ما أجمل أن نفتش عن الجمال في كل مايحيط بنا، فتلك هي سمة النفوس السليمة والقلوب المفعمة بالخير والروحانية، أما عن الموسيقا فكل مافيها جميل لولا أننا نتدخل كبشر فنعبث في مجراها الذي خلقت فيه لنضع لانفسنا أخاديد ومستنقعات راكدة للموسيقا تشوه الانطباعات الجميلة التي كان ينبغي لها أن تستقر في نفوسنا مع كل خطرة وقطرة موسيقية تداعب آذاننا. أؤمن جداً بأن الموسيقا ليست علماً دنيوياً بل سماوي، أنزله الله جل وعلا ليكون معجزة لأحد أنبيائه وأصفيائه من خلقه ألا وهو سيدنا داؤود عليه السلام فاجتمعت حول مزاميره الشجية الإنس والجن والوحوش والطير لتسبح بحمد الله الذي أحسن كل شيء خلقه، وهو ماذكره الإمام ابن كثير في قصص الأنبياء ورواه عن الأوزاعي ولذلك قال المصطفى عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام عن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه أنه أوتي مزماراً من مزامير داوود لما سمع تلاوته للقرآن الكريم. والاختلاف في توصيف القيم الجمالية لايعد بنظري اختلافاً بل هو إتفاق محض وتعزيز للرصيد المعرفي لعشاق الجمال، لذا فحري بي أن أتوجه بالشكر الجزيل للكاتب العزيز مختار مقطري على مانشر له في العدد الماضي بتاريخ 2009/11/19م بعنوان «ماهية الطرب وماهية التطريب» وكذلك الباحث العزيز عبدالقادر أحمد قائد على مساهمته في نفس العدد حول الرومانسية في الغناء واشتراكاً مع العزيز مقطري في التعقيب على ماكنت تحدثت عنه في مقال لي بعنوان «ماهية الطرب» نشرته فنون الجمهورية بتاريخ 2009/10/29م. وأود الإشارة إلى أن الزميل المقطري في مستهل مقاله الآنف الذكر قد منحني شهادة قلادة أعتز بها كثيراً إذ أثنى على ما أكتب وإذ عدني صديقاً له ولما نلتقي وأنا هنا أؤكد له أنني احتفظ له وأباد له نفس المشاعر الصادقة كما أنني لن أشهد له فيما يكتب ليقيني بأن شهادتي مجروحة فأنا الاسعد بصداقته والأكثر شوقاً إلى الإلتقاء به. وأشير إلى أن الاختلاف في الرأي ليس هو الدافع لكتابة هذا المقال كتعقيب على التعقيب الذي أورده المقطري في «ماهية الطرب والتطريب» بل بالعكس فالكاتب المقطري يكاد يكون أعاد وشرح الكثير مما ذكرته في مقالتي ولكن بطريقته الخاصة!! ولكني هنا أوضح بعض الجوانب التي لم أبينها سابقاً حول الطرب خاصة في البعدين الإيقاعي والنغمي للطرب. والحقيقة هي أنني لم أقرأ ولم أعثر على بحوث أو كتب تتحدث عن الطرب بشكل منصل فحاولت في «ماهية الطرب» أن أقدم جهداً خاصاً يهدف إلى تأصيل مفهوم الطرب بشكل علمي ينأى به عن عبث العابثين وتطفل المتطفلين من أن يصبح عبارة لامعنى لها ولاضابط لاستخدامها، وكنت قد تحدثت في هذا الموضوع عبر الهاتف مع أستاذي وصديقي «طبيب المبدعين» الدكتور نزار محمد عبده غانم وشرحت له وجهة النظر الخاصة بي حول ماهية الطرب وكان متفقاً معي فيما يخص الايقاع دون النغم لذا فأنا قدمت ماقدمت من باب أنه وجهة نظري الخاصة ولا أعفي عزيزي الدكتور نزار من أن يدلي بدلوه أيضاً في هذا الموضوع فهو أكثرنا علماً وإطلاعاً وتجربة في ميدان الموسيقا والبحث الموسيقي وللحديث أيضاً عن الفن اليمني ومدارسه المختلفة ومميزاته وأعلامه كما طلب الأخ مختار مقطري مني أن أفعله ولكني أحيل الموضوع بدوري إلى جهة الاختصاص!! الإيقاعية الطربية تحدثت عن الضابط الايقاعي في الطرب العربي ووصفته بالرزين «نسبياً» دون أن أضع حداً أعلى وأدنى للسرعة كي لا أظلم أعمالاً ومطربين استطاعوا فرض أقصى مستوى من التطريب خارج دائرة الزمن الايقاعي المسموح به ولكن تجاوباً مع ماطرحه الزميل مقطري من استشهاد بكوبلية «هل رأى الحب سكارى» وأعتبر أن الإيقاع فيه سريع «نسبياً» أقول أن إيقاع المصمودي الصغير هذا يكاد يكون هو أسرع الإيقاعات التي تتيح فرصة التطريب أو التي يمكن للفنان أن يؤدي أعمالاً طربية على وقعها.. لو تخيلنا أن هذا الايقاع زادت سرعته كما في أغنية حكيم «النار النار» لتحول الأمر إلى «قطع رقص » لا غناءً ولاطرباً!! الأرباع الموسيقية الأرباع الموسيقية أو النغمات «المسيكة» هي قدر الموسيقا العربية وخصوصيتها التليدة وجمالها الأخاذ وقديمها الجديد، والمقامات العربية الأصيلة جميعها لاتخلو من الأرباع الموسيقية وحتى مقام الحجاز الذي يقوم على بعد موسيقي مقداره «1.5» درجة ونصف تعرض للتعديل حديثاً ليصبح بهذا الشكل وهذا البعد والحقيقة أن الحجاز القديم بعده الحقيقي «1.25» درجة وربع وهو ماذكره الأستاذ سليم الحلوفي «الموسيقا النظرية» باب تحيليل مقام الحجاز وهذا بدوره ينسحب إلى مقامات مثل الهزام وشت العربان «أو شد العربان» بالدال أي المقامات التي تحتوي على جنس الحجاز في سلمها النغمي لذلك فالحجاز الحقيقي يكاد يكون هو «الحجاز اليمني» المعروف في الموسيقا اليمنية ومثله الهزام اليمني. ثمة نقطة أخرى مهمة وهي أننا نتجاهل بدون قصد وبحسن نية حقيقة أن تحليل الألحان العربية يجب أن يدرس على أساس تحليل المقام إلى أجناس وعقود، فالمقام الشرقي يتكون من أجناس مقامية أقلها إثنان وأكثرها ستة أجناس تشترك معاً في إضفاء الطابع اللحني للمقام، ومعروف أن المقام الموسيقي يحمل إسم الجنس الأول في تركيبه أو أن المقامات التي تشترك في جنسها الأول تعتبر عائلة مقامية واحدة مثل عائلة الراست التي تتضمن «الراست والسوزناك والنيروز والسوزدلار وغيرها» وبالمثل عائلة السيكا «هزام، راحة ارواح، مستعار، بستنكار، سيكا بلدي..إلخ» لذا فإننا عندما نستمع إلى أغنية الفنان أيوب طارش «أرجع لحولك» مثلاً نقول أنها في المذهب من مقام السوزناك «جنس راست يليه جنس حجاز» لكننا عندما نقول أن اللحن في الكوبلية الأول تحول إلى «مقام» البياتي «غبني على عمري جرت سنينه..إلخ».. فإننا نجانب الحقيقة بعض الشيء حيث نشير إلى طابع البياتي كجنس مقامي يستطيع القارئ أن يفهمه لكن الصواب هو أن نقول أن الفنان أيوب استبدل جنس الحجاز في السوزناك بجنس البياتي ليصبح الناتج مقام «نيروز» وكلاهما «السوزناك والنيروز» من فضائل الراست فالأغنية راست إجمالاً!! وخلاصة القول أن الجنس المقامي العربي «ذي الأرباع» لم يغب عن المقاسات المتداولة عند العرب حتى بعد دخول الكرد والنهاوند والعجم حافظ العرب على هذه الأجناس الجديدة وأضافوا إليها أجناساً عربية فتكون لنا من العجم مثلاً الجهاركا «عجم يكثر فيه جنس الراست» أو الشوق أفزا «عجم يليه حجاز» كما في مذهب أغنية «أغداً ألقاك» أو «لسة فاكر» وظهر لنا أيضاً من النهاوند «حسيني بوسيليك» ومقام «العشاق».. إلخ..وهذا ينسجم مع ماقاله الأخ مقطري من أن الكرد والنهاوند يصلح لأن يكون طرباً تمهيدياً للطرب الأكثر استنفاراً للوجدان والمشاعر!! وينسجم تماماً مع الأمثلة التي ذكرها في مقالته السابقة.. وإذن فالطرب هو الغناء العربي الأصيل «القديم» الذي استجاب لبعض الإضافات النغمية في «حدود معينة». الرومانسية هي بالفعل مصطلح أدبي يدل على المشاعر الرقيقة والمنسابة «الوجدانيات» وهي سمة تتميز بها أجناس مقامية أكثر من غيرها وبالتالي فهي الأنسب للتعبير عن النص ذي الدلالة الرومانسية!!.. وهل كان للموسيقا العربية شأن سوى الغناء؟!! أو التعبير عن النصوص الشعرية عن طريق إلباسها الحلل النغمية؟! إن كل التراث الشرقي الموسيقي غنائي بحت تقريباً حتى تلك القوالب الشرقية التي نزعم أنها موسيقا بحتة ليست سوى أشكال غنائية انفصلت لاحقاً لتشكل بناءً منفرداً ودليل ذلك «الشرف» الذي يعني المقدمة أو المطلع فقد كان يمثل المقدمة الموسيقية التي تسبق العمل الغنائي إلى أن تم فصله كعمل موسيقي مستقل «موسيقا بحتة» ومثله «السماعي» و«اللونفا» ...إلخ لذلك لانستغرب أن يكون واقع الموسيقا البحتة في الثقافة العربية واقع بائس على عكس الألمان مثلاً!! إن الشرقيين والعرب خصوصاً أمة غناء أكثر من موسيقا بحتة وهي شعوب إيقاعية حد الثمالة ودليل ذلك العدد الهائل من الموازين الايقاعية لدى الشرق على عكس الشعوب الأخرى الغربية.. يقولون عن الموسيقا العربية أنها طوّعت اللحن لخدمة النص الشعري وطوعت الاثنين لصالح الصوت فهل أنتم مع هذا القول؟!! وأنا هنا أتوجه إلى العزيز مختار مقطري بالعودة إلى مطالع الأعمال الراقية ومراقبة التحولات اللحنية مقارنة مع التحولات في النص الشعري شكلاً ومضموناً لنعلم أن العرب عشاق حقيقيون للكلمة واللحن معاً ولنعلم أن أولئك الرواد الموسيقيون العرب الذين أسميهم «أسباط الموسيقا» كانوا على قدر كبير من الفهم والحس العالي ولقد أعجبني ماقاله العازف العراقي نصير شمة قبل أيام عندم وصف الموسيقار السنباطي بأنه «شيخ طريقة»!! في معرض حديثه عن هذا العملاق وإنجازاته وملامح فنه.. وختاماً ما أقول أنه مادامت تجمعني بالزميل مختار مقطري صفة واحدة على الأقل وهي عشق الأصالة وعشق الفن القديم الأصيل والجديد الجميل أيضاً فلا يهمني بعد ذلك أن نختلف على شيء آخر!! وأذكر أيضاً الأخ مقطري بأن ما قلته عن أم كلثوم ليس كما ذكره هو أي أنني عبت على السيدة أم كلثوم نطقها أو إقفالها «حاشا لله» ولكني ذكرت أن النقاد عابوا عليها استخدام كلمة «نعم» بدلاً عن «بلى» في البيت الشهير: بلى أنا مشتاق وعندي لوعة ولكن مثلي لايذاع له سرٌ وهذا ماقلته بالضبط لا أقل ولا أكثر!! ختاماً رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير وكل عام وأنتم بألف خير