الأسرة تلك التي كان ينظر إليها بجلالٍ ومهابة بدأت تتفكك وتتلاشى في خضم الحياة العصرية التي نعيشها، وتبخر ذلك الناموس الذي يسمى الطاعة، والاخلاق التي تسمى الاحترام، فأضحى الشجار والعراك والقتل بين أفراد الأسرة الواحدة يتكرر بشكل شبه يومي، ووحده الشيطان هو المنتصر في النهاية.. فمعاً أعزائي القراء إلى جريمة هذا الأسبوع. عماد شاب في مقتبل العمر ترك التعليم رغم شطارته وذكائه ملتحقاً بحقول القات، وسر والده بانضمامه إلى جانبه في الاهتمام بالأرض، وحصاد ثمارها، وحاول الكثير من المدرسين والناس العاديين تقديم النصح لعماد من أجل العودة إلى المدرسة واستثمار براعته ومواهبه فلم يستجب، مؤكداً لهم أن التعليم لا مستقبل له، أما القات فسوف يأتيه بالثراء المضمون، والمكانة المرموقة، وخذل الجميع في إصراره وعناده، ولم تكد تمر بضعة شهور حتى أصبح من كبار مدمني القات، وكان يعزو هذا النهم إلى حقوله التي لاتكلفه أي خسارة تذكر، سوى الربح الوفير، وبلا إرادة أو بلاشعور اتكل عليه أبوه كلياً سواءً فيما يخص الري، أو اختيار المبيدات الحشرية المناسبة، وكذا الاهتمام بمصروفات المنزل، فتوسعت صلاحيات عماد، وبدأت قراراته الصارخة تستفحل.. والده خاصة وأسرته بشكلٍ عام تقبلوا الأمر ببساطة في بداية الأمر، ثم مالبثوا أن استشعروا بخطورة حماقاته خصوصاً الأب الذي بدأت آراؤه تتعارض مع آراء ابنه، فالأول يريد الكسب السريع عن طريق مبيدات تختص بهذا الجانب، والثاني يهتم بالثمرة مهما تأخر حصادها، وبدأت شرارة الصدامات الكلامية، ثم تطورت إلى لهبٍ من الشجارات المتكررة، حينها أدرك الأب في وقتٍ متأخر خطأه في الصلاحيات الكاملة التي أعطاها إياه خصوصاً وأن عماد لم يمتلك العقل الناضج الذي يميز الربح من الخسارة، وجاء شهر رمضان بلا مصروف فاستبد بالأب غضبٌ جامح، وتحولت ليالي وأيام الرحمة والمغفرة والعتق من النار إلى جحيم من القلوب المتنافرة التي لم يتوقف استعارها حتى في شهر الصائمين، فالأب الذي تعود على امتلاء جيبه بالريالات أصبح خالي الوفاض لايمتلك مايبدي وجهه أمام أرحامه، فاعتزل منزله، وأنذر عماد بترك مزارعه والبحث عن عمل آخر، ووصل الخبرإلى الابن فترك الوادي وجاء البيت ليتأكد من القرار الذي فاجأه به والده، وبلا تردد أعفاه الأب من التدخل في شئونه، والبحث له عن طريقٍ آخر، وشعر عماد بالصدمة وخيبة الأمل فغادر الغرفة لحظة ثم عاد وفي يده قنينة من سم فتاك، ووسط فرحة الأسرة بالأجواء العيدية خاطب والده بسخريه ولا مبالاة. خاطرك يا أبي، باروح أشوف لي عمل.. ثم احتسى السم جرعة واحدة وسط ذهول الحاضرين الذين كانوا يعتقدون أنه لن يقدم على فعل ذلك، أو على الأقل كان سيحتسي قليلاً في فمه ثم يقذف به، وسقط عماد على الفور جثة هامدة في جوٍ من الولولات والصرخات والاستغاثات والدموع المقهورة.