهي يدك مازالت ممسكة بيدي، هاهو صوتك لايزال يدوي «اقرأ باسم ربك الذي خلق» وأصواتنا تردد بعدك بشوق ولهفة، هاهي أقوالك الساخرة، ومقالبك الذكية التي صنعتها مع الصغار والكبار، مازالت محل تندر وتفكه، وعشق الجميع ومتنفس الجلسات. مازلنا على ذكراك نستقل زوارق، نقطف الأغصان بعد كل صبابة، وقد سجلت لنا أروع قصة تروى لنا ماكان حينها أو قد صار، فهذه مرافئ ذكرانا معك في كل حين وساعة تُعلن الإبحار، فسنجتهد في دعائنا ونكتبها لتظل في أعماقنا تذكرا. فسلام عليك حيَّا أو ميتاً، رحمات نسطرها وقد كتبت في صفحاتنا إصداراً.