ونظراً لالتباس مراتب تغيير المنكر وشروطه على العديد من الشباب المتحمسين إلى إحلال الحلال وتحريم الحرام ومعاداته فقد سعى هؤلاء إلى ارتكاب أخطاء عظيمة عند تنفيذ الانكار باليد،متكئين على بعض فتاوى اجتهد فيها علماء مغالون وتدمير مصالح ومؤسسات أوطانهم الحيوية، وإزهاق الأرواح البريئة من أهل التوحيد الذين لم يرتكبوا مايجيز إهدار دمائهم وتدمير ممتلكاتهم والاضرار بهم، لأنهم معصومو الدم.. فإنكار المنكر بالقوة يعد قضية حساسة وذات أهمية لمعرفة رأي الشريعة الإسلامية الواضح منها.. كي تنجلي الأمور، وتتبين الحقيقة لمن لايزال يقدِّس أقوال وآراء مشائخه،ويضرب بقول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والعلماء عرض الحائط أو يدوس عليه ويمضي قدماً في حصد مزيد من التشويه لمقاصد الدين، وتلبيس الحديث النبوي مالايتفق عليه أو معه المجتهدون المشهود لهم بالتقوى والعلم والاجتهاد.. ولقد تلقى فضيلة الشيخ الدكتور/يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين استفساراً حول قضية المنكر،قال فيه:تعد قضية تغيير المنكر بالقوة من القضايا التي يدور حولها الجدل، وتختلف فيها الآراء، فمن هو صاحب الحق في التغيير؟ومتى يجوز ذلك؟فمن هو صاحب الحق في التغيير؟ ومتى يجوز ذلك؟ فمن الناس من يقول: إن هذا الحق لولي الأمر فقط، أي هو من وظائف الدولة،لامن وظائف الأفراد، وإلاَّ كان الأمر فوضى،وحدث من الفتن مالايعلم نتائجه إلاَّ الله تعالى.. وآخرون يجعلون ذلك من حق كل مسلم بل من واجبه، استناداً إلى الحديث النبوي الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه،عن رسول الله صلى عليه وسلم قال:«من رأى منكم منكراً فليغيره بيده،فمن لم يستطع فبلسانه،فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». ويتابع السائل مستفسراً:فالحديث يجعل التغيير واجباً على كل من رأى المنكر باليد أولاً فإن عجز باللسان، و إلاَّ فبالقلب،وذلك أضعف الإيمان فمن قدر على أقوى الايمان فلماذا يرضى بأضعفه؟!.. وهذا ماحفز بعض الشباب المتحمس لتغيير مايرونه منكراً بأيديهم، دون مبالاة بالعواقب،على أن ولي الأمر أو الدولة نفسها قد تكون هي فاعلة المنكر، أو حاميته، قد تحل الحرام، أو تحرم الحلال، أو تسقط الفرائض، أو تعطل الحدود، أو تعادي الحق،أو تروِّج للباطل، فهنا يكون على الأفراد تقويم عوجها،بما استطاعوا من قوة وفي اعتقادهم وحسب فهمهم للحديث أنهم إن أوذوا ففي ذات الله، وإن قتلوا ففي سبيل الله، وهم شهداء بجوار حمزة بن عبدالمطلب سيد الشهداء،كما جاء في حديث نبوي آخر. واستطرد السائل يقول في استفساره للشيخ القرضاوي:- وقد اختلط الأمر على كثير من الناس، وبخاصة الشباب المتدين الغيور. ولاسيما أن الذي يتبنى القول ويدافع عنه هم بعض العلماء الذين أصبح يطلق عليهم علماء السلطة وعملاء الشرطة،فلم يعد كلامهم يحظى بالقبول حسب قول السائل وأصحاب القول الآخر كلهم من الشباب الذين قد يتهمون بالتهور أو التطرف واتباع العواطف،والأخذ بظواهر النصوص دون ربط بعضها ببعض.. واختتم السائل بقوله:أملنا أن تعطوا بعض الوقت لهذه القضية حتى يتبين لنا أي الرأيين أصوب،أو لعل الصواب بينهما أو في غيرهما.. وقد أسهمب الشيخ الدكتور القرضاوي في الاجابة عن التساؤلات التي أوردها أحد السائلين.. وفصَّل في فقه وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحيث ربط ذلك بواقع الأمة العربية والإسلامية،وقدَّم القرضاوي رأي الإسلام في هذه القضية بتفاصيلها كما يلي:- من الفرائض الأساسية في الإسلام فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. قال الله تعالى:«كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله» سورة آل عمران من الآية «110» والمنكر أي منكر يعيش مطارداً في البيئة المسلمة، كالمجرم المحكوم عليه بالاعدام أو السجن المؤبد والمسلم مطالب بمقاومة المنكر ومطاردته.. ومن هنا جاء الحديث الصحيح الذي رواه سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من رأى منكم منكراً فليغيره بيده،فمن لم يستطع فبلسانه،فمن لم يستطع فبلقبه،وذلك أضعف الإيمان». «رواه مسلم في كتاب الايمان من صحيحه عن أبي سعيد الخدري»،والحديث واضح الدلالة في أن تغيير المنكر من حق كل رآه من المسلمين، بل من واجبه. ودليل ذلك أن «من» في الحديث من رأى «من ألفاظ العموم،كما يقول الأصوليون،فهي عامة تشمل كل من رأى المنكر،حاكماً كان أم محكوماً، وقد خاطب الرسول الكريم بها المسلمين كافة «من رأى منكم» لم يستثنِ منهم أحداً،ابتداء من الصحابة فمن بعدهم من أجيال الأمة إلى يوم القيامة. وقد كان هو الإمام والرئيس والحاكم للأمة، ومع هذا أمر من رأى منهم وهم المحكومون منكراً أن يغيروه بأيديهم، متى استطاعوا،حين قال:« من رأى منكم منكراً». وأوضح الشيخ يوسف القرضاوي أن لتغيير المنكر شروطاً،وكل من يرد إنكار أمور وأقوالاً وأفعالاً فعليه مراعاة هذه الشروط التي لابد منها،ودلت عليها ألفاظ الحديث وهي: أولاً: أن يكون «منكراً» حقاً،ونعني هنا:المنكر الذي يطلب تغييره باليد أولاً، ثم باللسان،ثم بالقلب عند العجز، ولايطلق «المنكر»إلا على «الحرام» الذي طلب الشارع تركه طلباً وجازماً،بحيث يستحق عقاب الله من ارتكبه.. وسواء أكان هذا الحرام فعلاً محظورًا، أم تركًا مأمورًا. فلا يدخل في المنكر إذن المكروهات،أو ترك السنن والمستحبات،وقد صح في أكثر من حديث أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما فرض الله عليه في الإسلام فذكر له الفرائض من الصلاة والزكاة، والصيام وهو يسأل بعد كل منها: هل عليِّ غيرها؟ فيجيبه الرسول الكريم:«إلاَّ أن تطوَّع» حتى إذا فرغ منها قال الرجل:والله يارسول الله، لا أزيد على هذا ولا أنقص،منه فقال عليه الصلاة والسلام:«أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق». «حديث متفق عليه عن طلحة بن عبيد الله». لابد إذن أن يكون المنكر في درجة «الحرام»،وأن يكون منكراً شرعياً حقيقياً،أي ثبت إنكاره بنصوص الشرع المحكمة، أو قواعده القاطعة،التي دل عليها استقراء جزئيات الشريعة. وليس إنكاره بمجرد رأي أو اجتهاد،قد يصيب ويخطئ،وقد يتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال. وكذلك يجب أن يكون مجمعاً على أنه منكر،فأما ما اختلف فيه العلماء المجتهدون قديماً أو حديثاً، بين مجيز ومانع، فلا يدخل دائرة «المنكر» الذي يجب تغييره باليد،وخصوصاً للأفراد. فإذا اختلف الفقهاء مثلاً في حكم التصوير، أو الغناء بآلة،وبغير آلة،أو في كشف وجه المرأة وكفيها، أو في تولي المرأة القضاء ونحوه، أو في إثبات الصيام والفطر برؤية الهلال في قطر آخر، بالعين المجردة،أو بالمرصد أو بالحساب أو غير ذلك من القضايا التي طال فيها الخلاف قديماً وحديثاً.. لم يجز لإنسان مسلم، أو لطائفة مسلمة أن تتبنى رأياً من الرأيين،أو الآراء المختلف فيها، وتحمل الآخرين عليه بالعنف. حتى رأي الجمهور والأكثرية، لايسقط رأي الأقل، ولايلغي اعتباره،حتى لوكان المخالف واحداً،مادام من أهل الاجتهاد، وكم من رأي مهجور في عصرما أصبح مشهوراً في عصر آخر،وكم ضعف رأى لفقيه،ثم جاء من صححه ونصره وقواه،فأصبح هو المعتمد والمفتى به. إن المنكر الذي يجب تغييره بالقوة لابد أن يكون منكراً بيناً ثابتاً، اتفق أئمة المسلمين على أنه منكر،وبدون ذلك يفتح باب شر لا آخر له،فكل من يرى رأياً يريد أن يحمل الناس عليه بالقوة!في بعض الأقطار الإسلامية قام مجموعة من الفتيان المتحمسين لتحطيم المحلات التي تبيع الدمى«العرائس واللعب» للأطفال؛لأنها «العرائس حسب فهمهم القاصر أصنام،وصور مجسمة تعتبر من أكبر الكبائر! ولما قيل لهم:إن العلماء من قديم أجازوا لعب الأطفال،لما فيها من امتهان الصورة، وانتقاء تعظيمها.. إلخ قالوا: كان هذا في صور غير هذه الصور المتقنة التي تفتح عينيها وتغلقها. قيل لهم:ولكن الطفل يرمي بها يميناً وشمالاً،ويخلع ذراعها ورجلها،ولايمنحها أي قدر من التعظيم أو التقديس.. فلم يجدوا جواباً. ثانياً يشترط: أن يكون المنكر ظاهراً مرئياً، فأما مااستخفى به صاحبه عن أعين الناس وأغلق عليه بابه، فلا يجوز لأحد التجسس عليه، بوضع أجهزة التنصت عليه، أو كاميرات التصوير الخفية، أو اقتحام داره عليه لضبطه متلبساً بالمنكر. وهذا مايدل عليه لفظ الحديث: «من رأى» منكم منكراً فليغيره..فقد ناط التغيير برؤية المنكر ومشاهدته، ولم ينطه بالسماع عن المنكر من غيره. وهذا لأن الإسلام يدع عقوبة من استتر بفعل المنكر ولم يتبجح به، إلى الله تعالى يحاسبه في الآخرة، ولم يجعل لأحد عليه سبيلاً في الدنيا، حتى يبدي صفحته ويكشف ستره. حتى أن العقاب الإلهي ليخفف كثيراً على من استتر بستر الله، ولم يظهر المعصية كما في الحديث الصحيح: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين». لهذا لم يكن لأحد سلطان على المنكرات الخفية، وفي مقدمتها معاصي القلوب من الرياء والنفاق والكبر والحسد والشح والغرور ونحوها.. وإن اعتبرها الدين من أكبر الكبائر، مالم تتجسد في عمل ظاهر، وذلك لأننا أمرنا أن نحكم بالظواهر، ونكل إلى الله تعالى السرائر. وثالثاً: أن يكون مريد التغيير قادراً بالفعل بنفسه أو بمن معه من أعوان على التغيير بالقوة بمعنى أن يكن لديه قوة مادية أو معنوية تكمنه من إزالة المنكر بسهولة. وهذا الشرط مأخوذ من حديث أبي سعيد أيضاً: لأنه قال: «فمن لم يستطع فبلسانه» أي: فمن لم يستطع التغيير باليد، فليدع ذلك لأهل القدرة، وليكتف هو بالتغيير باللسان والبيان، إن كان في استطاعته. وهذا في الغالب إنما يكون لكل ذي سلطان في دائرة سلطانه، كالزوج مع زوجته، والأب مع أبنائه وبناته، الذين يعولهم ويلي عليهم وصاحب المؤسسة في داخل مؤسسته والأمير المطاع في حدود إمارته أو سلطته، وحدود استطاعته. رابعاً: عدم خشية منكر أكبر: أي الا يخشى من أن يترتب على إزالة المنكر بالقوة منكر أكبر منه كأن يكون سبباً لفتنة تسفك فيها دماء الأبرياء، وتنتهك الحرمات، وتنتهب الأموال، وتكون العاقبة أن يزداد المنكر تمكناً، ويزداد المتجبرون تجبراً وفساداً في الأرض. ولهذا قرر العلماء مشروعية السكوت على المنكر مخافة ماهو أنكر منه وأعظم، ارتكاباً لأخف الضررين، واحتمالاً لأهون الشرين. وفي هذا جاء الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «لولا أن قومك حديثو عهد بشرك، لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم». وفي القرآن الكريم مايؤيد ذلك في قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، حين ذهب إلى موعده مع ربه، الذي بلغ أربعين ليلة، وفي هذه الغيبة فتنهم السامري بعجله الذهبي، حتى عبده القوم، ونصحهم أخوه هارون، فلم ينتصحوا وبعد رجوع موسى ورؤيته لهذا المنكر البشع عبادة العجل اشتد على أخيه في الإنكار، وأخذ بلحيته يجره إليه من شدة الغضب «» قال ياهارون مامنعك إذ رأيتهم ضلوا، ألا تتبعن أفعصيت أمري قال ياابن أم لاتأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي» «طه:92 94». ومعنى هذا :أن هارون قدم الحفاظ على وحدة بني إسرائيل في غيبة أخيه الأكبر، حتى يحضر، ويتفاهما معاً كيف يواجهان الموقف الخطير بما يتطلبه من حزم وحكمة. هذه هي الشروط الأربعة التي يجب أن تتوافر لمن يريد تغيير المنكر بيده، وبتعبير آخر: بالقوة المادية المرغمة. ضرورة الرفق في تغيير المنكر وختاماً هناك قضية لاينبغي أن ننساها وهي ضرورة الرفق في معالجة المنكر، ودعوة أهله إلى المعروف، فقد أوصانا الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفق وبين لنا أن الله يحبه في الأمر كله، وأنه مادخل في شيء إلا زانه، ومانزع من شيء إلا شانه. ومن القصص التي تروى هنا ماذكره الغزالي في «الإحياء» أن رجلاً دخل على المأمون ليأمره وينهاه، فأغلظ عليه القول، وقال له: ياظالم يافاجر..الخ وكان المأمون على فقه وحلم، فلم يعالجه بالعقاب، كما يفعل كثيرون من الأمراء بل قال له: ياهذا، ارفق، فإن الله بعث من هو خير منك إلى من هو شر مني.. وأمره بالرفق، بعث موسى وهارون، وهما خير منك، إلى فرعون وهو شر مني، فقال لهما: «اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى» «طه: 43 44». وهذا التعليل بحرف الترجي «لعله يتذكر أو يخشى» برغم ماذكره الله تعالى من طغيان فرعون «إنه طغى» دليل على أن الداعية لاينبغي أن يفقد الأمل فيمن يدعوه مهما يكن كفره وظلمه، مادام مستخدماً طريق اللين والرفق، لا طريق الخرق والعنف..