بمشاركة 110 دول.. أبو ظبي تحتضن غداً النسخة 37 لبطولة العالم للجودو    طائرة مدنية تحلق في اجواء عدن وتثير رعب السكان    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    أمريكا تمدد حالة الطوارئ المتعلقة باليمن للعام الثاني عشر بسبب استمرار اضطراب الأوضاع الداخلية مميز    4 إنذارات حمراء في السعودية بسبب الطقس وإعلان للأرصاد والدفاع المدني    الرقابة الحزبية العليا تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقه    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    منذ أكثر من 40 يوما.. سائقو النقل الثقيل يواصلون اعتصامهم بالحديدة رفضا لممارسات المليشيات    أثناء حفل زفاف.. حريق يلتهم منزل مواطن في إب وسط غياب أي دور للدفاع المدني    الاحتلال يواصل توغله برفح وجباليا والمقاومة تكبده خسائر فادحة    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    صعقة كهربائية تنهي حياة عامل وسط اليمن.. ووساطات تفضي للتنازل عن قضيته    انهيار جنوني للريال اليمني وارتفاع خيالي لأسعار الدولار والريال السعودي وعمولة الحوالات من عدن إلى صنعاء    حصانة القاضي عبد الوهاب قطران بين الانتهاك والتحليل    نادية يحيى تعتصم للمطالبة بحصتها من ورث والدها بعد ان اعيتها المطالبة والمتابعة    فودين .. لدينا مباراة مهمة أمام وست هام يونايتد    انهيار وافلاس القطاع المصرفي في مناطق سيطرة الحوثيين    باستوري يستعيد ذكرياته مع روما الايطالي    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    فضيحة تهز الحوثيين: قيادي يزوج أبنائه من أمريكيتين بينما يدعو الشباب للقتال في الجبهات    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    رسالة حاسمة من الحكومة الشرعية: توحيد المؤتمر الشعبي العام ضرورة وطنية ملحة    الطرق اليمنية تبتلع 143 ضحية خلال 15 يومًا فقط ... من يوقف نزيف الموت؟    خلافات كبيرة تعصف بالمليشيات الحوثية...مقتل مشرف برصاص نجل قيادي كبير في صنعاء"    في اليوم ال224 لحرب الإبادة على غزة.. 35303 شهيدا و79261 جريحا ومعارك ضارية في شمال وجنوب القطاع المحاصر    الدوري السعودي: النصر يفشل في الحاق الهزيمة الاولى بالهلال    الحوثيون يتكتمون على مصير عشرات الأطفال المصابين في مراكزهم الصيفية!    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    السعودية تؤكد مواصلة تقديم المساعدات والدعم الاقتصادي لليمن    الحوثيون يعلنون إسقاط طائرة أمريكية MQ9 في سماء مأرب    مسيرة حاشدة في تعز تندد بجرائم الاحتلال في رفح ومنع دخول المساعدات إلى غزة    المطر الغزير يحول الفرحة إلى فاجعة: وفاة ثلاثة أفراد من أسرة واحدة في جنوب صنعاء    بيان هام من وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات من صنعاء فماذا قالت فيه ؟    ميسي الأعلى أجرا في الدوري الأميركي الشمالي.. كم يبلغ راتبه في إنتر ميامي؟؟    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن وأهل اليمن
نشر في الجمهورية يوم 02 - 08 - 2008

اليمن يتميز بإطلاله على البحر الأحمر والمحيط الهندي وكثرة جزره
بازرعة كسا الكعبة .. وباكثير آثرى الحركة الأدبية العربية بإبداعاته والجاوي وحدوي حتى النخاع
ولان الحديث عن حضرموت ، من هنا تذكر الصديق محمد سعيد بازرعة زميل الدراسة بمدرسة الابراهيمية الثانوية اوائل الخمسينيات ، وكان يحمل الجنسية المصرية واليمنية وتمتد اصوله الى حضرموت ، خجولا ودودا ينتقي اصدقائه كما لو انه جواهرجي خبير ، اذكر له عشق سماع ام كلثوم ، وكانت لديه معظم اسطوانات اغانيها التي طالما جمعنا لسماعها وتبادل الحوار حولها في غرفته الخاصة التي كانت تفضي الى حديقة “القبلا” المنيفة التي تسكنها اسرته انذاك في حي الدقي !يوماً أهداني صابونة كما لو أنها كرة صلبة من الرخام الملون .. قال لي انها اثمن مفردات تجارة في وكالة بازرعة من الصابون النابلسي ، ثم اوصاني بوضعها في دولاب الملابس او في الصالون لان عطرها الفواح سوف يعبق المكان ولا ينفذ ابدا !
وقد ظلت تلك الصابون النابلسية تؤدي دورها في همة وأمانة سنوات متصلة في تعطير ارجاء منزلنا حتى اختفت فجأة ولا ادري كيف ، وعندما نقلت الخبر لصديقي بازرعة، ابتسم وقال انها مثل السبحة يجوز سرقتها اذا غفل صاحبها عنها ، ووعدني ان يعوضني عنها.. ثم عاد يقول أسفاً ان هذا النوع من الصابون جرى توزيعه على الاحباب والمتعاملين مع الوكالة من التجار .. ومن غير المتوقع ان يأتي مثل هذا الصابون الفاخر من نابلس بسبب مضايقات الاحتلال الاسرائيلي لمعظم الاراضي والمدن الفلسطينية ، ثم اهداني قطعة قماش لا تزيد عن خمسة سنتيمتر على سبيل البركة وقال انها من كسوة الكعبة الشريفة !
اصطحبني يوماً لزيارة وكالة بازرعة في حي الجمالية ، وكم بهرت بعمارتها الاسلامية ونوافذها ومشرابياتها “الارابيسك” المصنوعة من الخشب العزيزي المعروف باسم”بيتش باي” ، وكانت متسعة الجنبات من اربعة طوابق على ما اذكر ، بعضها لاقامة التجار الذين كانوا يفدون من ربوع مصر ومن الخارج ، وركائب وبعضها لسكنى ال بازرعة منذ عقود بعيدة ، ثم اكتشفت ان تجارة الوكالة تعتمد اساسا على “بن المخا” وهو الاسم الشائع انذاك للبن اليمني الفاخر الذي دخل مصر لاول مرة عبر الجد المؤسس محمد بازرعة ، إضافة الى انواع اللبان والبخور والمستكة والحبهان والعنبر وشتى انواع المكسرات من اللوز والبندق وعين الجمل !
على ان محمد بازرعة كان قد اسس وكالته على هذا النمط المعماري التراثي وكان اسمها في السابق وكالة “الكخيا” ، وكانت تبيع الاخشاب لورش تصنيع الموبيليا في حي المناصرة، وتقع بشارع “التمبكشية” ، وقد اكتسب الشارع هذا الاسم من كثرة الوكالات التي كانت تبيع دخان “التمباك” بانواعه اليمني والشامي والتركي ، وكذا دكاكين بيع “النراجيل” وهي الشيش ومسلتزماتها .
بعدها توسعت تجارة محمد بازرعة ، ومن ثم اشترى عددا اخر من الوكالات القديمة في نفس المنطقة ، وعنى ببناء المساجد وترميم وتعمير القديم في شتي ربوع مصر ، ومن هنا اكتسب محبة الناس فضلاً عن حرصه الذي استمر سنوات على تجهيز الجمال التي تحمل هدية مصر لكسوة الكعبة الشريفة عاما بعد عام ، اذ كان يتم صناعتها وتطريزها بخيوط موشاة بالذهب والفضة في حي الخيمية المجاور لحي الجمالية !
ولشد ما كانت سعادتي حين قرأت خبر شروع الهيئة العامة للاثار الى ترميم وكالة بازرعة بعد ان اصبحت تراثاً تاريخياً .. وبعدها قامت السيدة سوزان حرم الرئيس مبارك بافتتاحها بعد ان استعادت رونقها في 18 مارس عام 2001 ، حتى تظل ذكرى حميمة للتواصل التجاري والثقافي اليمني مع مصر ، خاصة بعد ان ذابت اسرة بازرعة في المجتمع المصري عبر الزواج والمصاهرة والعمل في شتى النشاطات .. ولا ادري ان كانت الحكومة المصرية قد دفعت للورثة حتى الان ما وعدت به من التعويض المجزي الذي يقدر بالملايين!
على ان بازرعة لم يكن التاجر الحضرمي الوحيد في مصر ، كان غيره كثر من الجيل القديم ، اما الجيل الجديد من رجال الاعمال فلاشك ان احمد سالم باحبيش وباجنيد وشاهر عبد الحق في مقدمتهم !
مخبازة الشيباني
على بلاج “جولد مور” في عدن التقيت مصادفة بالصديق المصور الفوتوغرافي المصري الفنان أحمد نور الدين وكانت بصحبته الفنانة المناضلة محسنة توفيق . .احمد جاء لزيارة زوجته التي تعمل طبيبة نفسية ، ومحسنة جاءت مع فيلم العصفور الذي قامت ببطولته لشهود عرضه في عدن . .عندما ذهبت مع احمد نور الدين للسلام على زوجته ، فوجئت بقطع بنية اللون اشبه بالباسطرمة تتدلى في خيوط متناثرة من البلكونات والشبابيك .. قال لي انها نواة كفيار في مرحلة النضج !
المعروف ان الكفيار تتم صناعته في مصر بطريقة مختلفة ويطلق عليه اسم “بطارخ”، وهو مرتفع الثمن ولا يقبل على شرائه سوى الذواقة المغرمين احيانا والموسرين دائما ، ولانني لم يسبق ان رأيت مثيلا للبطارخ خلال زياراتي لعدن ، لذلك سألته ان يروي لي الحكاية!
قال : تعرف انني من مواليد حى الانفوشي ملتقى الصيادين ومراكب الصيد وبيع الاسماك بالاسكندرية ، ومن هنا درايتي الكافية بطريقة صناعة البطارخ من البيض الموجود في بطون بعض انواع الاسماك ، وبينما كنت اتجول في سوق الاسماك بعدن ، اكتشفت ان التجار يرتكبون اخطاء اقتصادية فادحة ، “أولا” لانهم يقطعون رؤوس الاسماك ولا يستفيد منها سوى الفقراء بالمجان ، والباقي مصيره الصرف الصحي ، رغم ان هذه الرؤوس يلتصق بها غالبا بعض من لحم الاسماك ، ولذلك تصلح وجبة شهية اسمها “صيادية” ..والخطا “الثاني” انهم يستخرجون البيض من جوف الاسماك ولا يستفيد منها أحد ربما لعدم استساغة مذاقه .. بينما يشكل ثروة ثمينة كونه المادة الاساسية في صناعة الكفيار او البطارخ . .وحين تذوقت قطعة من البطارخ التي صنعها احمد نور الدين ووجدتها كاملة المواصفات وطيبة المذاق ، من ثم حملت بعضا منها الى السيد علي ناصر رئيس حكومة اليمن الديمقراطي انذاك ، وحكيت له الحكاية ، وتذوق البطارخ في لذه .. وقال : من حسن الحظ اننا على وشك عقد اتفاق مع الاتحاد السوفيتي لتعبئة وتصدير الثروة اليمنية من الاسماك والجنبري والشروخ ، ولعلها فرصة حتى نضيف صناعة الكفيار الى الاتفاق !
والشاهد ان اليمن يتميز باطلاله على مساحات شاسعة من البحر الاحمر والمحيط الهندي اضافة الى كثرة جزره وخلجانه البحرية ، ومن هنا كان لتباين درجات حرارة الطقس من مكان لاخر ، عاملا اضافيا لجذب شتى الاسماك والحيوانات البحرية ، وكلها تتميز بوفرة الفيتامينات والسعرات الحرارية والفسفور ، مما يوفر طعاما كافيا لكل أفراد الشعب اليمني ، لكن تخلف وسائل الصيد يظل ابرز العوامل السلبية التي تحول دون تحقيق ذلك . .كذلك كان ضعف وسائل الرقابة والتفتيش البحري ، مثار اطماع شركات ودول كانت تجور على المياه الاقليمية لليمن ، وتجني ارباحا مهولة من وفرة صيدها الاسماك والحيوانات البحرية ، وصحيح ان هذه الظاهرة تقلصت الى حد كبير منذ اعلان دولة الوحدة اليمنية واستكمال وسائل التفتيش والرقابة البحرية وشراء الزوارق البحرية الحديثة ، لكن لا تزال اريتريا تمارس الصيد غير القانوني في المناطق البحرية المحيط بالجزر اليمنية ، وما زلنا نسمع ونقرأ من حين لاخر عن المساعي الدبلوماسية لدى اليمن للافراج عن المراكب والصيادين المصريين ، حيث يصل ثمن كمية الاسماك التي يتم اصطيادها في كل محاولة للجور على مياه اليمن الاقليمية زهاء مائة الف جنيه للمركب الواحد .. ولا تزال هذه الظاهرة في دور التقنين عبر انشاء شركة يمنية مصرية مشتركة لصيد الاسماك !
اذكر انني واصدقائي اليمنيين كنا نتسوق حاجتنا لوجبة عشاء من الاسماك الطازجة ، لا عبر التجار ، وانما عبر الشراء مباشرة من المواطنين والعائلات التي كانت تشم الهواء ساعات العصاري والمغربية على شاطئ خليج عدن ، حيث تمتد اياديهم بسنارات الصيد وتأتي غالبا بمحصول وافر من الاسماك . .بعدها نحمل الاسماك الطازجة الى “المخبازه” ، وهي دكاكين صغيرة اشبه بالمقاهي والمطاعم الشعبية في عدن ، متخصصة في شوي الاسماك وتصنيع الخبز عبر لصق العجين بجدران فرن اسطواني مشتعل ، وما احلاه الاكل الجماعي للاسماك بعد تتبيلها بالبهارات وغمسها في “البيس باس” أي الشطة السائلة !
على ان المخبازة في صنعاء ومعظم مدن الشمال اليمني متخصصة في شوي الخراف الصغيرة والماعز حيث تقدم قطعاً كبيرة من اللحم اللين ملتصقة بالعظام مع الشوربة والخبز المعجون بالسمن البلدي والسلاطة “والبيس باس” ، وغالبا ما تسمى مخبازة “الشيباني” نسبة لعائلة واحدة من قبيلة بني شيبان التي تسكن في منطقة قريبة من تعز ، وهي متخصصة في هذه الوجبة الغذائية الشهية ، حتى انني اطلقت عليها عبارة تقول : من أكل يوماً في مخبازه الشيباني ، عاد الى اليمن وان طال السفر ليأكل في مخبازة الشيباني !
شرب الشاى فى حضرموت
اصطحبت معي في زيارة لليمن عام 1973 صديقي حجازي رسام الكاريكاتير الشهير بمجلة روز اليوسف ، واذكر عندما غادرنا مطار المكلا ودلفنا الى قلب المدينة ، عندئذ قال لي حجازي وقد غمره الحبور والسرور : “قرأت وسمعت كثيرا عن حضر موت .. لكنني لم اتوقع كل هذا السحر والجمال .. انها الجنه العربية الاسلامية الاسيوية .. فلا تكاد تعرف بمن تأثرت في العادات والتقاليد .. اهي الهند ام اندونيسيا .. أم بالعالم كله على اختلاف جنسياته وتقاليده! فما ان وقع نظره في عرض الطريق على مطعم يخبز العيش ويقدم الفول المدمس مع “البسباس” أي الشطة – حتى نزل من السيارة وطلب وجبة من الفول راح يلتهمها في شهية وقال : حضارة الشعوب تعرف من طعامها .. لقد احببت حضر موت من اول وهلة .. ليتني اقضي في ربوعها بقية عمري ..كان من رفاق زيارة حضر موت الفنان اليمني محمد سعد عبد الله الملقب بمطرب العبيد كناية عن تعبيره عن مشاعر ووجدانيات الطبقة الكادحة ، وكان معنا ايضاً عازف واستاذ الة العود الموسيقية في عدن جميل غانم ، ومن هنا كانت اقامتنا في المكلا مجموعة من الاحتفاليات المسائية التي جمعتنا مع عدد من الموسيقيين والمطربين والشعراء الحضارمة الذين اسعدونا بالموسيقى والغناء والشعر الحضرمي ، اذكر بينهم الشاعر الشاب الفذ لطفي امان الذي كتب العديد من الاغنيات التي مزج عبرها بين الوطنية والرومانسية وبينها نشيد في موكب ثورة اكتوبر مطلعه يقول :
يا مزهري الحزين
من ينعش الحنين
الى ملاعب الصبا
وحبنا الدفين
أذكر انه كان للشاي وتقاليد اعداده واحتسائه في حضر موت نكهة مميزة ، حيث يلزم في البداية الجلوس المريح ارضا بعد لف الوسط بالفوطه “الكاروهات” التقليدية ، ولا ابالغ ان تتابع احتساء الشاي عدة مرات في الجلسة الواحدة ، كاد يصيبنا بداء الادمان اللذيذ ، اذ في كل مرة كان المذاق يحلو اكثر فأكثر ، وكان أمام كل واحد من الجالسين صينية معدنية صغيرة عليها براد صغير للشاي ووعاء للسكر وكوب صغير ، وعليه ان يخدم نفسه بنفسه ويتحكم في مذاق الشاي ودرجة حلاوته .. وتلك مجرد لمسة بسيطة من رقي أهل حضر موت في كل مناحي الحياة !
علي احمد باكثير
قد لا يعلم البعض ان الاديب اليمني على احمد باكثير الحضرمي الولادة كان صاحب الصياغة المسرحية البارعة لاوبريت “يا ليل يا عين” المستوحاة من الاسطورة الشعبية التي اكتشفها الباحث والأديب المصري توفيق حنا وجرى عرضها بنجاح منقطع النظير على مسرح الاوبرا اوائل ثورة 23 يوليو 1952 .
ويشاء حظي السعيد ان التقي به في جلسة الجمعة بمنزل العلامة محمود شاكر بمصر الجديدة وكان بين الحضور الاديب الكبير يحي حقي ، ويومها استمعت بالحوار الممتع بين العمالقة الثلاثة حول شئون التراث وشجون الادب وجماليات اللغة العربية ، عملا بالمثل القائل”اذ كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب” ومن حسن الصدف انه ركب معي في سيارتي اثر نهاية جلسة الجمعية .. وعندما سألته عن وجهته ، كانت سعادتي غامرة حين اكتشفت انه جاري في حي منيل الروضة ، وبعدها التقيناه وشقيقتي الاديبة الراحلة عايدة الشريف مراراً في منزل شيخ النقاد الدكتور محمد مندور في نفس الحي وكانت بينهما مساجلات مفيدة وممتعة حول فن المسرح !
ولد باكثير في مدينة “سورابايا” باندونيسيا عام 1906 حيث كان والده مغتربا بها ويعمل في التجارة ، وكان قد تلقى تعليمه الاولى بمدرسة الارشاد الحضرمية ، حين قرر والده العودة به الى مسقط رأسه حضرموت عام 1920 ، حيث التحق واكمل تعليمه الثانوي بمدرسة النهضة في “سيؤن” ، وبعدها سافر الى القاهرة وحصل على ليسانس الاداب عام 1929 . .من سيرة حياته العطرة انه قطع شوطا من دراسته وادراكه المعرفي بالدين والادب على يدعمه الفقيه محمد بن محمد باكثير ، كما وانه تولى إدارة مدرسة النهضة التي كان واحدا من تلاميذها من قبل ، حيث اصدر عام 1920 مجلة “التهذيب” الشهرية مع رفيق دربه محمد بن حسن بارجاء وكانت انذاك مجلة خطية وغير مطبوعة ولذلك كانت تعتمد على تداول نسخها المحدودة بين القراء ، لكن المجلة لم تستمر طويلا بعدما طالها النقد المعارض لتوجيهاتها الاجتماعية المتحررة . .والشاهد ان باكثير كان على عادة الحضارمة ولوعا بالسفر والترحال والتجربة ، فهو قد غادر سيئون عام 1922 الى الصومال ، ومنها الى اثيوبيا ، وبعدها سافر الى الحجاز ، حيث استقرت اقامته اخيرا في مصر وحصل على الجنسية المصرية عام 1952 ، كما نال جائزة الدولة التشجيعية عام 1962 ، ومنحه الرئيس جمال عبد الناصر وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى تقديرا لدوره البارز في اثراء الحركة الادبية العربية وابداعاته الثرية التي لا تحصى ولا تعد، فهو الى جانب كتاباته المسرحية وترجماته للاداب الاجنبية ، يظل باعه في التأليف مثارا للتأمل والاعجاب والتقدير وبينها على سبيل المثال في مجال القصة والرواية:”واسلاماه” التي تحولت الى فيلم سينمائي – الثائر الاحمر – ليلة النهر – سلامة النفس – “ملحمة عمر” و من مؤلفاته المسرحية : اخناتون ونفرتيتي – الفرعون الموعود – ابو دلامة مضحك الخليفة –عودة الفردوس – الدكتور حازم ، ومن التمثيليات الإذاعية : مأساة اوديب – شعب الله المختار امبراطورية في المزاد ، اضافة الى مسرحياته العديدة التي كان المسرح القومي غالبا ما يفتتح بها موسمه الشتوي ، ثم كتابه القيم “فن المسرح من خلال تجربتي” فضلا عن اسهاماته المعروفة في كتابة سيناريوهات وحوارات الافلام السينمائية وترجمته المميزة لروميو وجوليت عن النص الذي كتبه شكسبير !
على ان باكثير كان بحق رائد الشعر الحديث الذي كان يسميه “الشعر المرسل” وقد شهد له بهذه الريادة الشاعر العراقي بدر شاكر بدر الثياب ، كما كان رائدا كذلك في معالجة القضية الفلسطينية مبكرا منذ عام 1944 حيث كتب مسرحية “شيلوك الجديد” التي تنبأ فيها بالنكبة ، ثم مسرحياته الثلاثية “اله اسرائيل” وشعب الله المختار” “التوراة الضائعة” ، حيث كان في كل ابداعاته مميزا بفكره القومي المستنير وباعه الثقافي الموسوعي ، وطابع التحدي لبيئته المختلفة التي تهتم بالشعر الغنائي ، فإذا به ينطلق ويتفوق في كتابه الاوبرا والاوبريت ويشهد على ذلك اعماله في هذا المجال الصعب وبينها “قصر الهودج” و”شادية الاسلام” و”الشيماء” .
وإذا كان باكثير قد خلف وراءه زهاء مائة عمل ادبي بين الشعر والقصة والمسرح والاوبريت والتمثيليات الاذاعية ، ومعظمها مستوحى من تراث الاسلام والعروبة والفرعونية، فأولى به التكريم والحفاوة الواجبة المتجددة عبر الندوات والدراسات الاكاديمية والمواسم الثقافية ، ونحسب ان ثمة خطوات جادة قد بدأت بالفعل على هذا الطريق ، سواء عبر جمعية اصدقاء باكثير في مصر ، ومؤسسة باكثير للاداب والفنون باليمن .
المعروف ان باكثير وافاه الاجل يوم 10 نوفمبر 1969 اثر بلوغه ثلاثة وستين عاما، وكانت وصيته ان يدفن في وطنه الثاني مصر !
عمر الجاوي المناضل الصوفي
كان المناضل الاديب والمفكر المرحوم عمر الجاوي رئيس اتحاد كتاب اليمن ، وهو كان وحدويا حتى النخاع في زمان التجزئة والتشطير ، واشهد انه كان قبلتي دوما الى فهم ابعاد الشخصية اليمنية ، ورغم تقلب الحكام ومناهج الحكم في شطر اليمن الجنوبي ، الا ان ظل وحده نسيجا فريدا في ايمانه المطلق بالوحدة والقومية العربية ، وعندما وقعت احداث الحرب الاهلية بين شطري اليمن عام 1972 ، سارع بنفوذه الفكري والشعبي الى الاسهام بدوره في تجاوز المأزق ، ولعب من وراء الستار دورا مقدرا في التوصل الى اتفاقية القاهرة للوحدة اليمنية ، وكان مسئولا عن تسيير احدى اللجان التي تفرعت عنها . .واذكر وكنت معه في عدن قبيل ايام من اللقاء الموعود بين علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض الامين العام للحزب الاشتراكي يوم 30 نوفمبر عام 1989 ، وهو ذكري جلاء القوات البريطانية من عدن ، واذا بعمر الجاوي شعلة من النشاط المتأجج ليل نهار وعلى مدى ثلاث ايام ، وهو يواصل اتصالاته بكل رموز اليمن السياسية والثقافية وكذا الاتصال بأهل الحل والعقد ، حتى يمارسوا ضغوطهم على الزعيمين علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض للتعجيل بالوحدة اليمنية في هذه المناسبة التاريخية ، وكان يستخدم التليفون ويستحث اصدقائه وتلاميذه لاستكمال الاتصالات بمختلف ربوع اليمن وخارج اليمن ، واظن ان جهوده اسهمت بامتياز في اعلان القرار التاريخي المنشود باعلان الموافقة على اعلان الوحدة اليمنية من حيث المبدأ، ايذانا باجازة دستور الوحدة في المجلسين النيابيين في صنعاء وعدن ..بعدما انخرط عمر الجاوي في العمل الحزبي ، فكان الامين العام لحزب التجمع الوحدوي ، فارسا وشامخا يتصدر المعارضة وملح الارض الذي لا غنى لارائه ورؤاه في الاوساط السياسية الثقافية والاجتماعية ، صوفيا ينآى بنفسه عن النفاق والانتهازية والكذب دون ان يقع في شراك المغريات ، اذ كان حب اليمن ثراءه ومحور حياته ، دون ان يثنيه النضال يوما رغم ما تكبده من عذابات ، فكان القدوة في المثالية ..جسورا وعنيدا ولا يخشى في التضحية حتى الموت في سبيل اعلاء ما كان يؤمن به من القيم والمبادئ الوطنية والقومية والوحدوية . .عرفته مطلع ثورة اكتوبر في جنوب اليمن عاشقا لمحبوبته وزوجته فيما بعد الاستاذة ثريا المنقوش وكانا مضربا للامثال في التلاقح الفكري والرومانسية الثورية ان جاز هذا التعبير ، حتى بعد انفصالهما ظل حبل الود والحوار بينهما متصلا ، رغم ان ثريا خيل لها انها الامتداد العصري للاالانبياء والمرسلين ، بل وكانت لا تتحرج في بث الدعوة عن التردد على “مقايل” الرجال ، تحاورهم وتقارعهم الحجة بالحجة وهي القارئة النهمة والمثقفة والباحثة المعروفة !
كان وهو ابن الجنوب اليمني يعشق صنعاء ، وعندما تعرضت لحصار السبعين يوما، كان في طليعة المدافعين عنها ، وقد سمعته ذات امسية يمنية وهو يتغنى في وصال صنعاء ابياتا من الشعر اليمني اذكر منها :
ما مثل صنعاء اليمن كلا ولا اهلها
صنعاء حوت كل فن
يا سعد من حلها تنفي جميع الشجن
ثلاث في سفحها
الماء والخضرة رباها الفائقة والوسامة
وكل وجه حسن
يا ليت شعري حتى الايام تسمح برجعة
الى مدينة ازال
ونستعيض ما مضى يا سيد نفديه جمعة
حتطوي بساط المطال
كان يرحمه الله اديبا فحلاً ، وخطيبا ، ومحدثاً ، ومؤانساً ، وظريفاً ، ولشد ما كان حزنه ومخاوفه عندما ابتليت الوحدة اليمنية بالحرب وبالانفصال وانفراج النعرات والاحقاد والاطماع المكبوتة التي راحت تعبر عن نفسها بأشكال شتى وفي مجالات متعددة، وكان يرى ان التحالف الثنائي بين حزبي المؤتمر والاصلاح واستبعاد الحزب الاشتراكي قد يؤدي الى الاستبداد ، وان مستقبل اليمن وامنه يكمن في الائتلاف الثلاثي او في الصيغة الوحدوية التي تؤمن اوسع مجال للمشاركة السياسية الديمقراطية !
يرحمه الله فقد هده المرض وظل متفائلا مبتسما حتى وافاه الاجل!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.