أضرار مادية وخسائر بشرية بسبب الفيضانات شرقي اليمن وإغلاق مدينة بالكامل    ترحيل آلاف اليمنيين من السعودية    ليلة للتاريخ من لونين.. وخيبة أمل كبيرة لهالاند    نعيبُ جمهوريتنا والعيبُ فينا    ركلات الترجيح تحمل ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب السيتي    أهلي جدة: قرار رابطة الدوري السعودي تعسفي    الكشف عن استحواذ جماعة الحوثي على هذه الإيرادات المالية المخصصة لصرف رواتب الموظفين المنقطعة    حراس الجمهورية تجبر ميليشيا الحوثي التراجع عن استهداف مطار المخا    الحوثيون يضربون سمعة "القات" المحلي وإنهيار في اسعاره (تفاصيل)    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    لمن يجهل قيمة الإنتقالي    فضيحة قناة الحدث: تستضيف محافظ حضرموت وتكتب تعريفه "أسامة الشرمي"    ريال مدريد يثأر من السيتي ويجرده من لقب أبطال أوروبا    الجنوب ومحاذير التعامل مع العقلية اليمنية    حضرموت تستعد للاحتفاء بذكرى نصرها المؤزر ضد تنظيم القاعدة    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    ثلاث مساوئ حوثية أكدتها عشرية الإنقلاب    فيديو اللقاء الهام للرئيس العليمي مع عدد من كبار الصحفيين المصريين    "ليست صواريخ فرط صوتية"...مليشيات الحوثي تستعد لتدشين اقوى واخطر سلاح لديها    على رأسهم مهدي المشاط ...ناشطة حوثية تدعو إلى كسر الصمت حول قضية السموم الزراعية في اليمن    مأساة إنسانية: صاعقة رعدية تُفجع عائلتين في تعز    اليمن: الكوارث الطبيعية تُصبح ظاهرة دورية في بعض المحافظات الساحلية، ووزير سابق يدعو لإنشاء صندوق طوارئ    الرئيس الزُبيدي يطمئن على الأوضاع في محافظة حضرموت    حكومات الشرعية وأزمة كهرباء عدن.. حرب ممنهجة على الجنوب    العين الاماراتي يسحق الهلال السعودي برباعية ويوقف سلسلة انتصارات الزعيم التاريخية    رافقه وزيري العمل والمياه.. رئيس الوزراء يزور محافظة لحج    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    انس جابر تعبر الى ثمن نهائي دورة شتوتغارت الالمانية    استقرار أسعار الذهب عند 2381.68 دولار للأوقية    محافظ المهرة يوجه برفع الجاهزية واتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية تحسبا للمنخفض الجوي    وفاة وإصابة 162 مواطنا بحوادث سير خلال إجازة عيد الفطر    إيران: مدمرة حربية سترافق سفننا التجارية في البحر الأحمر    توكل كرمان تجدد انتقادها لإيران وتقول إن ردها صرف انتباه العالم عما تتعرض له غزة    عن صيام ست من شوال!    حزب الإصلاح يكشف عن الحالة الصحية للشيخ ''الزنداني'' .. وهذا ما قاله عن ''صعتر''    أبناء الجنوب يدفعون للحوثي سنويا 800 مليون دولار ثمنا للقات اليمني    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    مصير الأردن على المحك وليس مصير غزة    محافظ عدن يلزم المنظمات باستصدار ترخيص لإقامة أي فعاليات في عدن    من هم الذين لا يدخلون النار؟.. انقذ نفسك قبل فوات الأوان    باريس سان جيرمان يرد ريمونتادا برشلونة التاريخية ويتأهل لنصف نهائى دورى الأبطال    نيابة استئناف الامانة تتهم 40 من تجار المبيدات والأسمدة بارتكاب جرائم بيئية وتعريض حياة الناس للمخاطر    الكشف عن آخر تطورات الحالة الصحية للفنان عبدالله الرويشد    ارنولد: انا مدين بكل شيء ل كلوب    خطة تشيع جديدة في صنعاء.. مزارات على أنقاض أماكن تاريخية    وللعيد برامجه التافهة    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تراث الجنوب وفنه يواجه.. لصوصية وخساسة يمنية وجهل وغباء جنوبي    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    تخيل أنك قادر على تناول 4 أطعمة فقط؟.. شابة مصابة بمرض حيّر الأطباء!    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



" العبور إلى الحرية " مجموعه قصصية
نشر في التغيير يوم 09 - 09 - 2008

صنعاء :صدر مؤخرا للزميل عبدالكريم محمد النهاري مجموعة قصصة بعنوان " العبوب الى الحرية" احتوت على 27 قصة قصيرة وبدأ مجموعته بتقديم للدكتورصبري مسلم .
والتغيير ينشر المجموعة كاملة .
تقديم
بقلم أ. د. صبري مسلم *
" العبور إلى الحرية " مجموعة القاص الشاب عبدالكريم النهاري ترهص بحصاد قصصي وفير لا سيما أن هذه المجموعة القصصية تضمنت ثمان وعشرين قصة قصيرة إحداها العبور إلى الحرية التي استأثرت بعنوان هذه المجموعة القصصية . وحسناً فعل القاص حين اختار هذا العنوان " العبور إلى الحرية " في عهد يطمح إلى الحرية ويبشر بها ويصبوا إليها وعلى كل صعيد وان كان مضمون هذه القصة يرمز إلى حرية المرأة في ظل الزواج السعيد المبارك من المجتمع . وليست هذه القصة أفضل قصص المجموعة بيد أن عنوانها اللافت يستأهل أن يكون عنواناً للمجموعة البكر للقاص .
ولا أود هنا أن اشرح القصص أو أزود القارئ بخلاصات عنها لأن من شان هذا يفسد متعة القارئ بها إلا أنني لمستُ تنوعها من حيث المضامين والموضوعات التي انطوت عليها القصص وتضمنتها حيث عرض القاص من خلالها أكثر من هاجس يخص المجتمع اليمني الناهض وهمومه وطموحاته فضلا عن أن القاص ينوع في مرجعيات شخصياته من حيث انتماؤها إلى التاريخ البعيد أو القريب أو الراهن فضلا عن قصصه على لسان الحيوان حيث يكون الحيوان بطلا لبعض قصصه سعيا صوب الترميز الفني وتفادي المباشرة والتقريرية والتكرار مما يعكس طموحاً مشروعاً من القاص وباتجاه تحقيق الذات والتعبير عن الموهبة الحقيقية والتطلع إلى المستقبل بثقة وريادة أجواء قصصية جديدة .
وما ادعوا إليه القاص هنا عبر هذا التقديم هو أن يضبط أداته الفنية واعني بها اللغة إذ يحتاج القاص إلى أن يستكملها وربما يكون للممارسة دور في صقل موهبته وإتقان لغته وان كان القاص على وجه العموم يميل إلى السرد التصويري إذ يرسم صورا حية عبر سرد قصصه الشيق ومن ذلك استهلالة قصته (انقلاب) التي يرد فيها (بزغ الفجر بعد ليلة هادئة قضتها خلية النحل , يوم ربيعي استأنفته أصوات العصافير بعد توقف ضفادع عن نقيقها المتواصل منذ الساعات الأولى من الليل , الخضرة تفترش الحقول وتغلف الجبال , أزهار زاهية تتوج خضرة وتبعث روائحاً تتراقص لشذاها فراشات خلعت عليها الطبيعة زهوها ....) ص 40.
وإذا كان هذا النص المقتبس وصفيا فان القاص عبدالكريم النهاري يدرك أن الحدث حين يتصاعد فانه يحتاج إلى جملة سردية متوترة تنمو مع نمو الحدث . لمست هذا من خلال أكثر من قصة ومن ذلك على سبيل الاستدلال قصة " عنوسة " التي يرد في سردها (ابتلعت لعابها , كست الحمرة وجنيتها , تصببت عرقا , سقطت عيناها إلى الأرض , تنفست بعمق , أطلقت عيناها الدمع , حبست نحيبها في جوفها , رفعت يدها اليسرى وغطت بها نهديها , اجترت أنفاساً عميقة , جذبت يدها اليمني وسدت على فمها بعد أن بانت خفاياه , كان وقع أقدام الضيوف يتجه إلى الخارج بعد رفض طلبهم الذي قدموا من اجله ) ص13 . بحيث يتصاعد السرد من خلال الجمل السردية القصيرة المتوترة مع تصاعد أحاسيس بطلة القصة وتوترها وحسبما أظهرها سياق القصة .
والمهم من خلال كل ما ورد في هذا التقديم أن يثابر القاص عبدالكريم النهاري وان لا يتوقف عند هذه المحطة المهمة وهي محطة البدء بيد أنها تبشر بخير قصصي وفير إذا ما تجاوز النهاري هذه القصص في نتاج قادم عبورا إلى الحرفية و المهارة بعد أن عبر إلى الحرية في هذه المجموعة القصصية .
شرائع الغاب
نسيم بارد ينساب من بين الأشجار , يتراقص لوقعه الأزهار وهي تشكل لوحة نسجها الربيع بألوان الطيف الزاهية, من حولها يتصاعد أزيز نحل تمتص من الأزهار رحيق الربيع , فراشات تتراقص , مياه تتسَلل من بين الخضرة وتشق الواحة إلى قسمين .
العجوز (قائد) آخر أفراد العائلة السلطانية التي اتخذت من الواحة مقراً لحكم سلطنة (آل سعيد) التي انهارت آخر معاقلها على أيدي (التنين) , لم يبق من معالمها سوى كوخ لاذ إليه العجوز وزوجه بعد أن أغفلت الأحداث فرص استمرار حياة البذخ التي تربيا عليها في كنف جدهما سلطان (آل سعيد) , الربيع العاشر منذ دفن زوجته جوار جذع شجرة الزيتون المقابلة لمدخل الكوخ , ينتقل بين الخضرة للتغلب على ظروف الحياة التي مرت به , استقر إلى جوار شجرة الزيتون , يراقب الأفق الممتد أمام أهدابه التي أصبحت كخيط أبيض تشتت على حواف عينيه , فترات طويلة لم يزر الواحة غير طيور وقليل من صيادين , ظل يتصفح الأفق , خرجت أنثى الحمام من بين أغصان الشجرة التي وضعت عليها عش محتضن لبيضاتها الثلاث , الصغار تحاول تفتيت الأغلفة من حولها والخروج إلى حياة جديدة , الذكر يساعد الصغار على الخروج ويقوم بحراسة العش حتى تعود الأم ومعها دقائق الغذاء الذي ذهبت لجمعه , غراب يقترب ساحة الكوخ يصعد أشعة الشروق بجناحيه , يرسم ظل طويل يغطي الساحة , سقطت أغشية البيضات الثلاث إلى جوار قدمي العجوز وهو يستمع أصوات الصغار الثلاثة وهم يرفعون مناقيرهم إلى الأعلى بحثاً عن دقائق الغذاء المنتظر , منذ بدأ زوجا الحمام في نسج العش ووضع البيض , وهذا الغراب يترقب ويزور الساحة في فترات متعاقبة , العجوز يناجي سحر الواحة ,
يتذكر الزمن الذي مر به , الحيوانات والطيور أصبحت جزءاً من مفردات حياته , تؤنس عليه من العناء والغموم التي لم تتوقف منذ أن أغارت جيوش (التنين ) على الواحة وفغرت أحشاء أطفاله الثلاثة أمام عينيه , الأم في طريقها إلى صغارها ودقائق الغذاء على منقارها وجوف أحشائها , الذكر يتصارع مع الغراب , وجه إليه صفعة قوية بإحدى جناحيه أردته أرضاً , العجوز يحاول رمي الغراب بقطع من الصخر , جمع بين مخالبه الصغار الثلاثة .
انطلق.. ظلت الأصوات تنتشر في الأرجاء , الأم في طريقها إلى شجرة الزيتون , تسمع أصداء صغارها وهي تجوب الأرجاء طالبة النجدة , سقط احد الصغار إلى النهر , تقلب الذكر , تحاول معرفة مصير صغارها , تبحث في أرجاء الواحة , العجوز يسند ركبتيه على الساحة ويجهش بالبكاء , الشمس تودع الجميع وتترك الواحة للراحة بعد يوم مجهد , العجوز يعود إلى الكوخ بينما يظل الحزن والقهر يقتل الجمال , الغراب ينظف مخالبه ومنقاره , حركة المياه تدفع معها الريش الرهيف الذي كان يغطي جسم الصغار , يظهر القمر بلون معتم لا يستمر حتى يعود تدريجياً إلى بهائه وضوئه الفضي الذي يعممه بعد إن دنست شرائع الغاب صورة الحياة في أرجاء الواحة ...
16/11/2002م
ذمار
اندفاعات
عندما كانت الصلوات والابتهالات تصعد عبر الأشعة التي ترسلها الشمس على أركان الحضارة الصخرية، كانت قوة الإرادة تجبر صلابة الصخر على التشكل .
حين كانت الخيرات تبذل حلاوتها، كان فأراً عائد على الرمال التي تتشبث بها أوتاد البساتين وجذور حضارة (الجنتين) التي تدغدغها برودة المياه المتسللة عبر صلابة الصخور المكونة ل (السد) الذي تفضي إليه مياه الروافد، كوابيس تعكر صفو الأحلام مبشرة بالاندثار، صمت يطبق على القرابين حين توجه إليها التوسلات والاعتقادات، الشمس تتوسد عتمة السحب وهي تلقى ما جمعته من قطرات على أكناف الروافد التي تمد يدها، الروافد تلقي كتل المياه إلى السد عبر فمه الفاغر، عجزت صلابة الصخور عن التصدي للقوة التي تدفعها وهي ترتطم ببعضها، الصخور تركض أمام الاندفاعات التي تركض خلف الرمال المتوسدة أوتاد البساتين وجذور الحضارة التي عرفت ب (سبأ)، طوت الاندفاعات معالم الحياة، الفأر يسير ويسير خلفه ذيله وألسن الاندفاعات ، الأرض تلقى على وجهها الجبال حين شتتت أعضاؤها، القرابين تحاول النهوض والعار يلاحقها، الشمس تطوي أشعتها حول قرصها الذي غطته الصفرة، والفأر يحاول الإفلات من نظرات الشمس التي تقترب منه وهو يحمل مؤخرة ذيله على أطراف مخالب يده اليمنى، شعر بأن لعنة الشمس تتبعه حين وجهت إليه خيوط الكارثة، اللعنة تتبعه وهو يركض وتركض خلفه أصوات الاندفاعات، بدأت الشمس تحتضر حين ربط جزء من ذيله حول عنقه الذي يتدلى منه الجزء الآخر، كانت الاندفاعات تستقر أمام الصخرة التي صعد إليها ورفع جسمه على قدميه معلناً انتصاره على الشمس ..
وصاب 16 / 12 / 2001
حفار القبور
ليل واجم يشاطر امرأة تتدثر عتمة مكلومة وتتمرغ بنواح بين جدران من صفيح مهتدى, يبكي بتردد تيارات رياح جافة تختال صقيع انداح ظهر الصفيح – لينهمر دمعاً – المطل على رتل تصطف أمامه أحياء المدنية في صمت, وهو يسرد تقلبات زمن شهده .
- (رحمه الله ) أفضل من أأويت رغم لعنات أتلقاها من زوجته مع اشراقة الصباح وجنبات الليل ... اختتم السرد بسورة الفاتحة و أهداه بعض دعاء.
قال حفار القبور في نفسه وابتسامة خجلى ترتسم على شحوب تفاصيل وجهه المنصب عرقاً : يا لها من مدينة بخيلة – وهو يفرك كثة ذقنه بأصابعه – قبرا واحداً في اليوم.. وثمن بخس ..ودفع مؤجل !!
صمت مستفحل لجة عتمة.. وثمة لهب يبرز من شمعة يحرق ما حوله من ظلام لتظهر المرأة – وهي تبكي زوجها – تلقى دثار حالك أمام مرآة تستند احد الجدران .
جسما عاريا يلتصق بوجه المرآة.. يتراقص بتسلل ثمة رياح إلى لهب الشمعة عبر نخر مقابل .
وهو يفرك حكة شهية تنبض من بطن كفه الأيسر, استل حفار القبور جسمه من فراغ عتمة الليل متذكراً المال الذي ستسوقه إليه زوجة المتوفى مقابل القبر .
وبابتسامة تندس بين وجهه,همس في نفسه وهو يستلقي الفراش : ميسرة .. ميسرة(1) في نهاية تثاؤب.. صر جفونه ليخلد في سبات .
بذبول أعقاب الشمعة الأخيرة يخفت وجه المرآة العاري تدريجيا ليبقى ثمة ظل يزخه طيف لهب خافت في فراغ يشاطر الليل عتمته.
بشهية تشتم اذغالها وتعقص شعرها , سطوع شمس حاد يداهمها أمام المرآة وهي تنضد ما يمكن دفعه لحفار القبور ثمنا لقبره .
بدموع رقراقة ودثار واجم يغطي اطمارها, خرجت نحو المقبرة بخطوات يذبحها الحزن - كي لا يبقى في ذمة المرحوم شيئاً .
سكون مطبق, وهي تقترب بعجل لتلقي إليه دعاءاً كاد أن يسقط من حافة لسانها عند المدخل .
شخير يتجاذب أنفاس حفار القبور على فراشه الذي يمنحه لذة في النوم برائحته الجنائزية العبقة , وبشخيره المشابه لصوت منشار الخشب تذكرت ثمن القبر .
تخطت الموتى نحو غرفة تنزوي أقصى المدخل , جلست على حافة فراشه في صمت , بصوت مجهش قاطعت شخيره , نهض على أثره , فرك عينيه الغائرتين وغطى أجزاء جسمه قائلا في نفسه ومحملقا إليها وهي تلقي دثارها جانباً :
- المرأة التي توفى زوجها جاءت تحمل المال .
وهي تقترب قال : شكراً لك.. يالك من امرأة وفية .
- اسمع : كم ثمن القبر ؟
- الم أخبركم بالأمس ؟
- نعم ولكن لم يكن الوقت مناسباً للمساومة .
- أنا لا أساوم .. وإذا لم يكن حالكم ميسورا فنصف الثمن..
اقتربت متوقفة عن الكلام , رمقته عينيها وهي تكاد ترتمي حضنه .
هنيهة.. اختفيا قبل خروجها من المقبرة , تتمتم بالرحمة والمغفرة لزوجها , وبعد الأربعين وعدها قبل اختفائهم أن يحفر لها قبراً جميلا مفصلا تتذكره وصنيعه كلما أحست جوفه بالراحة , شرع بأخذ قياسها لإنجاز القبر الموعود , اختفيا طويلا جوف الفراش, خرجت من خفيتها تترجاه بإبقاء مجالا مناسبا بمقدار جنين جوار قبرها الجميل .
ذمار 19/7/2003م
امتزاج الدموع
دفعت الرياح شراع المركب على ظهر الأمواج تقذف به هنا وهناك، انزوت نحوي عندما أحست بالسنة الأمواج تقترب منها ، أطلقنا صرخة أخيرة على مشارف المدينة .
ظهرت المدينة أمام شراع المركب في أبهى صورها تعانقها أشعة الغروب ، حركت (ليلى) المجداف بسرعة عندما انسابت إلى جوفها رائحة المدينة التي ظهرت بعض معالمها ، سالت الدموع من عينيَ عندما شاهدت الشاطئ وحركة الصيادين تسيطر عليه ، تذكرت اليوم الذي أبحرت بي وبغيري سفن العدو ، لم تمهلها الدموع كذلك عندما لمحت المنازل والصيادين تقترب منا ، عشر سنوات مضت من عمرها وهي تقاسي نكد العيش بعد أن اختطفت وهي طفلة صغيرة , وألحقت بالجزيرة التي نفي إليها كل أطفال سادة المدينة ، صرفت نظراتها نحوي وقد رسمت على شفتيها بسمة رقيقة ، لا أزال أحلق بنظراتي في آفاق المدينة ، رست نظراتها على عيناي لتعيد لقطات رسمتها براءة الطفولة من أزقة المدينة قبل بداية الأحداث ، بللت عينيها صور الماضي بمياهها المالحة ، لا تزال نظراتها المرهفة ترصد نظراتي ، الشمس راسية على حافة البحر,الأمواج تحاول جذبها إلى الخلف ، اقترب الشاطئ, المدينة أمامنا ، الرياح تطلق صفيرها ، شرع البحر في نبذ عرائسه و بدأت الأمواج تتلاطم ، أشعلت المدينة قناديلها , دوت صرخات فرحتنا في الآفاق…
ذمار في 12 / 11 / 2001
مخاض الرمال
عندما وارت (جربان) * جثمان( الزير سالم, أبو ليلى المهلهل) في أحشاء وديانها ، كانت تستمع لوصيته الأخيرة التي نطقها لسانه حين أجهز عليه العبدان ، السنوات تنشر عتمتها على مفردات حياته التي تجتذب الحضارات المتفرقة معالمها , بعد أن أسدل الماضي ستار النسيان على (جربان) وأحداثها و فرشت بالرمال المتحركة التي جلبتها زوابع الأحداث , الأصداء تتعالى وتندثر في السماء التي تغلف تضاريس العالم الواسع ، كان المعجبون يحاولون جمع اللآلئ المندثرة من أصداء الحياة التي رافقت (الزير) ، وهو يدس عظامه بين عتمة الرمال ، يعكفون أمام صفحاتهم , يختلقون مفردات تنسب إليه بعد أن تتوج بلؤلؤة من لألئ العقد المندثر ، ارتخت عظامه - بعد أن ظلت مكانها الأقلام – وأحست بنعومة الرمال قبل أن تسوق الرياح أحداثا تكاد تقترب من الحياة التي غطتها الرمال ، تذكرت الأرض وصيته بكتمان السر عندما أجهز عليه ، انكمشت العظام مشكلة هيكل( الزير) بعد أن رددت الرياح اسمه وبعض معالم سيرته ، انتفضت عظامه ، حاول النهوض ليصحح الإشاعات بنفسه ، منعته الرمال المنهالة على رفاته ، أطلق سخطاته من جوف العتمة التي تغطي الحقائق ، ظل السر يراود رمال الأرض خوفا من أصابع اللصوص ، الكلمات تحترق تحت طبقات الرمال التي تعسرت في المخاض.
وصاب في 15 / 12 / 2001
عنوسة
ابتلعت لعابها، كست الحمرة وجنتيها، تصببت عرقاً، سقطت عيناها إلى الأرض، تنفست بعمق، أطلقت عيناها الدمع، حبست نحيبها في جوفها، رفعت يدها اليسرى وغطت بها نهديها, اجترت أنفاساً عميقة ، جذبت يدها اليمنى وسدت فمها بعد أن بانت خفاياه , كان وقع أقدام الضيوف يتجه إلى الخارج بعد رفض طلبهم الذي قدموا من أجله.
السحب تشد رحالها بعد إغارتها على القرية، ظهرت الشمس على حافة الجبل، و على الجهة الأخرى قوس قزح بألوانه الزاهية، خرج سكان القرية إلى حقولهم يتلذذون بمناظرها بعد أن أغارت سحب الصيف، هي واحدة من عشرات فتيات القرية، غزت العنوسة بشرتهن الحنطية، وأصابهن الزمان بمآسيه، تراقب السحاب من جوار نافذة غرفتها التي أطبقت على جدرانها الوحشة، وقفت نظراتها الحائرة على حافة المدرجات تتطلع إلى المياه وهي تعكس خيوط الشمس الهادئة، ظلت تراقب الأرض التي أصابها الزمان كذلك, وأصبحت غير صالحة للزراعة لفقدان خصوبتها،تخيلت مصيرها الأبدي الذي سيحسم خلال لحظات، ودَعت نظراتها الأرض الجدباء، ألبست وجهها السرور، بدأت بترتيب غرفتها، لم تعد تسمع إلا صوت الساعة الحائطية مدويا "تك .. تك " العقارب تسير ببطء ، و ضربات قلبها تزداد باطراد، تصرف نظراتها إلى المرآة الكبيرة المغطية لجانب من الجدار، وعليها صورتها التي أخفت معالمها بقع دهن داكنة وذرات غبار عالقة على السطح، مسحت ما علق بوجه المرآة بعد أن أرتفع صوت الضيوف يتناقشون مع والدها، ظهرت صورتها واضحة على المرآة وهي ترتدي ملابس احتفظت بها لمثل هذا اليوم ، يتبادل والدها النقاش مع ضيوفه، بدأ النقاش يفرز حلاوته، لا تزال جوار اللوح الزجاجي الذي ارتسمت عليه صورتها، شكت إلى المرآة الجراح منذ أن عرفت أسرار الحياة , في الثانية عشرة من عمرها, تقدم يومها أحد شباب القرية لطلب يدها ، حينها أعتذر والدها بسبب سنها الصغير، تتابعت الزيارات لطلب يدها إلا أنها لم تلق ترحيب من والدها الذي يعتذر دائما أو يطلب أموالا طائلة، تذكرت والدتها التي قضت نحبها بعد أن ولدتها بعشر سنين، و اليوم الذي دخلت زوجة أبيها إلى هذا البيت، لملمت ما تبقى من شجونها الذي سلبه الزمن، ابتسمت في وجه المرآة عندما أنتابها الأمل، تذكرت شتاء العام الماضي حين أجتمع الضيوف في المجلس وبدأ حديثهم -كالذي تسمعه - حين قدم شاب يطلب يدها , إلا أن والدها حول الخطبة لأختها الصغيرة – غير الشقيقة تذكرت عمرها الذي أشرف على السابعة والعشرين، أدارت ظهرها إلى المرآة عندما سمعت الشاب – الذي قابلها قبل ثلاثة أيام ووعدته بقبوله زوجاً إذا وافقت (خالتها) ووالدها – يتبادل الحديث مع والدها، سلطت اهتمامها ، ركزت سمعها أكثر، ألصقت أذنها على ثقب الباب، طلب الشاب يدها من والدها ، أمتنع والدها عن الإجابة، كرر الشاب طلبه، ارتفع صوت والدها: لماذا لم تطلب يد أختها الأخرى حتى نوافقك طلبك؟ نهض الضيوف، اندفعوا إلى الخارج، كانت الشمس قد تدحرجت خلف الجبل ...
ذمار في 2 / 7 / 2001
حسرات
إلى المسافرين في الرحلة (331) عبر ( اليمنية) المتجهة إلى كل من جدة .. عمان .. دمشق .. عليهم بالصعود .
زملاؤه يعرفون موعد وصوله , يقف في صالة الانتظار الخاصة ب(اليمنية ) في مطار صنعاء الدولي والى جواره عشرات المسافرين , صعد الجميع عبر السلم , ظل في مكانه متطلعا إلى أرضية الصالة , لأول مرة يعزم السفر خارج الوطن , الصالة خالية , شاهدهم وهم يصعدون السلم , تطلع عقارب الساعة , هرع نحو السلم , استدار إلى الخلف , ودعت نظراته الجزء الظاهر أمامه من مدينة صنعاء , اتسعت عيناه وكأنها تحاول طي ذلك المشهد إلى الداخل , غطت الحمرة وجنتيه وهو يتجه نحو المدخل .. اخذ موقعه جوار النافذة . نداء من الطاقم : على الركاب ربط الأحزمة تأهباً للإقلاع .. شرد ذهنه , نبهته المضيفة إلى ربط الحزام , تحركت الطائرة على ساحة المطار , أقلعت تاركة صنعاء ..الوطن .. الأهل ..الأحبة ...
ابتعدت صنعاء عن النافذة , حاول التقاط صورة أخيرة إلى ذاكرته , حالت السحب دون ذلك , استقرت نظراته , تاهت بين السحب والفضاء الواسع , ما يزال مستغرقا في تفكيره .
هل الزملاء يتذكرون موعد وصولي ؟
بندر وإيناس .. والدتهم . والدتي .. الأسرة , كلمات تناثرت على خلفية حسرة جلجلت مسامع من حوله .
نحن الآن في سماء جده .. في مطار جدة الدولي , ما يزال ( وليد ) في شرود جثة لا تتحرك .
انطلقت الطائرة بعد توقف للنزول والوقود ..
عقدان من الزمان منذ أن أحس (وليد) بنفسه في المجتمع , حرب تأكل الأخضر واليابس , حزن يتراكم بين اليوم والآخر , دماء الرجال تنزف بسبب الحرب التي يجهل الجميع أسبابها , أسر تشرد , رجال يفتقدون في مقتبل العمر , أطفال تمزق أحشاؤهم , عشرات باغتتهم نيران الأسلحة بين أطفالهم ... , تصفيات في عنفوانها .
ثلاثة أعوام منذ أن شاهد والده يقتل أمام عينيه , وما يقارب العام حين صوب احدهم فوهة (الكلاشنكوف) إلى صدر ( سليم ) – الشقيق الأصغر – يومها لم يتجاوز السابعة .
قدمت إليه المضيفة بعض من المرطبات والفاكهة , الأهل في محنتهم .. لم يبق من يتلمس أحوالهم .. أم عاجزة أعيتها الحياة , زوجة لم يبق من أقاربها احد , بندر وإيناس اللذان لم يفارقا مخيلته .
بابا.. بابا خذنا جوارك إنا خائفان , أرجوك لا تقطعنا من أخبارك وزيارتك ...
ربما لن أعود , ربما أموت ... ومن لا يؤمن بالقدر ؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! أخر حوار قبل أن تغلق خلفه الباب .
أدى صلاة العشاء, صلى الاستخارة , وضعت زوجته مائدة العشاء جوار السجادة , أشعلت مصباح الإضاءة , جلست جواره وعلى يمينها (بندر وإيناس) , نظرات تتسلل من عينيه نحوهما , صمت مطبق على الحجرة , جلست والدته , زوجته ترصد نظراته , حاولت تفسير ما يجري , أحس الطفلان بنظراته المسلطة .
لماذا لا تأكلون ؟ هل حصل شيئاً ؟ - سألته والدته . صوب نظراته نحو زوجته , تحاول معرفة السر المطفئ عليه .
امتدت أيديهن إلى المائدة , امتدت يده , ظلت جوف المائدة .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. هل حصل مكروه ؟ انتم غير طبيعيين . أجابتها زوجته :
- نظراته أفزعتني , عيناه تخبراني بمكروه .. لا سمح الله .
- وليد .. وليد , لماذا أنت يا بني على هذه الحالة ؟ لم اعرفها عنك من قبل !! هل حصل مكروه ؟
- انه القضاء والقدر .. إنها إرادة الله , فقد قررت ...
- ماذا قررت لم نفهم قصدك ؟
أمال نظراته إلى ( بندر وإيناس ) , امتلأت عيناه بالدمع , بادلته نظراتها , أطلق حسرته..
- أنهم على علم بسفري للدراسة, ولهذا توعدوا بقتلي قبل ذلك وان لم بعد عودتي ..
- ولماذا كل هذا ؟‍! الم يكتفون بدم أبيك وأخيك ؟
- أمي هؤلاء لا يرحمون , أجهشت زوجته بالبكاء .
- ما هو الحل ؟ ألا يخافون الله ؟! .. ونحن من لنا ؟؟ ما الذنب أن نسلب كل أحبتنا ؟!
- لا تخافي يا أمي الله معنا , لقد قررت السفر للدراسة في الأردن .
- لن ادعك تخرج من البيت ليقضوا علينا جميعا .
نهض( بندر) إلى حضنه , تبعته ( إيناس )
- وليد أرجوك( بندر وإيناس ) في حاجة إليك .
- سأعود إن شاء الله بعد إكمال الدراسة .
دموع غزيرة تذرف, نظرات كئيبة تتبادل .
- لقد حجزت تذكرة سفر منذ أسبوع , موعد الرحلة صباح الغد . اتجه (بندر وإيناس ) إلى النوم , اعد حقيبة السفر , وقفت إلى جوار الباب , صمت يطبق على المنزل , تصعد من إحدى الغرف تضرعات مختلطة ببكاء , حزن يعتصر جوف صدرها .
- أين أنتِ ؟ هون عليك , لم اعرف عنك الخوف قط .
بصوت متقطع شاحب : في هذه المرة لا يكاد الخوف يقارن بكل ما مضى .
استلقيا على الفراش , حزن يذبح أرجاء المنزل , عقارب ساعة تمر مهترئة , تضرعات مختلطة بدموع تشق الصمت , عتاب ونقاش مؤلم يصدر عن غرفتهما , دق جرس الساعة بقوة , تمام الثانية بعد منتصف الليل , نهض سريعا , نهضت على صوت( بندر وإيناس ) : (بابا .. بابا خذنا جوارك إننا نشعر بالخوف ) .
تطلع إلى صورة معلقة على الحائط , والده وشقيقه وكأنهما يحاولان منعه من السفر , والدته مستغرقة في صلاتها , دموع تبلل السجادة .
- أمي استودعك الله ..
- استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه , أرجوك لا تغيب عنا كثيراً , حاول إيصال أخبارك إلينا ..
- أوصيك ب (بندر وإيناس) وزوجتي . واصلت صلواتها وبكائها , اخذ الحقيبة , تركها جوار الباب , عاد إلى زوجته وهي تبكي وتنظر إلى (بندر وإيناس) .
- مع السلامة الوقت متأخر . الصق قبلاً حارة على وجنات بندر وإيناس , شعر بدموع والده , نهض إليه قائلا : بابا .. بابا, أرجوك خذنا جوارك نحن خائفان . عناق حار , دموع غزيرة .
- أوصيك بوالدتي وبندر وإيناس . فتح الباب ببطء وقفت إلى جواره , اخرج الحقيبة قائلا :
- حبيبتي أرجوك لا تخافي , ربما لن أعود .. ربما أموت .. ربما ... أطلقت صرخة مدوية ...
- مرحبا بكم في عمان نحن ألان في مطار(الملكة علياء الدولي) .
كان في انتظاره خارج المطار جوار الرصيف , اخرج الصورة مرة أخرى حتى لا تمحى من ذاكرته .. نعم يا (وليد) لقد حفظت صورتك , اقترب التاكسي من البوابة , شحن مسدسه , خرج الجميع مستقلين سيارات خاصة بينما خرج حائرا , حقيبته في يمينه , لمحه عن طريق المرايا وهو يتمايل شمالا ويميناً , اخرج الصورة بسرعة .
- نعم .. نعم ,انه( وليد) أخر من تبقى . خرج من التاكسي قائلا ً : إلى أين ترغب في الذهاب ؟
- حائراً.. لأول مرة أزور عمان .
- هل أنت يمني ؟
- نعم .
- أهلا وسهلا بك, فأنا يمني واعمل منذ عشر سنوات هناك .
- مرحبا بك هل تعرف احد من الطلاب اليمنيين هنا ؟
- نعم الكثير , اصعد وسوف أوصلك إلى مسكنهم .
- حسناً . انطلق التاكسي في طريقه مسرعاً , حوار يتبادل بينهما , التاكسي يتجه نحو الصحراء , صوب مسدسه إلى صدره , ثلاث طلقات متوالية تنطلق ,استقرت في أحشائه .
- أرجوك لا تفعل , لدي طفلان صغيران , أرجوك أطفالي .. أرجوك بندر وإينا...
سالت الدماء , اختفى بين رمال الصحراء ...
ذمار 27/5/2003م
عودة العمر
عقدان من الزمن منذ أن ودعت الحياة الدراسية ، منتقلة-بعدها- إلى الحياة الزوجية التي لم تستمر ، تعود اليوم من نفس المكان الذي خرجت منه مودعة الزميلات والمعلمات ، تغير الزمان , تغيرت الوجوه , تدهور الحال، ذهبت أيام الصبا , نعومة الأظافر ...
لم تجد شيئا يخفف من عنائها سوى عودتها إلى المدرسة التي خرجت منها في المرة الأخيرة برفقة والدها يوم وافق على زواجها من ذلك الشاب الذي سلبها...
وقفت أمام بوابة المدرسة تتذكر تلك الأيام ,أيام دراستها.. والابتسامة مرسومة على شفتيها البريئتين ، تلك الأيام في زهو طفولتها ، تلفتت شمالاً ويميناً لترى الوجوه التي رافقتها البراءة ، دفعت جسمها إلى الأمام ، تطلق الحسرات على الماضي ...
لم تستفد منه سوى طفلة وحيدة حصلت عليها قبل أن يعلن زوجها- الذي لم تكن تطيق رؤيته – الفراق وإنهاء الارتباط ، تبحث عن فلذة كبدها التي أخذها والدها من أحضانها الدافئة وانتقل بها إلى مسكن أخر أضاعته زحام المدينة المترامية ، توقفت وسط الزحام ، شقت الحسرات صدرها المحروم من عواطفه الغارقة في جداول الحزن ، ارتسمت الدمعة على عينيها العميقتين، تدحرجت قدماها إلى الأمام ، فتشت عن مقعدها المخصص لأداء الامتحان ، بادلت زميلاتها النظرات و التحايا ، تكتفي بهز رأسها ، دموع بللت خمارها ، ألقت بجسمها على مقعد وضع عليه رقم بطاقتها الامتحانية ، أسقطت نظراتها إلى الأرض – حين وجهت إليها نظرات زميلاتها ، الزميلات يتحدثن عنها .. عن جسمها الذي تبدو عليه أثار الدهر...
موعد بداية امتحان الشهادة الأساسية يقترب من الوصول ، نظراتها تحاصر الأرض ، عيناها كسحب الصيف محملة بالدموع ، تتذكر المآسي التي عانتها منذ أن ودعت قاعات الدراسة منتقلة إلى ربة بيت جوار زوج متوحش، سلبها البراءة والسعادة والحنان .. و حين أصبحت فلذة كبدها تحبو على الأرض أعلن – وقتها - الفراق . جذبت أنفاسها العميقة كأنها تشم رائحة محببة إلى نفسيتها الحائرة ، تتمنى أن تشم رائحة ابنتها التي لا تتذكر ملامحها ، لكنها مصرة على تنفس رائحتها الحقيقية التي ستعيد لها العمر من جديد ، عناء مستحوذ على تصرفاتها , وضع مؤلم آلت إليه أسرتها ، دخلت المشرفة القاعة معلنة بداية الامتحان ، وزعت كراسات الامتحان ثم الأسئلة ، مسحت الدموع بأصابعها النحيلة ، جذبت قلمها ، شرعت بكتابة اسمها- الذي تذيله دائما بعلامة استفهام - كتبت بقية البيانات على الورقة الخارجية للكراسة ، سقطت نظراتها إلى صورتها المثبتة على البطاقة الامتحانية ، لم تدفع نظراتها إلا حين أحست بحرارة الدمع ...
شرعت بإفراغ الإجابة على ثنايا صفحات الكراسة ، قامت المشرفة بفحص بطاقات الطالبات ومطابقة الصور بالواقع ، ألقت نظراتها الفاحصة على وجوه الطالبات ، اتجهت المشرفة إلى الكشف المدون عليه أسماء الطالبات ، أمرت الطالبات بالتوقف عن الإجابة حتى تنادي على الحضور ، توقفت الطالبات عن الإجابة , لكنها لم توقف الدمع . بدأت المشرفة بقراءة الأسماء المدونة على الكشف حسب ترتيبها الأبجدي ، لا يزال الدمع مسيطر على عينيها منذ أن كشفت المشرفة على وجهها وأخبرتها بوجود تطابق في الصور ، تابعت الأسماء من خلال حروفها الأولى ، بدأت تقترب من حرف (العين) ، زادت نبضات قلبها المحرق ، سقط القلم فجأة ، لا تزال المشرفة تنادي بأسماء الطالبات ، ارتفع صوت ارتطام المقعد بالأرض ، نهضت بسرعة ، نثرت أقلامها وأوراقها جوار أرجل المقاعد ، توقفت عن القراءة مسلطة نظراتها الحادة إليها وهي تتخطى صفوف المقاعد متجهة إلى الركن الأخر من القاعة ، سبقتها الدموع والأنفاس العميقة ، المشرفة تراقب ما يحدث ، وصلت الدموع والأنفاس العميقة إلى الركن ووصلت هي كذلك ، جذبت زميلتها المنزوية إلى الركن ، ضمتها إلى حضنها ، هالت عليها بالقبل والدمع ...
أطلقت همسات خافتة لم تسمع ، سلمت الزميلة جسمها إلى زميلتها ، حاولت المشرفة تهديدها بحرمانها من الامتحان ، حاولت فصل الجسمان عن بعض لكن الدمع الصق الجسمين معا ، لم تعرف المشرفة في البداية انه عناق بين أم وبنتها!!!
ذمار في 28 / 6 / 2001
تطفل
سالت قطرات العرق على لحيته الخفيفة، انسابت أحرف متقطعة من ثنايا شفتيه، هرولت بعيداً عن ظله الكثيف، أرسلت نظراتها إليه، أختار أسرته بدلاً عنها، لم تكن علاقته بها حديثة, فمنذ أن حملت ساقاه جسمه قبل ثلاثة عقود بدأ يمارس هوايته، تناديه من المطبخ – وهو لا يزال يمارس هوايته المعتادة – لم يعرها أي اهتمام، أهملته كذلك، الأطفال يرغمونها على مناداته، خرجت بعد أن عجز المطبخ عن توفير ما يسكت الطفلين، مشادات الكلامية تملأ سماء المكان ، داست قدمه الكرة، توقف عن الكلام، سمع بكاء أطفاله ، توقفت ، أمطرت عيناها دمعاً ، أدارت نظراتها إلى الجدار، أيقن إن هواياته تطفلت على طعام أسرته، رفع قدمه عن الكرة ، تراجع إلى الخلف، ركلتها قدمه بقوة، ارتطمت على جدار المنزل، هرولت بعيداً، تجمدت حركاته، لم تبقى إلا رموش عينيه تقاوم ذرات الغبار، سقطت رغبته في مواصلة مشواره الرياضي...
ذمار في 2 / 11 / 2001
زفة الاحتضار
دوى صوت الانفجار بقوة، كانت مجهزة للخروج، بدأ صوت الدان يرتفع، غزت ذرات الشذا الأنوف، اندفعت أمامها النساء إلى خارج المنزل، أرتفع عدد ضربات القلب، أطلقت النساء زغاريدها، بدأت تتنفس بعمق، لونت الحمرة وجنتيها، أستوقفها والدها، رفعت كفيها تتفقد الخضاب المغطي لسطوح كفيها، سقطت نظراتها إلى شريط ذهبي ناحل يطوق أحد أصابعها ، راجع عد رزم المال مرة أخرى، سمح لها بزفها إلى عريسها ، اندفعت بسرعة، كان الوقت متأخراً، أنطلق الموكب بسرعة، وصل بعد وصول سيارة الإسعاف، أُصعد المصابون إلى السيارة، لمحته حين أُصعد وثياب العرس تغطيها الدماء ، اندفعت نحوه، شاهدها، حاول أن يتحدث، أسقطت عيناها الدمع على وجهه، حاولت مكافأته مقابل النضال الذي أستمر ثمان سنوات مقابل إشباع رغبة والدها المالية، ألتصق اللون الأحمر على شفتيها ومعالم وجهها البارزة..سقط جسمها أرضاً، أودعت إلى جواره .
ذمار في 31 / 10 / 2001
ركام
صوت متقطع يتسرب من بين الركام , يستنجد (سامي) بأمه بينما يذبحه الموت .
اختفى الصوت بين ركام قذائف وقنابل ظلت طريقها !! دوت صفارات الإنذار على خلفية صمت مطبق , عتمة تغطي المدينة , سبات عميق يجعل الشوارع خالية سوى بعض مراسلي وكالات الأنباء وأفراد من رجال الأمن ...
كتل ملتهبة تتناثر من جوف هدير طائرات تجوب السماء , مضادات أرضية تطرز السماء , وعلى الحي الواقع وسط المدينة تكمن أسرا بسيطة تلوذ بمجمع سكاني ...
أمي ... أمي أنا هنا أين أنتِ ؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! تناثرت أجزاء المجمع السكاني , أطبق الركام على القاطنين .
بينما ظل صوت طفولي متقطع يتسرب من بين الركام؟
أمي .. أمي ...فجأة..اختفى...
ذمار 29/6/2003م
فجأة الرحيل
غرد بألحان شجية، وزع نظراته في الآفاق، أنتقل إلى الغصن الآخر من الشجرة ، يراقب العصافير والطيور وهي تجول حوله ومن أعلى منه ومن تحت الغصن الذي تتشبث به أطرافه، نظرات حيوانات الغابة تتجه إليه، لا تزال تتعجب منه , من ألحانه التي يوزعها على منعطفات الغابة، لم تشرق الشمس إلا على تغريده وحركات جناحيه الصغيرة التي جابت أرجاء الغابة منذ الصباح الباكر، وزع أغاريده وألحانه إلى كل صوب ومن على كل مرتفع، وعت الطيور والعصافير ما أصابه , تألمت لما حلّ به، أستقر تغريده على أحد أغصان أعلى شجرة تطل على الغابة، صدح بقوة عمت الأرجاء، تجمعت جواره العصافير محاولة تخفيف بعض عنائه، لم تستطع إيقاف صدحاته القوية التي يظنها تكتسح الآفاق، لم تكف نظراته عن البحث في الفضاء الواسع، لم تخبره بما سيحصل، أقلقته باختفائها، تفقد الأفق الممتد أمامه، أطلق صوته الشجي بحزن، حاول الابتعاد، ارتخت عضلات جناحه الأيمن بعد أن لبست الغابة ثوب الحزن .
ذمار في 9 / 11 / 2001
لذة المقهى
توقف أمام مدخل المقهى , لم يره احد ممن يعرفونه , ولج إلى الداخل , تأكد من وجود مقعد شاغر في الركن القصي من نظرات عامل المقهى المصوبة لمراقبة الرواد عبر شاشة صغيرة تقابله , طبع العنوان على الشاشة , ضغط زر الإدخال , ظهرت الصفحة , ارتسم جزء من صورة عارية لفتاة يداعبها شاب في مقتبل العمر , الجزء الآخر في وضعية التحميل , نزع العامل عينيه من الشاشة , رفع رأسه نحو الركن .
نظرات العامل تحاول منعه مما هو فيه , لم يحس بشيء , التصقت رسالة تحذيرية على الصفحة تأمره بترك الموقع , اختفت الرسالة بعد أن صوب سهم الفارة إلى احد أركانها...
اكتمل تحميل الصورة على الصفحة , تعمد تكبير منطقة المنتصف , حرك الفارة ليظهر المنتصف ملئ الشاشة , نظرات العامل ترمقه , رسائل مستعصية تعكر استمتاعه , بدأ يفتش عن أطرافه , يبحث عن أعضائه ...
ارجع أصابعه المهترئة على ظهر ( الفارة ) يكاد يغمس وجهه جوف الشاشة , أطراف كفه اليسرى تقلب منتصفة , تداعب أعضاءه ...
تحسر بعمق , حشا ( حبه زرقاء ) إلى فمه الغائر كالبئر , حوله كثافة شعر متداخل اللون منساب إلى منتصف صدره .
ابتلعها بسرعة , ظهرت رسالة أخيرة , صوب سهم الفارة نحوها , اختفت الرسالة وطويت الصفحة , انقطع الاتصال وظهر سطح المكتب قبل حصول اللذة ...
ذمار 8/7/2003
بركان الأرانب
عندما كانت النجوم تؤنس وحشة القمر وهو متكئ على أكوام سحب معتمة منتظراً وصول خيوط الشمس لتناوبه كسر شبح العتمة المخيمة على الغابة المرتدية ثوب الربيع . الغابة مستسلمة لأشعة القمر الخافتة ، توقفت الحركة عدا المغارة المنحدرة عند قاعدة التل الذي يفصل الغابة عن رافد النهر، المغارة تفور مما يجري جوفها وتقذف بأفراد موكب العرس المكون من العريس وعروسه وأمامهم كوكبة من الأقارب ، أشعة القمر ترسم أمامهم الطريق حين كانت تواصل والدتها بنظراتها الملحة لتتجه صوب الثدي المخصص لرضاعتها ، أفراد الموكب يتوقفون عند جذوع الأشجار التي اعتادت الإنفاق من ثمرها ، المحصول وفير , عم السكون أرجاء الغابة ، تحاول اللحاق بوالدتها عندما تتذكر الثدي المخصص لها , يخطر في مخيلتها أسئلة عن معنى الزواج الذي يجري لها , كان البركان قد خمد في المغارة حين أشرفت طلائع الموكب على جذع الشجرة التي تخفي بين عروقها الرهيفة المغارة التي تحاول الانفجار, أشقاء العريس يفتشون عن أثداء والدتهم , وقع الموكب مرعبا وهو يقترب من ثغر المغارة ، خرج الأشقاء عندما انبعثت رائحة والدتهم ، اصطف الجميع , حول جذع الشجرة ، اندفع الأشقاء نحو أثداء والدتهم ، لم يتمهل العريس , اندفع من جوار عروسه ليمتص نصيبه الذي تجمع في الثدي المخصص له , العروس من جانبها تفتش عن والدتها, وسط الزحام ...
أشعة القمر تتسلل مفسحة المجال أمام خيوط الشمس حين باشرت العصافير بترديد ألحانها الشجية من أعال الأشجار في حين تحول العرس إلى مأتم حين شاع خبر وفاة كبير الأرانب خوفا من الانفجار...
وصاب السافل12 / 12 / 2001
غفوة
صوت حريري بنكهة تعزية(1) فاجأني بتسارعه الحاد , استنشقه بعض من حولي وهو ينداح من جوف هاتفي النقال على خلفية موسيقى هادئة قطعها أبهام يميني , ألح أن أسعى إليه إلى جوار مركز الاتصالات على الشارع حيث الانتظار .
استأذنت من حولي بصوت متهدج ونظرات تلحق الأرض وحمرة – من وجهي الرشح – سقطت بانقطاع نظراتهم وابتساماتهم .
على رصيف الشارع الذي بدا لي خالياً سباقاً تتنافس فيه قدماي حاملتا جسمي المشتهي لنقطة النهاية , بطرفة عين انتهى انتظارها , توقفت قدماي تدريجياً بخطوات خجلى اقتربت , خلفها تقتربا فتاتان تصغرانها.
وبالصوت المتهدج - نفسه – أربكتني بتحيتها وبرودة أصابعها المنزوية ببعضها, ملتصقة بكفي المتلهف للتمرغ بحبرها وبنقوش بديعة صنعت من معصمها مرسما لأمهر عباقرة الإبداع .
استلت معصمها من كفي عندما أحست بالفتاتين تزجرانها بنظراتهما التي قرأتها من حافة متنفسا ينأى عنه الخمار حول عيناهما .
قاطعت نظراتي إليها باسألتها المتكررة عن حل لمشكلة صحيفتهم التي لا توزع ومصادر يمكن أن تستقى منها الأخبار وكيفية تسويق إعلاناتها ..
قاطعت أسالتها بسؤال عن علاقاتها بالفتاتين التي ترافقهما.
- إنهن مجرد صديقات .
- فل نتحرك ..
واثقة تترنح جواري, مواصلة أسالتها التي لم تلاق إجابة , تحتك حوافنا ببعض خلال خطواتنا المهترئة , ترصدنا من الخلف, صديقاتها . أهملني السائق في غفوتي بعد إلحاح الركاب عليه , السيارة تبتلع الطريق وخلفها تبتعد القرية .
تقترب مني اقتراب عصفور من شجرة يبحث بين أضلاعها عن مكان لعشه , حملقت إلى رشاقتها , تكورات تبرز, جاذبة أصابعي , عينان لوزيتان, تحاصر عيناي وهي تكاد تبتلعها من الرصيف لولا صديقاتها .
أطلقت نفسا عميقا - اهتزت لخروجه ثدياها وجسمي - لفحني بحرارته رغم البرودة وكأن فرن الكدم الذي يبعدنا بأمتار من أطلق أنفاسه .
من عينيها المثقلة لمحت شخصا يغتسل بين أحداقها, تواريه رموش معقوفة كعرجون تتدلى منه صفرة حبات تمر سكري ...
توقفت السيارة جوار محطة البترول , نزل من حولي الركاب لقضاء حاجاتهم , تجاهلت صديقاتها, تغلغلت عبر شذاها, تخطيت اطمارها إلى بشرتها حيث حل شراعي , رائحة ربيعية عبقة تشذو من اذغالها وأحراشها ,مناخ متداخل , فصول لا تدع للشتاء مكانا يقاسمها , أغوص بين حدقاتها التي ترمقني منها , أتمرغ بخلاصة شعرها المعقوص , بالتماس بصير أُهدي إليه شيئا لم يجد من يصفه – التمست ثدييها السمراوين كتفاح ينتظر قطافه ...
بخجل ,عبرت عنه.. بتشابك أصابعها ..عقدت حاجبيها .. سربت همسة وردية إلى أذني بالموعد القادم .
اجتر أنفاسي وأفتش بين قصاصات الأوراق المتناثرة – بين أقدامنا - عن ثمة جزء ناصع يناسب أن يكون لوحة الصق عليها صورة انتزعها من جوف أحداقي قبل أن تجف عيناي أو تتوارى منها , لكزتني نظرات صديقاتها وهي تقتطف كلماتها المتناثرة – أمام صمتي الواجم – معلنة إنهاء خطواتنا مخرجة قائمة بأسعار الإعلانات في الصحيفة , وباهتراء , ابتعدت نحو الشارع الترابي منتزعة صورتها قبل أن أجد قصاصة الورق .
وعلى صوت محرك السيارة وقهقهة الركاب جوار محطة البترول, نهضت من غفوتي أبحث عن قصاصة ورق مبتلعاً لعابي قبل أن يرشح جسمي عرقاً ...
15/7/2003م ذمار
سائس القطط
بدأت خيوط الشمس تتسلل إلى أروقة المشفى ، كان الظلام قد حل تاركاً أثاره ، الأيام الأخيرة من القرن العشرين ، الشتاء في ريعان شبابه ، صقيع سلب الأشجار خضرتها، آهات متداخلة تنبعث من أقسام الرقود ، أصوات قطط تتداخل مع آهات المرضى، القطط تتوافد آخذة مواقعها المألوفة منتظرة وصول الرائحة الصادرة من المطبخ ، اندفعت الرائحة متغلغلة في الأرجاء ، وقفت القطط مصطفة رافعة أياديها اليمنى موازية رؤوسها ، تقفل القطط عائدة إلى مخابئها بعد نفاد الرائحة منهية دوامها الصباحي – عندما تبدأ صالات المشفى تكتظ بالمرضى – يأخذ المرضى مواقعهم المعتادة ، يبدأ العمل عند وصول الأطباء ، تأخذ السرر المتحركة مواقفها إلى جوار غرفة العمليات – منظرها يوحي بأنها موقف للنقل الداخلي – لبس الأطباء كماماتهم ،ارتدوا ملابسهم الخضراء ، دفعت الممرضة أحد الأسرة إلى جوف غرفة العمليات .
كان على متن السرير مريض يظهر أن حالته طارئة – إذ لم يتردد على غرفة العمليات سوى ثلاثة أيام فقط – بدأ طبيب التخدير بوضع الحقنة الوريدية على الذراع الأيمن , أضاف عليها المادة المخدرة ، دخل المريض في غيبوبته ، نقل جسمه إلى سرير أخر, تقف تحت الإضاءة المركزة، قدمت الممرضات الأدوات المعقمة إلى جوار المريض ، وصل الطبيب إلى الغرفة مرتدياً اللون الأخضر ، جذب المشرط بعد أن حلق بقايا الشعر المحيط بموقع العملية ، بدأ المشرط يغوص في اللحم ، يشق طريقه ، يقطع كل شيء يقابله .. تندفع الدماء مقاومة ما يجري، لا يزال المشرط يسير في طريقه ، يطلب الطبيب بقية أدواته ، أعاد نظره إلى وجه مريضه الملقى تحت وطأة الإضاءة القوية ، تذكر بأنه لم يشاهد صورة المريض من قبل، حاول البحث عن ملفه .. عن اسمه .. ظهرت علامات الارتباك على ملامحه – عرف بأن مريضه يشكو من الزائدة الدودية وليس من تلف الكلية – سيطر الارتباك على تصرفاته ، تلفت يميناً وشمالاً ، رفع المشرط ، خيط الجرح الذي صنعه المشرط ، قام بالبحث عن الزائدة، وجدها توشك على الانفجار ، استأصل الانتفاخ ، رمى به – بعد لفه بقطعة من الشاش الأبيض – إلى جوار رأس المريض ، أنهى عمله بكفاءة بعد أن ضمد الجراح ، نقل المريض إلى سريره ، و نقلت معه أشلاؤه ، دفع السرير إلى الخارج ، استقبله الممرضون في قسم الرجال ، اخذ السرير يستقر في موضعه إلى جوار النافذة ، حقنة الوريدية على الحامل ، و جوارها قربة الدم ، الدم يخترق الأوعية الدموية ، تندمج الكريات مع كريات المريض ، أوشكت قربة الدم على النفاد ، الذاكرة تعود إلى المريض ، بدأ يفتش عن جراحه ، الوعي غائب ، لا يعلم بما جرى ويجري من حوله ، ينادي أبناءه ، يبحث عن زوجته .. عن والده ووالدته .. عن إخوانه ، من أ وصله إلى هذا المشفى ؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ لم يجبه احد سوى القطط التي اصطفت إلى جوار السرير المتحرك مرددة أهازيجها المدوية في أركان القسم ، صعدت جوار رأسه .. جوار قدميه .. جوار جسمه وأشلائه الممزقة ، توجه أصواتها إليه كأنها تخبره عما جرى . وصلت الرائحة القادمة من المطبخ ، دفعتها الجدران بقوة ، ارتطمت بأنوف المرضى حين لم تلق ترحيب القطط – كعادتها – هنالك شيء يصيب القطط.. ربما أن الملقى على السرير سائس قطط ؟
تساءلت الرائحة عما يجري للقطط وتساءل المرضى وهم يتناولون وجبتهم ، شغل المرضى بأحوالهم بعد أن عادت الرائحة إلى منابعها ، أخذ الصمت جزء من الوقت ، تسلط أنظارها على المريض الذي تقف بجواره، تأكدت بان الوضع ملائم للاصطياد ، جذبت إحدى قطعتي الشاش -الملقاة جوار رأس المريض ، اندفعت إلى خارج القسم ، عسكرت في الممر المؤدي إلى قسم النساء ، تظهر قطرات من الدماء على أجزاء من الشاش ، تتجاذب الشاش ، تنبش ما بداخله مستغلة الهدوء المخيم على الممر ، شعرت بوقع الأقدام ، انسحبت مصطفة على جانبي الممر – مفسحة الطريق أمام وقع أقدام مدير المشفى – حرك رأسه يميناً وشمالاً معرباً عن شكره لهذا الاحترام ، سقطت نظراته إلى الأرض ، فجأة لمحت عيناه كلية مبتورة إلى جوار قطعة من الشاش ، نزع نظارته ، انحنى إلى الأرض ، جذبت يمينه الكلية بعد أن لفها بالشاش ، اتجه إلى الداخل ، نادى في المرضى باحثاً عن المريض الذي سرقت القطط كليته دون أن يشعر ، تفقد المرضى أجسامهم ، لم يجبه احد سوى الممرضة المناوبة في القسم ، أخبرته أن شخصاً وحيداً أجريت له عملية جراحية للزائدة فقط ، اتجه إلى جوار المريض ، بحث عن رائدته المستأصلة ، وجدها ملقاة إلى جوار رأسه ، توجه إلى قسم النساء – مفتشا عن صاحب الكلية ، دون جدوى - تبعته مطالبة بصيدها ، عاد إلى قسم الرجال ، عادت وراءه ، رمى بالكلية إلى الأرض ، دخل الاستغراب إلى عقله ، ظل يراقب المشهد ويراقبه المريض كذلك ، ظهر قط متوحش من بين القطط ، جذب الشاش الأبيض وما يحويه بفمه ، وقفت القطط حائرة ، صعد إلى جوار المريض ، أعاد إليه كليته ، ألقى بها إلى جوار الزائدة المستأصلة ، صعد إلى النافذة ، صعدت معه الأنظار ، هرع مدير المشفى إلى جوار المريض ، بدأ يقلب أغطيته ، نزع الضمادة عن المريض الذي يلقى ما تبقى من آهاته ، ظهرت الخفايا واضحة، رفع المدير نظرتِه إلى القط ليشكره على موقفه ، لم يمهله في تلقي الشكر ، قفز إلى الخارج ، تابعته الأنظار لكنه اختفى وسط الظلام.
ذمار 26 / 6 / 2001
العبور الى الحرية
مع سقوط كتل الضباب على قمم الجبال وسفوح الوديان, في ذلك اليوم شديد البرودة من فصل الشتاء, كانت الأرض متعطشة لتلك القطرات الصغيرة من الماء لتنبت حتى القليل من العشب لتسد به رمق الأغنام والمواشي التي تعطف جلدها من شدة الجوع , في السنة التي حل فيها القحط على المناطق الجبلية ، الأغنام تذهب هنا وهناك , تتفرق باحثة عن عشب أخضر نبت من تلك القطرات. تفرقت الأغنام عن بعضها ,ابتعدت عدة أمتار في قمة الجبل. كانت راعية الغنم فتاة في التاسعة عشرة من عمرها.
ليست لها أم ، اختفت في مكان أشبه بالكوخ لتتجنب لفحات البرد وقطرات الماء المتساقطة , تراقب حركة الأغنام .. تحرسها .. تدفعها من الدخول الى المراعي المحجوزة .. مرت ساعات من الصباح ولا يزال الضباب مغطيا للجبال وسفوح الوديان , وهي في منعزل لم تر إلا بعض أغنامها , بدأت كتل الضباب بالارتفاع عن الجبل الشاهق قبل أن تصل الشمس إلى كبد السماء, خرجت من مكانها , صعدت قمة الجبل حيث الدفء , وأرسلت نظراتها لتشاهد أغنامها التي تفوق الثمانين, قلبت أنظارها يمينا وشمالاً , لم تشاهد إلا بضع عشرة من الأغنام العاجزة التي أصابها الكبر وانهكتها السنة المقحوطة , أصابها الخوف والهلع , تذكرت مصيرها إذا ظلت حتى ولو واحدة من الأغنام المنهكة , كيف ستلتمس العذر أمام (الأب ) المتوحش الذي لا يعرف معنى الأبوة و(خالة) لا تعرف الحنان , وليس في قلبها قسط من الرحمة، فاضت الدموع من عينيها , تذكرت أمها التي وافتها المنية قبل تسع سنين , جفت الدموع من عينيها , نهضت والحزن مسيطر على مشاعرها , فتشت عن الأغنام , أعادتها إلى مكان به عشب أخضر في منحدر بالقرب من قمة الجبل نزل عليه بعض من الماء في الأسبوع الأول من الشتاء , لمحها أحد شباب القرية التي تسكنها وهي تحصر الأغنام , تأمل لحالها وما تعانيه من شقاء , تذكر والدتها التي حزنت القرية لوفاتها , كانت مثالاً للرحمة والأخلاق , بينما هو على حالته , دقت في قلبه نبضات حب وشوق , اندفع في طريق عشوائي بعيداً عن أعين الناس , لم يصل إلا وقد اختارت مكاناً جميلاً لتسترح فيه , شاهدته مقبلاً إليها ، وجه إليها ابتسامة , وصلت أواصر محبة وحنان إلى قلبها المتعطش , جلس أمامها , لم يفصله عنها إلا قدماً واحداً , أطلقت ابتسامة هادئة عبرت عما تكن له من الحب متمنية أن تكون مثله في سعادة , بوجود أبيه, ربت على كتفها , تبادلا الأحاديث التي فاضت منها أعمق المشاعر ,تناثرت القبلات كالأسهم مجسدة قواعد الحب , نسيت أغنامها وعناءها ,شعرت أنها قد كبرت و حان وقت اٍنتقالها من الجحيم الى السعادة وتكوين الأسرة السعيدة بجوار زوج يشاركها الأعمار والعبور إلى شاطئ الحياة الزوجية...
6 / 8 / 1998
رمزي وإقلاق الأمن
ما ما .. ما ما, أرجوك أعفيني من المدرسة .
أثار (رمزي) حيرتها بعباراته , ألحت لمعرفة سبباً لما لم تسمعه من قبل .
- بالأمس صوب الأعداء رصاصهم إلينا ونحن نخرج من بوابة الصف , فنزفت دماء (عادل وسعد وخالد ) بينما فارق (خليل) الحياة حينما نزفت دماؤه بكثرة .
مسحت عن وجنتيه الدمع , تنفست بعمق وهي تنحني إلى مستوى استقامته , بصوت مهترئ قالت وأصابعها تمسح شعره : لا تخف لن يمسوك بسوء إن شاء الله . اقتنع بالتوجه إلى المدرسة .
ألصقت قبلة في إحدى وجنتيه قبل أن تغلق خلفه الباب , رجال يرتدون أسلحتهم يسدون مداخل الشوارع وعربات عسكرية تجوب , الرصيف خالياً سوى بعض الأطفال في خطاهم إلى المدرسة , أطلت تراقبه وهو يسير بخطوات مهترئة وعلى ظهره حقيبته التي يبدو منها مثقلاً .
همست وهي تراقبه من النافذة وهو يجمع بين أصابعه قطع صغيرة من الأحجار , لطالما شاهد الدماء والعنف سواء خلال طريقه إلى المدرسة أو عندما يذهب لجلب احتياجات المنزل , لماذا يخاف ؟
هرع يركض ويتلفت شمالاً ويمنياً مقترباً من المدرسة , لاحت عربة عسكرية تبتلع الشارع نحوه ..
- ربما يخفى سلاحاً !
- ربما حقيبته معبئة بالمتفجرات !
قالها أفراد العربة قبل تصويب أسلحتهم , اختفى بين زملائه عندما ظهرت جياد يمتطيها عساكر بأسلحتهم وسياطهم , تحاول إخراجه من الزحام , رائحة مسيلات الدموع تسعى , ألقى( رمزي) بحقيبته على الرصيف , هرع مسرعاً نحو المنزل , ظلت تراقبه يركض وعشرات الرصاص خلفه , صرخت بقوة , فقدت أحاسيسها , لم تفق إلا على دمائه وهو يحاول الاختفاء بين حضنها, وأصوات الجرافات والعساكر مقتربة نحو المنزل لان سكانه يعملون على إقلاق الأمن .
وصاب السافل 5/4/2003م
انقلاب
بزغ الفجر بعد ليلة هادئة قضتها خلية النحل , يوم ربيعي استأنفته أصوات العصافير بعد توقف ضفادع عن نقيقها المتواصل منذ الساعات الأولى من الليل , الخضرة تفترش الحقول وتغلف الجبال , أزهار زاهية تتوج خضرة وتبعث روائحاً تتراقص لشذاها فراشات خلعت عليها الطبيعة من زهوها ألواناً تغطي أجسامها , وفي بطن الوادي تتسلل المياه من بين الحقول بخريرها المؤنس للصمت المستفحل أحضان الجبال و الاذغال, قطرات الندى تتلألأ من أطراف الأوراق الرهيفة عند بزوغ خيوط الشمس من على الحافة .
طنين النحل يسابق خيوط الشمس إلى الأزهار الزاهية التي تقف مستأنسة لها وهي تجمع من بين زهائها رحيق وحبوب لقاح , كانت تتوسد تجويف صخري بالقرب من مجرى الوادي , الطنين يتعالى كلما اشتدت الشمس , حركة دؤبة في المدخل , نحلات تتأبط أكياس رحيق ملونة تحت أجنحتها الشفافة, تلج إلى الداخل عبر المدخل الذي تعسكر فيه أفراد حراسة , تفرغ الرحيق إلى قوالب شمعية مقسمة إلى ألاف الحلقات السداسية , طنين الذكور يتميز كأصوات المزامير في حفلات الأعراس , الملكة تتفقد أجزاء الخلية تجهيزاً لوضع البيض كعادتها , الذكور تتصارع لتحضي بالملكة .
خرجت يرقة من حافة أحد القوالب , لا تختلف كثيراً عن اليرقات الأخرى .
نحلة مسكينة نجت من سحر الملكة , امتلكت القدرة على الإنجاب , خرج أحدى الذكور كعادته يصدح بطنينه لتنشيط النحل ومضاعفة جهودها قبل انقضاء الموسم , كانت تمتص رحيق زهرة برتقال حين اقترب طنينه منها , استغلاء لحظة ابتعادهما عن الخلية , عاد يرافقها , فكرت بمكان, آمن لإخفاء بيضتها بعيداً عن أعين الملكة , كانت حافة ذلك القالب هو المكان بعد أن صنعت غذاءً مطابقاً لغذاء الملكة , خرجت اليرقة بعد أن تغذت من الغذاء الخاص بالملكات , نمت بسرعة , أخذت شكل الملكة , ضمت إلى خدمتها جزء من أفراد الخلية , صراعات بين الملكتين , أعداد من القتلى تُلقى إلى الخارج , دب السكون بعد سقوط الملكة العتيقة وإلقائها إلى الخارج , توقفت الملكة الجديدة بالقرب من المدخل ومن حولها العشرات من الوصيفات توقفت أمام بضع نحلات وكأنه مؤتمر صحفي بعد الانتصار , الذكور تتقرب إليها , بيد أن سحر المكلة المقتولة نال منها , وشل أعضائها الجنسية , امتلأت قوالب الشمع بالعسل , توقف نشاط الخلية , بدأ البحث عن سبب التوقف , اكتشف سر الملكة الكاذبة , بدأ التحقق, بينما كانت المتسببة في الانقلاب تخفي نفسها بين العسل وما يزال التحقيق جارياً ...
ذمار10/7/2003م
تلقين الألفة
عندما استطاع الصياد مقاومة الصخور المثبتة على قمة الجبل أفرع محتويات العش الذي دسته أنثى طائر (العقاب)(1) بين أحشاء الصخور الوعرة، تسلل ببطء عندما تأبط صيده، أفرجت عنه الصخور قبل أن تخطر على مخيلته فكرة تفقيس عقاب أليف، دس البيض الذي جمعه إلى جوار بيض يضمه عش ساوته مخالب دجاجة , توزع حنانها على مساحة العش حين كانت أصابع الصياد تراقب فترة الحضانة، بدأ الصغار بتحريك مناقيرهم من جوف الأغشية محاولة الخروج..صغار العقاب تخرج أولاً, بعد أن حطمت الحواجز الكلسية..عينا الصياد تجبره على الابتسام حين شاهدتا نجاح الحضانة، الدجاجة تغطي الصغار بحنانها عندما تحس باقتراب نظرات الصياد، كفه ينشر دقائق الغذاء داخل قن يحتضن الدجاجة والصغار، بدأ في التطلع إلى الصغار من مدخل القن, فرقة من الصغار تجيد المهارة بكفاءة لفتت انتباه الدجاجة إلى البحث عن السر، بصيرة الصياد تعي بأن المياه الممتزجة داخل الغشاء الكلسي, نقلت الطباع وأسرار الحياة الشرسة إلى الأشقاء – صغار الدجاجة – من الحضانة، مرت الأيام والدجاجة تجهل السر , مخالب الصغار تنكش الأرض وتسبي ما بجوفها من خيرات, توجه التعليمات إلى الصغار, لكنها تجد فرقة لا تحتاج إليها، نسمات الصباح تنقل في أطرافها روائح الحزن متطايرة من فاجعة حلت بأنثى العقاب، بدأ الصغار تطلعاتهم نحو الأفق لترجمة الاحزآن, الأيام تقوي الأجنحة والمخالب , الدجاجة تحاول معرفة السر.. بعد أن عجزت في تلقين تعليماتها إلى أفراد الفرقة، الدماء تسير في اضطراب داخل شرايين الصياد حين أجنحة الصغار تقوى على مقاومة أخطار الفضاء ، خرج يراقب الصغار وهم يحاكون نسمات الصباح ويتطلعون إلى الجبال المغلفة للمنطقة، يحاول الاقتراب عله يفهم معاني الأصوات التي تطلقها، شعر الصغار باقترابه .. شدت أجنحتها بموازاة رؤوسها، أطلقت أصوات فزع بعد أن خلفت زوبعة من الغبار، كان ظلهم يطارد أشقاءهم الذين احتموا بسقف القن عندما يطيرون نحو الجبل ,يداه تنفضان الغبار بعد أن سئمت نظراته من اللحاق بهم والحصول على العقاب الأليف...
وصاب في 14 / 12 / 2001
الجوع
البرودة أعلنت سيطرتها على المدينة وفرضت حظر التجوال وتمكنت من إيقاف المياه في شرايين شبكاتها، ظل يراقب النجوم في السماء بعد أن نفد محصول الليلة السابقة، تسللت البرودة إلى الداخل، ظل الأطفال يتطلعون إلى النجوم بعد أن قطع شبح الجوع سلسلة أحلامهم البريئة، ظل منتظراً موعد وصول النجوم إلى الموضع المعتاد، أغارت البرودة على الأطفال وأوقفت كامل حركاتهم, ظلت أبصارهم موجهة نحو النجوم بعد أن عكرت السحب صفو مسيرها، لملم ما تبقى من ملابس حول عظامه المغطاة بالجلد، ساقته قدماه , على عادتها, كان الشارع قد تجمد بعد أن تجمدت محتوياته، كان قد غير هيئته، تقدم ببطء أمام خيوط الضوء المندفعة من مصابيح الإنارة بعد أن حجبت عتمة الضباب معظم خيوطها الكثيفة، نثرت عكازه – التي يصطحبها لتفريق الكلاب – المخلفات الأخرى , جمع الفضلات التي يبحث عنها، تطلع من حوله شمالاً ويميناً، جمع الفضلات بعناية , لم تمهله البرودة في العودة بما جمع، ظل مبتسماً عندما وجد المكان خالياً من الكلاب، تجمدت حركة الدماء في أحشائه , عندما شعر بالبرودة ، ظل مبتسماً عندما كانت جثته تهوي وتهوي, جوارها عكازه التي أعلنت الاستسلام.
ذمار في / 12 / 11 / 2001
منحة إلى العالم الأخر
أربع سنوات منذ أن حصل خالد على الثانوية بتقدير عالٍ، زملاؤه يتوقعون حصوله على منحة دراسية خارج الوطن. دائماً يرد عليهم بأن نجمه مشؤم، وقد سبق أن أخبره بذلك الساحر القديم عند زيارته له مع والده أيام الطفولة , والدليل على شؤم نجمه أن الساحر طلب من والده أن يغير اٍسم (خالد) حتى تتغير حياته ويكون قادراً على كسر شبح الشؤم من أمامه.
أخبر زملاءه عن حكاياته التي كان يسمعها عن الجن وعالمهم المتطور, و ما كان يجريه الساحر حين يضع رموز مسطحة على قصاصة البياض في كوب الماء, و حكاياته التي كان يسمعها عن الجن وعالمهم المتطور.
أحد زملائه سأله يوماً: لماذا يا خالد لا تغير اٍسمك حسب نصيحة الساحر؟ سؤال لم يجبه , ظل يفكر به دائما, يشاور نفسه: لماذا لا يغير أسمه؟ ويتخلص من النجم المشؤم الذي لازم أسمه؟ استغراقه في التفكير عرضه للعديد من العقوبات والطوابير العسكرية القاسية خلال فترة التجنيد الإلزامية.
أصر على الاٍحتفاظ به محاولاً كسر العوائق بمواصلته للدراسة الجامعية – عند نهاية الخدمة – عَلّ وعسى أن يتحسن حاله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.