ü قبل أن نستعرض - بايجاز - مع الأديب المناضل الاستاذ/ أحمد بن محمد الشامي، صوراً من الحياة الأدبية في سجون حجة ( سجن نافع ومعتقل قاهرة حجة).. لابد لنا من التعرف على هذين السجنين من خلال وصفه، كونه أحد نزلائهم وشاهداً حياً على نشاط أدبي وثقافي كان علاجاً ناجعاً للتخفيف من عبء السجن ومرارة عذابه.. وإذاً فلتكن البداية بسجن نافع.. يقول الاستاذ الشامي: «لا استطيع أن أوفي سجن «نافع» حقه من الوصف، ولا أن أعبر عن كآبة وبشاعة مداخله وأبوابه وأماكنه المظلمة إلا إذا قلت إن شراسة نظرات وملامح مديره وسجانيه أكثر كآبة وأشد بشاعة، وكان عبارة عن ساحة صغيرة على شمال داخلها مكان يسمونه «العشة» وفيه يقابل من يأذنون له بمقابلة أهله وزواره، وفي الساحة «المدقة» التي يقيدون عليها من يرد إليه من السجناء أو يفكون قيوده إذا أطلق أو مات، أو حكم عليه بالإعدام، وأمامها يقوم بناء يتكون من ثلاث أو أربع طبقات هو السجن الأصيل الذي لانوافذ له، ولم أدخله ولم أر إلا باب دهليزه المظلم كأنه مغارة تسكنها الأشباح، وعلى يمين الداخل توجد بضعة درجات إلى مكان الحرس والدرج التي توصل إلى مكان (المدير الحاشدي) وعلى يسار باب آخر يهبط منه الرهائن والمساجين سبع درجات إلى ساحة مستطيلة تطل عليها أمكنة مصمتة، وآخور مظلم، والنوبة التي يبول ويتغوط فيها المعتقلون!!». «أما بالنسبة لمعتقل (قاهرة حجة) التي تحتل أعلى قمة من قمم «حجة» هذه القلعة هي عبارة عن حصن يطل على سفوح حجة وفيه دار شامخة بجواره مسجد تحيط به عدة برك لخزن مياه الأمطار الموسمية، وفيها مخازن ومستودعات للأسلحة، والذخائر، وثلة من الجند النظامي رئيسهم (الشاوش) صالح النهدي وثلة من الجيش الشعبي من قبيلة حجور كان يرأسهم «محمد حزام». صلوات وصمت رهيب ü في سجن «نافع» بحجة حيث جرجرت إليه من صنعاء ضمن قافلة المعممين الحزينة.. التقيت بزملائي الشعراء إبراهيم الحضراني، أحمد المروني، عبدالله الشماحي، عبدالرحمن الإرياني، أحمد المعلمي، زيد الموشكي، محمد بن علي المطاع، محمد صبرة، محمد السياغي، محمد المسمري، وبأصدقائي العلماء والأدباء علي عقبات، علي ناصر العنسي، أحمد المطاع، حسين الكبسي، محيى الدين العنسي، أحمد الحورش، إسماعيل الأروع وأخيه، أحمد محمد نعمان وغيرهم. وأكتظ سجنا «المنصورة» و «القاهرة» بمجموعة أخرى من العلماء والشعراء. لذلك فقد خيم على «نافع» الصمت الرهيب باديء ذي بدء.. الأفكار تجول، والنظرات زائغة، ولايود أحد أن يتكلم مع أحد غير همهمة الدعوات والصلوات وآيات القرآن الكريم. وإذا بالحلقات والندوات تعقد ويتبادلون النكات والأشعار والحكايات، والمقامات، فيقتلون الوقت التعس قتلاً لذيذاً ويفكرون في وسائل تحسين معيشتهم ومايستطيعون به أن يخففوا بها مصائبهم، كإصلاح المراحيض وتنظيف الأماكن، والإذن بجلب المياه من بركة «حورة» وليس من بركة «الزعبلي» وتجديد ملابسهم، والكتابة إلى ذويهم.. ومراجعة «الإمام» أو «نائبه» من أجل الحصول على ذلك مستعملين البيان شعراً ونثراً في الرسائل والبرقيات.. وكانوا يحفظون رسائلهم وأشعارهم عن ظهر قلب ودون تسجيل إذ لايسمح للأقلام والأوراق بدخولها إلى السجن بل يملون مايريدون إملاءه علي أحد الحراس أو يكتبونه وهو واقف يراقبهم .. (بالطبع تمكن السجناء من التغلب على هذه المعضلة بطرق لطيفة).. هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد هلعت قلوب الشعراء حزناً على مصارع بعض رفقائهم فنظموا مراثي كانوا يرتلونها غمغمة على زملائهم بكاء وعزاء ومواساة ومن أبرز المراثي ماقاله الشاعر إبراهيم الحضراني في الشهيد عبدالله الوزير ومطلعها: عليك وإلا فالبكاء حرام وفيك وإلا فالرثاء أسام وحيث سيق إلى الموت الشهيد محيى الدين العنسي كان ينشد قول إبراهيم الحضراني: كم تعذبت في سبيل بلادي وتعرضت للمنون مرارا وأنا اليوم في سبيل بلادي أبذل الروح راضياً مختاراً ومن بدائع شعر إبراهيم الحضراني في السجن قصيدته العينية ومنها: ووالله ماخفت المنايا وهذه طلائعها مني بمرأي ومسمع ولكن حقاً في فؤادي لأمت أخاف إذا مامت من موته معي كما أني رثيت زيد الموشكي، واشتركت مع إبراهيم الحضراني في ترثية سيف الحق إبراهيم بن الإمام يحيى وقال آخرون شعراً جيداً في بعض الشهداء وكل ذلك محفوظ ومسجل منه ماطبع منه ما لايزال مخطوطاً. وذكر لي أحمد المعلمي أن في مذكراته (صفحة 92 - 103) كلاماً كثيراً عن السيد الشاعر محمد بن أحمد الشامي ونقل له قصيدتين إحداهما عنوانها «فوق العش المركوم» ومنها في وصف زملائه في السجن. ياضارب الخيمة السوداء إن هنا رهطاً يذوبون أرواحاً وأبدانا قد فطر الحزن والتدليه افئدة منهم وقد قرح التسهيد أجفانا والأخرى عنوانها «من بين الجدران» وجهها إلى والده وفيها يقول: خلنا للحديد والسجن والتشريد والسقم والضنى، والبلاء إنني قد حملت للدهر قلباً جمعته مطارق الأرزاء وفي فصل «ثورة الدستور وشهدائها» من ديواني «الياذة من صنعاء» قصائد رثاء من وحي سجن حجة يستطيع الرجوع إليها من يرغب في المزيد من الشواهد. الدخول إلى قلب الإمام!! ü مع المدى تطور الأمل عند الشعراء والأدباء إلى إمكانية التأثير على الإمام أحمد بوسائل البيان، فبدأ الاستاذ أحمد نعمان بمراسلته مستعملاً أسلوبه الخلاب، وانفعل بها الإمام واستمرت المراسلة حتى حن عليه ونقله من نافع إلى القاهرة ثم إلى بيت مستقل مع أهله وأولاده، والف رسالته الجديدة «شخصية الإمام الناصر» فطلبه الإمام إلى تعز واستطاع أن يكسب عطف الإمام على المساجين وعليّ بشكل خاص كما حدثني الاستاذ وغيره وكان الإمام أحمد أديباً بليغاً يحب الشعر وقوة البيان ولذلك فقد استغل شعراء سجون حجة هذه الناحية ابدع استغلال واستطاعوا أن يدخلوا إلى قلبه من أقرب الطرق وأن يقلموا أظفار الخوف ويخففوا من وطأة الرعب، ويخلقوا جواً من التفاؤل حولهم، وأن يدافعوا عن أنفسهم ويجابهوا ضراوة المؤلبين والمنافقين المطالبين بقطع الرقاب وتنفيذ أحكام الإعدام في الدستوريين. - تلك بعض وجوه نشاط أدب وشعر سجون حجة في الفترة الحرجة. تلك كانت أوجه النشاط الأدبي في الفترة الأولى، مساجلات، ومحاورات، ومناجات خاصة، كانت تخفف عبء السجن ومرارة عذابه. النعمان يبعث من قبره؟!! ü ولما تحسنت أحوال «السجن» وظروف السجناء وتلاشى شبح السيف المصلت وأوقفت أوامر الإعدام وذلك بعد مضي عام وأذن الإمام بدخول الكتب إلى السجون وتوطدت المعرفة بين بعض «السجناء» وأفراد الرسم» - الحراس - فهربوا إليهم الأقلام والرسائل والجرائد والأوراق والمداد والكتب العصرية.. وأوصلوا لهم الجوابات ونقلوها عنهم.. توسع النشاط واتصل الأدباء بمقالاتهم وقصائدهم حتى بإخوانهم الذين نجوا من الموت، والاعتقال وفروا إلى باكستان وعدن ولبنان ولندن. وفرض أدب «حجة» سلطانه حتى على عقول المبعدين الشاردين من أبناء اليمن فإذا بالشاعر محمد محمود الزبيري يدبج الرسائل البديعة مستعطفاً الإمام متشفعاً إليه في «نعمان» وصحبه ويرسل قصيدته الرائعة الطويلة: أيُبعث نعمان من قبره»! ويمجد الإمام تمجيداً يستل من قلبه بقايا السخيمة.. وحقاً لقد كان الإمام كريماً مع الشعر وسحر الكلمة ولم يخيب لهما أملاً مثلما كان رهيب السيف جبار الهمة. - وانتقل الشعراء من سجن «نافع» الرهيب إلى معتقل «قاهرة حجة» وهناك في قمة ذلك الجبل وفي الجو المفعم بالنقاوة الصحية، والحرية السماوية، والانطلاق الشعري وتهاويل المناظر الطبيعية.. وخاصة في وقت الغروب.. هناك نظم الشعراء أجمل قصائدهم وأروع ألحانهم، وفكروا بوضوح علموا شبابهم وقووا روابطهم، وأغزروا ثقافاتهم ووسعوا معلوماتهم بالقراءة والدرس والحوار، وأصدروا مجلة خطية أخرى أسموها «الندوة» وكانوا يتناوبون نسخ مقالاتها وتنسيقها ومحاولة إخراجها إخراجاً فنياً، وقد نوقش فيها أبحاث اجتماعية وأدبية وتاريخية وفلسفية، ولكنها لم تتعرض للسياسة لا من قريب ولا من بعيد، ولذلك أمكن تناقلها خارج السجن وكان لها أثر فكري على قرائها. ويستطرد الاستاذ أحمد الشامي بقوله: وشرعت في تأليف كتابي عن «الإمام أحمد، وأرسلت بعض فصول إليه.. ثم ناجيته بقصائدي «التائيات» المنشورة في ديواني «النفس الأول» فاطلق سراحي إلى «الحديدة» سنة 1953م بعد خمس سنوات غير عجاف أدبياً وكان ماكان مما هو مفصل في مذكراتي». باقة شعرية ومرثية!! ü وفي قاهرة حجة تمكن القاضي العلامة الشاعر عبدالرحمن بن يحىى الإرياني مع زميله المرحوم العلامة عبدالله الأغبري، من العناية بديوان عبدالرحمن الآنسي تصحيحاً وتنقيحاً وضبطاً وشرحاً وأرسلوه إلى الإمام أحمد فأمر بطبعه فوراً وكانت خدمة للشعر الحميني والأدب اليمني. كما اعتنى بعد ذلك القاضي عبدالرحمن الإرياني والقاضي محمد بن علي الأكوع بديوان الشاعر عمارة اليمني وساهمت معهم في استجلاء بعض الغوامض ولا أدري ماصنع الله بالكتاب. كما أن القاضي العلامة محمد علي الأكوع قد تمكن في نفس الوقت من العناية ببعض أجزاء الإكليل وفتح مبهماته وقد طبع البعض والبقية تحت الطبع، وهو جهد مشكور. وكانت تقام المسابقات الشعرية في المناسبات الحزينة والمفرحة والتاريخية ولنضرب لذلك مثلاً: 1 - تزوج أحد الشعراء من آل الإرياني - وكان لايزال يافعاً يغرم بالشعر وبصوت يبشر بمستقبل شعري بديع فاقترح البعض أن توصل له «باقة شعرية» واقترح الوزن والقافية وتحديد الوقت على أن تنال أحسن قصيدة الجائزة وكان يرأس لجنة التحكيم القاضي عبدالرحمن الإرياني وكان الوزن المقترح في قافية الراء كما ورد في قصيدتي التي مطلعها: نغمات أفراح، ولحن سرور رقصت عليها مهجتي وشعوري وكانت الحصيلة حوالي عشر قصائد. 2 - ومناسبة أخرى موت من سميناه حينذاك «الجندي المجهول» وقد كان «معلوما» فهو أحد الرسم - الحراس - ولكنه تأثر بأفكار الأحرار ورق قلبه لهم وساهم في خدمتهم وحمل رسائلهم، ثم ساعد أحدهم على الهروب واكتشف أمره فسجنوه ونفوه إلى سجن «السودة» ولم يستطع مقاومة الأهوال فمات. واقترح البعض أن يشترك جميع الشعراء في تأبينه والإشادة بموقفه وقالوا شعراً بديعاً وانفعلت يومئذ للمأساة انفعالاً شديداً وقلت أبلغ قصيدة اعتز بها وهي نحو ثمانين بيتاً ولكنها لاتزال مفقودة وقد وعدني القاضي إسماعيل الأكوع بالبحث عنها.. وكانت حصيلة الاقتراح إحدى عشرة قصيدة من أروع مانظمه شعراء اليمن. 3 - عندما هبت ثورة مصر سنة 1952م امتلأت نفوس المساجين بالأمل والتطلع فتباروا في إنشاء القصائد يوجد بين مجموعتي الأدبية كراس بخط الشاعر أحمد المعلمي يحوي اثنتي عشرة قصيدة في الموضوع.. ضمنها قصيدتي «ثورة مصر» المنشورة أخيراً في ديوان «الموءودات». 4 - وفي نفس الوقت تعمق تفكير السجناء في نقاش ماينتظرونه أو مايعده لهم المستقبل لو مات الإمام أحمد وهم لايزالون في السجن فقرروا الانحياز إلى ابنه محمد البدر الذي كانوا على صلة معرفة ومودة به وكانوا - أو بعضهم على الأقل - بصدق وإخلاص يرون فيه الأمل والمخلص والمنقذ لهم من إخوة الإمام وأبنائهم الذين تعصبوا وكانوا ضد العفو عن المساجين وضد معاملتهم بالحسنى. 5 - كما أن بعض الشباب قد حاول تسلق أسوار المستقبل فأرسل رسائل من خارج السجن إلى بعض المساجين وتلقى جواباتهم حسب قوله وقد جمع كل ذلك في كتاب «من وراء الأسوار». .. هامش: ü مجتزأ بتصرف من كتاب «رياح التغيير في اليمن» للاستاذ / أحمد محمد الشامي.