منذ البداية ، أبيّن أن هذه السيرة الذاتية ، تخضع لقوانين خاصة ، صاغتها رؤيتي الخاصة لهذا الموضوع الجدل القائم ، والذي ما زال لم يحط رحله بعد ، ولن أستخدم أية دلائل أو تواريخ ، أو أية مراجع ، ومن أراد ذلك ليراسلني ، وعنواني لدى المجلة .. انتهى التنبيه . ماذا نعني بالحداثة عندما نسرد هذا المصطلح ؟ وعلى هذا : هل يصح قولنا بالحداثة ؟ ومن ثمَّ ما بعد الحداثة ؟ وما مدى صلتنا بهذه الحداثة ؟ ، أو الحداثوية ، ما دام الباب قد فتح . أو هل حقاً أنّا نعرف / نعي حداثة ؟ وانطلق .. لا يمكن الفصل بين أجزاء الحياة في سيرها على الدرب المرسوم ، فلا يمكن أن نفصل لباسها الذي يقيها برد الشتاء ، ويمنع عنها أشعة الشمس ، إنها كل مكتمل ، وإن ذلك الإنسان الذي سكن الكهوف ، وأكل اللحم النيء ، أوصلته النار للخروج خارج حدود مملكته الأرض ، قاصداً كواكب أخرى ، بعدما اشتكت الأرض مخلفاته .. وعليه ، وإتماماً لسلسلة الأسئلة : لماذا الأدب وحده ، أو الثقافة وحدها من عنيت بهذه الحداثة ؟ ولماذا الشعر على وجه الخصوص ، الذي حمل هم الحداثة ، تعليلاً وتنظيراً ، لإعادة رسم صورته من جديد؟ بداعي الأزمة . أولا:ً ما علينا فهمه وإدراكه ، هو ضرورة الفصل بين الحداثة والأزمة - وإن كنت أعترض على هذه المفردة التي تم اقتباسها من الغرب ، كما اقتبست الكثير من النظريات الفكرية ، وحول تطبيقها على النموذج العربي- . وثانياً: تختلف المسيرة العربية عن نظيرتها الغربية ، كون المسيرة العربية ، أكثر رحابة وقدرة على إذابة الأفكار في فكرها والخروج بالحصيلة ، وهذا ما تفتقده الآن أمام زحف النظريات الغربية المستوردة . قلت أنه لا أزمة تزاحم الشعر سطوته ، فمازال الشعر هو الفن الأثير عند العرب رغم كل شيء ، ومازال هناك من يكتب الشعر العربي التقليدي الخليلي ، بجانب من يكتب النص الحديث ، لكن الأزمة نتجت من الاطلاع الذي يملكه المفكر ( وتحت هذا تشمل جملة من يشتغل بالأدب ، ما دام الحديث عن الأدب ) على المنتج الغربي / الآخر، ومدارس ونظريات الفكر المختلفة التي تلاحقت وتلاقحت سريعاً في القرنين الماضيين ، وإدراكه مدى النضج الذي ظهر به المنتج الأدبي تحت رعاية هذا الفكر ( وأقصد به هنا النقد ، حيث أراه أحد أعمال العقل / الفكر، وفي النهاية النظريات النقدية في مجملها نشأت عن نظريات فكرية ، أو منظور فكري ) ، وأمام حالة اللا رضا ، وفي رؤيته التردي ( أي المفكر ) ناحية الإتكاء على أشكال قديمة ، ومفاهيم تقيمية قديمة ، كان أن تم استجلاب نموذج غربي ، عرف فيما بعد ب ( قصيدة النثر ) .. واسمحوا لي أن أحكي حكاية قصيرة ، ثم أعود لاستكمال الحديث . تبدأ الحكاية بالعربي الذي هزج قريضاً ذات ليلة ، ثم ناجى به ناقته ، فحثت خطاها ، وصاح به على ظهر فرسه فخبب به مارقاً جموع المتلاقين .. وبذا رأت العرب أنه لا يحفظ أيامها وتواريخها إلا هذا القريض المنغم ، فكان حفظه سهلاً ونقله سهلاً ، فالأمر لا يحتاج إلا لشفتين وأذن ( إنها الطريق الأولى في الإيصال ، النقل بالمشافهة ) ، وعليه كان الشعر الذي أخذ من الفطنة ، كونه يصدر عن حكمة ورأي ، فقول العرب : ليت شعري ، القصد منه : ليت فطنتي . ورأته العرب فنها الأوحد .. فكرمت الشعراء ، ورفعتهم إلى مجالس الشيوخ والأمراء ، فكان الشاعر صوت القبيلة ( أو وزير إعلامها ) ، وكانت القبيلة تفتخر كون التميز شاعرها .. ثم قدر الله لهذه الأمة أن تكون أمة الهداية فكان النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم ، ومعجزته القرآن ، التي لم تكن لتوصف بالشعر أو النثر ، إلا أن تكون كلاماً أوحت به الشياطين أو الملائكة ( بنات الله ، على قولهم ) ، هنا.. لاحظوا معي الأثر الذي أثاره الإعجاز القرآني وبيانه ، حتى وقف أمامه العرب ذهولاً ، وهم يقفون على اللغة ، كما يقفون على أنفسهم .. انتهى . فيما بعد تخلت العرب عن شعرها الأول ، ولم تعد تنجز البيت وحدة بناء مكتفية بذاتها ، لقد رأت في طور المدنية أن تكون القصيدة ومجموع وحدات ( أبيات ) في بناء واحد ، وهذا ما كان فيما تلى من عصور، أخذت سيرها الطبيعي في النمو أفقياً ( بعداً مادياً هو التوسع الجغرافي ) ، وعمودياً ( بعداً معنوياً هو الارتقاء الفكري ) ، مما أنجب لنا العديد من الشعراء والمفكرين والعلماء ، وحتى وإن كانت هناك العديد من الانتكاسات ، إلا أنها كانت ضمن سياق الصعود والهبوط .. ونصل النقطة التي نريد ( وأكرر أنا لا أرى فصلا ما بين الحياة كلاً والأدب ) .. ومع بداية هذا القرن ، والحال بالغرب صعوداً وبالعرب هبوطاً ، أتاح هذا للنموذج الغربي التسلل نزولا ً ، إذ نتج التسارع في الإيقاع الحياتي واشتعاله ، أن حدثت أولى الارتقاءات ( أقول ارتقاء لا تطوراً ، كون الارتقاء يخرج أحياناً عن الأصل ، مع الاحتفاظ بسماته ) ، وكان الشعر الحر ( كما أسمته الشاعرة / نازك الملائكة ) ، والذي اعتمد الخروج عن الشكل التقليدي للقصيدة العربية ، من مجرد بيت يتكون من شطرين على وزن أحد بحور الخليل ، إلى الارتكاز على الوحدة الأساس وهي ( التفعيلة ) ، إذن حتى النقطة التي نريد ، حدث في مسيرة الشعر العربي تطور وارتقاء : -1 تغير ( موضوعي ) : وهو الخروج عن البيت كوحدة مكتفية بذاتها في بناء القصيد ، إلى وحدة في بناء تام وهو القصيدة .. الناتج كان وحدة الموضوع ، عن المواضيع ، وهو تطور طبيعي . -2 تغير ( شكلي / موضوعي ) : وهو الخروج عن البحرأأذذذ أساساً في نظم البيت ، إلى الوحدة الأساس في تكوين البحر وهي ( التفعيلة ) .. الناتج كان نصاً جديداً شكلاً ومضموناً ، وهو ارتقاء . بمعنى أن القصيدة تتجه إلى أكثر تفكيكاً ، ترى إلى أي اتجاه ؟.. هنا لا تسعفنا المرحلة الراهنة ، في إعطاء صورة عن الممكن أن تتجه إليها القصيدة العربية ، لكن الذي حدث أن تم إدخال نصٍ خارجٍ ، إلى سلسلة القصيد العربي ، لأنه اشتبه عليه ، لم ترفضه روح الشعر العربي ، بقدر ما تعاملت مع عقلية الشعر بالنبذ والاستهجان ، لكن هذه الحلقة المضافة استمرت في التقدم حتى أنها لم تعد تختلف ، واستطاعت أن تحجب عنا بصورتها ، الصورة التي من الممكن أن تكون للشعر العربي فيما بعد ، بمعنى أنها أعطت بداية أخرى للمسيرة ، ما لم يحدث ارتقاء ما ، وهذه نرصدها في : 3- تغير ( معرفي ) : فلقد تخلصت القصيدة من وحدات البناء القائمة عليها ، إلى وحدات أخرى ( في رأي البعض لا تصلح لتقديم نص ) ، من المفردة ، والتناغم ، والتعويل على الذائقة .. الناتج نصاً جديداً يسمى الآن ( النص الحديث ) . ** أدخل شارعاً جانبيا .. لو قارنا هذا بما حدث للوجود العربي من مجرد وحدات متناثرة ، إلى وحدات يجمعها مبدأ واحد هو الإسلام ، إلى أن صارت وحدات من هذا الكيان الإسلامي الكبير ، وهي الآن وحدات برؤى مختلفة . إذن فالفصل بين السير الطبيعي للحياة ، لا يمكن فصله كلاً عن الأدب ، فالأدب أحد روافد هذه الحياة ، أو الحياة أحد روافده ، يؤثر كل منهم في الآخر بذات القدر .. وبذا فكلما تقدمت الحياة خطوة ، خطى الأدب ذات الخطوة ، لكن لأن الحياة تتحرك جملة فإن تغيرها يحدث متناغماً في كل أجزائها ، بينما ملاحظة جزء فقط ، يعطي صورة مغايرة من نشاط وخفوت والتواء ، وهذا ما لم يتم النظر إليه . إذن فالمنتج الأدبي العربي ، منتج خاص ، تم استحضاره دون العناية بما يتعلق به ، من نظريات فكرية لازمة له ، في وضعه ضمن الإطار الطبيعي لمرحلته .. لأن ما حدث في الغرب هو تطور طبيعي لا ارتقاء فيه ، وعلى هذا نشأت الأزمة التي يراها المفكرون والنقاد ، الذين لم يحاولوا العمل من أجل القصيد ، بل كان عملهم هو تطبيق نماذج جاهزة على النص العربي الحديث ، هذا دون إغفال جهد الشاعرة / نازك الملائكة ، في محاولتها التنظير للشعر الحر ، بالاتكاء على مرجعية تقليدية ، ومحاولة التعليل من ذات المنطلق ، وغير هذا الجهد لا نكاد نلمس جهداً تنظيرياً لتجربة الشعر الحديث ، ولو لاحظنا نماذج لبعض الشعراء الذين ظلوا يكتبون الشعر الحر ( التفعيلي ) ، للمسنا تطوراً في الخروج بهذا الشعر عن مجرد الصور والأخيلة ، إلى الصورة المكتملة في الكل ، مثل : محمود درويش، بلند الحيدري ، وفي ليبيا هناك تجربة تكاد ، للشاعر : لطفي عبداللطيف . الخلاصة .. الحقيقة أنني لا أقر أن هناك حداثة في الأدب العربي ، دون النظر إلى الحداثة في مجمل التطور الحياتي ، من تطور وسائل المواصلات والاتصالات ( وهذا الموضوع يحتاج فصلاً خاصاً ، في العلاقة بين الأدب وتطور سبل المواصلات والاتصالات ، أتمناه محوراً )، والثورة المعلوماتية ، والأحداث السياسية ، ونظريات الاستهلاك ، والتسليع .. وبناءً عليه ، وبمنطق رياضي ، حيث أنه لم تتحقق الشروط إذن فلا يمكن الإثبات ، لكن الرياضيات تتيح لنا الإثبات بالاعتماد على تحقق النتيجة ، لتكون النظرية قائمة ، لكنه ليس هناك ما بعد الحداثة عربيا ً . هوامش : * رامز رمضان النويصري . شاعر وكاتب صحفي ( صحيفة الجماهيرية ) طرابلس - ليبيا . -1 هذه الأسطر التي كانت ، هي مجمل تتبعي لمسيرة الأدب العربي ، والعديد من هذه الأفكار تناولته من خلال زاويتي الأسبوعية في صحيفة ( الجماهيرية ) ، تحت عنوان ( قراءة شاملة ) . -2 وهذه جملة تعريفات أراها مهمة ، من منطلق خاص : · الشعر: هو الشعر عامة كجنس أدبي ، يميز به كجنس عن القصة والرواية وباقي الأجناس الأدبية . · القصيد أو القصيدة : وهي الشكل الذي يخرج في الشعر ، وهي قصيدة من القصد ، الذي يغلب فيها عن الشعر كحاله ، كون الشاعر يقصد بها . · البيت : هو وحدة البناء الأساس في القصيدة العربية ، وهو مكتفي بذاته ، كون العرب كانت ترسل البيت بداية لا القصيد . · البحر : هو الوزن النغمي للبيت الشعري ، وهو من أعمال العلامة / الخليل بن أحمد الفراهيدي . · التفعيلة : هي الوحدة الأساسية في تكوين البحر وزنياً . · قصيدة النثر : مصطلح أراه دخيلاً وتبريرياً ، ولا أقتنع به ، كونه يجمع القصيدة الموزونة والنثر المسجوع . · النص : هو النص الشعري الحديث ، واستخدم كلمة النص هنا مطلقاً ، لإمكانية الاحتمالات التي يستطيعها . 3- اعتقد أنه من المهم إعادة قراءة الأدب العربي بروية ، لإمكانية الوقوف على تطور النص الشعري العربي .