نبض داخلي حنين , لزيارة شرايين قديمة زرعتها في بيت جدي اللذين عشت معهما طفولتي وصباي ... وجدت شراييني جدباء حين تركتها منذ أعوام ولم أروها بقهقهاتي ودموعي المعتادة التي كانت تملأ بيتنا. فتحت باب غرفتي الخشبية القديمة .. مازال صندوق ألعابي الحديدي يحتفظ بهيئته رغم الصدأ الذي كساه. فتحته ... مرضعة قرطت حلمتها المطاطية .. تلك التي لازمتني حتى سنوات دراستي الأولى .. دمية مازالت تحتفظ. بابتسامتها الوردية رغم حفر الفئران لعينيها وأذنيها وأنفها .. ومنزل صغير مصنوع من فردة حذائي سكناً للصراصير .. ودفتر ممزق عدا صفحة واحدة رسمتُ عليه حرفين وقلباً , أضافت الأرضة حرفاً ثالثاً بالصينية !! رفعت عيني إلى الأعلى , تدلت على رأسي خيوط عنكبوتية , وقماط مسدلة على النافذة الوحيدة في الغرفة.. دولاب ملابسي صار غرف مبيت للفئران. هنا .. على المصطبة انهمرت دموع غزيرة اجتمع حولها الّذر . خرجت من غرفتي إلى ردهة البيت .. كانت هناك مسحقة حجرية , موقد حجري , جدار خشبي لوّنه السواد .. وعلى السقف تدلت أرجوحة مشنوقة , قطعت إحدى ذراعيها , وخربشات على الجدار بطباشير فحمية احتوت على كلمات : أ , ب ,ت , ... أبي , أمي , أمل , علي ... أنا أحب بلادي ... أمام بيتنا القديم كنا نجتمع أنا وجيراني الصغار ... منى , علي , فاطمة ... نهتف : بيدان , بيدان , حالي سويدان .. ونهزج للمطر : يا رب زيده نحنا عبيده ..
تبخرت أحلام صغيرة مع بزوغ شمس الصباح لتولد أحلام دافئة بحرارة الشمس , شوكلاتة , دمية متحركة , زيارة الملاهي , مدرّسة , طبيبة , تبخر آخرها عند دخولي كلية الآداب.
جمعت ذكرياتي الصغيرة كلها في بيتنا القديم لأعود كلما لفحتني شمس المدينة التي دثرها دخان السيارات والمصانع , وكلما أعياني شرب ماء البحر الملوث , ونهرتني أبواق السيارات . سأعود إليك معي فرح الماضي .. لهف الحاضر .. ضجيج المستقبل .