الحديث عن المعاقين بكل مسمياتهم، له واقع يختلف عن أي حديث آخر، كونه يقترن بمرافق خاص جداً وهو الألم، حال فرضته مرحلتان تمثلت الأولى بواقع العزلة التي فرضت قسراً على المعاق، وكانت أسبابها تلك التراكمات الموروثة والمختزلة في الواقع الاجتماعي الذي كان يرى بالمعاق انتقاصاً في الذات الأسرية، الأمر الذي جعله يعيش حالة من العزلة المفروضة عليه في زوايا غرفة مغلقة طيقانها وبابها. ولماذا؟!.. لأنه معاق تستشعر أسرته المبلدة بجهلها وبعادات وتقاليد هي أقرب إلى جاهلية إنسان ما قبل الاسلام.. ان الأسرة طفلاً أو شاباً يخالف واقعها التكويني أو أنه متخلف عقلياً ذهنياً، ولم يراع أولئك الذين حبسوا أبناءهم في غرفة مظلمة حتى لا يراهم الناس فيعيبونهم بما لديهم. إن المعاق مخلوق بأمر الله اكتمل خلقه أو انتقص عضو من أعضائه، فإنه لا يحق لأي كان أن يسخر من خلق الله.. ولربما هو عند الله أعظم أجراً ومنزلة.. ولهذا كانت تلك النتائج السلبية التي كشفتها سنوات الوحدة المباركة، حيث بدأت رحلة المعاق تنمو بشكل أفضل نحو التغيير والاندماج بين أوساط المجتمع كشريك فاعل مع سائر الشرائح الاجتماعية في الوطن وتأتي الثمار لتكشف أن المعاق طاقة إنتاجية وإبداعية من خلال مشاركاته الفاعلة اليوم في أكثر من مرفق على المستوى العام والخاص. أما المرحلة الثانية في مسيرة هذا الانسان فإنها لاتزال تبحث عما يترجم واقعها العملي ويخرجها من الدائرة المغلقة التي تعرف بالندوات والورش والمؤتمرات إلى حيث يجب أن تكون، فخلال العقدين الماضيين أو ما يقترب منها؛ انحصر الاهتمام بالمعاق عند حدود المدن الرئيسة أو من يفد إليها من الريف، وتوقف الأمر عند هذا المستوى، ولكن هناك المساحة الأكبر من المعاقين كانوا حركياً أو صماً بكماً وذهنياً أو المكفوفين ويتمركز غالبيتهم بالأرياف.. ودار الحديث مطولاً في كل مؤتمر وندوة وورشة على أن الريف يبقى النقطة الأساسية التي يتوجب الانطلاق حولها، إنما يذهب الفعل مع الأحاديث وينصهر في الهواء، وتبقى الحقيقة هي وحدها شاهدة على التباعد بين القول والفعل. ونحن هنا قد نأتي بحقيقة من واقع محلي مبسط المساحة لكنه كبير بعدد أولئك الناس المحرومين من الاهتمام والرعاية ومن كافة الجهات، معاقين حركياً وبصرياً.. منطقتان في محافظة لحج؛ الأولى في مديرية الفيوش والثانية في مديرية تبن.. قرية بئر الكدمة مساحة من الفيوش.. هناك تسكن خضرة الطبيعة التي تزين الروح بجماليات الحياة، ولكن شيئاً خفياً يسترق الجمال بشوفته ومتعته ويحيله إلى طلعة حالكة فيفقد المرء قدرة البصر للأشياء دون علم عن الأسباب الغامضة التي تستلب من حدقات العيون بريقها وتحيله إلى مجرد لون أسود.. تلك هي قرية بئر الكدمة التي يعيش أبناؤها حياة بؤس مؤلم مما يعانون من الكفاف قد يكون مشمولاً بكل أفراد الأسرة ومن طفولتهم.. حال غريب ما يحدث.. ومع ذلك ترى أولئك الناس يعتمدون في عيشهم على رعي الأغنام وتحضير الفحم والحطب.. سبحان الله قدرة غريبة أن يذهب أولئك البسطاء إلى رعي الأغنام وهم يفقدون البصر وبالعزيمة ذاتها التي يتمتع بها أولئك المبصرون. وفي قرية الخشب مديرية تبن محافظة لحج محطة أخرى تستوقفك فيها تلك المعاناة الحقيقية للإنسان العائش في مساحة هي أقرب إلى الصحراء بقفرها وحرارتها الملتهبة، وحراك أجساد عليها تفتش من واقع حراكهم ذاك عن مساكن يأوون إليها فتعجز العين أن ترى غير عشش تم بناؤها من القش هي كل ما يقترن بمسمى المساكن الذي يأوي أسرة بكامل أفرادها.. حال إنساني مؤلم ولكن قد يكون الألم أكبر عندما تقترب لتلامس واقع أولئك البسطاء من الناس لأنك ستكتشف أن حالهم العام وديرتهم الخالية من اللون الأخضر وحرارة شمسها تهون أمام ما يعانون أطفال، نساء، شباب، وكبار. إنهم ضحايا لسر غامض، كل طفل يأتي إلى الحياة يحدد ملامح غده من نظرة نحو الشمس.. إما وأن يكون مبصراً في نهاره أو أنه يصاب بكفاف في النهار ويبصر في اليل.. حال غريب بعضهم يبصرون نهاراً وتكف أبصارهم في الليل، وآخرون يكون الأمر لديهم معكوساً.. ولكن عندما يتقدم السن بهم قليلاً هناك من يفقد بصره نهائياً. الغرابة الأخرى في هذه القرية أن الفرد الذي يتجاوز خطر الإصابة بهذا الكفاف الغريب بطفولته سيجد نفسه ذات يوم وقد أصيب بالكفاف من شوكة هي أقرب إلى الرصاصة من تسميتها.. قدراً محتوماً يقود الناس إليها دون أن يدركوا كيف تكون الشوكة مصوبة تجاه عيونهم دون غيرها من سائر الجسد.. حكاية ما كنت أصدقها حينما سردت لي قبل أن أحزم حقيبتي وأغادر في اتجاه تلك المناطق الرابضة على أرض عرفتها بأرض الفل والياسمين وخضيرة الحسيني. فضول يجعلني أقترب إلى الحقيقة التي أصبحت عالقة في ذاكرتي وقد صورت مشاهدها عدسات عيوني، وركنت إلى ثوابت القلب بألم ما أبصرت، ولهذا أجد نفسي تلح عليّ بتكرير الأمر وتعميم الصورة ليستقرئها كل من يعنيهم أمر المعاق والإنسان في هذا البلد ويعمل على إرسال لجنة طبية متخصصة تبحث عن الأسباب الحقيقية التي تؤدي إلى الظواهر الغريبة في منطقة الفيوش وتبن، محاولة إلحاح يفرضها عليّ واجبي ورسالتي، وأتمنى أن تجد جواباً سريعاً من الجهات المعنية للاهتمام بذلك الإنسان ومعالجة مشاكله المؤلمة، ومن الله أسأل التوفيق للجميع. ü مدير تحرير صحيفة «العزيمة»