يختلف المرضى كثيراً فيما بينهم في تقدير أهمية إقامة علاقة طويلة الأمد مع الطبيب، فمن جهة تجد كثيراً من المرضى الذين يرتبطون بالطبيب ويتابعون أحوالهم الصحية لديه باستمرار، أو يزورون طبيباً محدداً عند كل طارئ يحدث لهم، ويعتز بعضهم بالقول أن فلاناً طبيبه الخاص،أو طبيب العائلة الدائم. لكننا من جهة أخرى نجد أن بعض المرضى يتصورون أن زيارة واحدة للطبيب تكفي للشفاء وللحصول على كل ما يبتغونه من الطبيب. وقد يكون ذلك معقولاً وطبيعياً تماماً عند الإصابة بالأمراض أو الأعراض البسيطة أو الأمراض السارية، أما في الأمراض المزمنة مثل الداء السكري وفرط ضغط الدم، وأمراض القلب والكبد والكلى، وكذلك في حالات الأعراض المزمنة للاضطرابات الوظيفية والأعراض الجسدية النفسية والعصاب، فإن مثل هؤلاء المرضى لا يتقبلون ضرورة المتابعة المنتظمة لحالاتهم الصحية ويتسببون لأنفسهم بقدر كبير من المعاناة بالإضافة إلى مرضهم الأساسي. كثير من هؤلاء المرضى ينظرون بعيون الشك والريبة عندما يحدد لهم الطبيب زيارات المتابعة ويتصورون أن الهدف منها قد يكون مجرد تحويل المريض إلى زبون دائم لجني المزيد من المال. ويعبر البعض من هؤلاء المرضى عن ذلك بقليل من الصراحة، ويؤكد بعضهم أنهم ما كانوا يمانعون زيارات المتابعة، لولا أن النفقات المالية لذلك باهظة التكاليف وأنهم يقيمون في أماكن بعيدة تكلفهم أجور المواصلات غرامة عظيمة. وبعض هؤلاء المرضى لا يعلق أهمية على نصح الطبيب له بالعودة للمتابعة بعد مدة معينة ويتجاهلها، ولكنه يفاجأ بعودة الأعراض بعد انتهاء العلاج،فيعود إلى الطبيب ويعبر عن استيائه، فيذهب به الظن إلى أن العلاج “ غير أصلي” إذا أحسن الظن بالطبيب، أما إذا ساورته الشكوك وساء ظنه بالطبيب، فإنه يعتقد أن الطبيب قد وصف له دواءً مهدئاً وليس دواءً شافياً. كنت في بدايات أمري أتضايق من مثل هذه المفاهيم، وخاصة التي تقال بلهجة محملة بالاتهامات والشكوك، وكنت أدخل في نقاش أحياناً مع المريض أو أقاربه، وأوجه لهم الانتقادات أحياناً وكأني أقوم بالدفاع عن نفسي أمام شكوكهم واتهاماتهم. وكنت أقول لبعضهم أن الصحة أو الشفاء ليست شيئاً أو سلعة يمكن أن تشترى من البقالة أو السوق، وأن تحزم في كيس يأخذه معه المريض إلى بيته للاستهلاك. وأقول لبعضهم أحياناً بلهجة تنم عن عدم الاهتمام، بأنني متواجد إن أرادوا الاهتمام بصحتهم ومتابعة أمراضهم، أما أذا لم يكن المريض مهتماً بنفسه، فأنا كذلك لا يهمني الأمر، وأن عليه بالتالي أن يقرر بنفسه ما إذا كان يريد العودة للمتابعة أو غير ذلك. ولكنني أدركت خلال فترة قصيرة أن المرضى لا يقصدون على الإطلاق اتهام الطبيب أو الإساءة إليه، ولا يدركون ما يمكن أن تحمله كلماتهم وراءها من مغزى يستنتجه الطبيب بحدسه ويحمل الكلمات من المعاني مالا يقصدون. كما تفهمت وجهة نظر هؤلاء المرضى وظروفهم وأحوالهم المادية، وما يتكبدونه من عناء الأسفار الطويلة المتكررة، وما يتحملونه من المشقات والتكاليف المالية الباهظة، وأنهم بذلك يريدون مجرد تصوير أحوالهم للطبيب فحسب، وأن الأغلبية منهم يستجيب ويتفهم ضرورات المتابعة المنتظمة عندما يؤكد لهم أهميتها، ويقتنعون بذلك ويرحبون، إن هؤلاء المرضى يريدون من الطبيب الحكيم أن يتفهم ظروفهم ثم يمد يده إليهم، ويصبح دليلاً ومرشداً لهم، وأن يتولى دور القيادة والتوجيه في الاهتمام بمشاكلهم الصحية..
فتحت المريضة باب غرفة مكتبي ودخلت، ولكنها لم تتقدم سوى خطوة واحدة حتى بدأت في الشكوى والصياح بصوت عال، وكأنها تنادي أشخاصاً من مكان بعيد. “ آه .. آه .. يا دكتور .. رجعنا لك .. الدواء ما نفعش ولا حاجة .. مافيش فايدة .. معدتي تلهب لهيب .. وجع ما يخلينيش أجلس حتى دقيقة.. وغاثي .. غاثي مستمر طوال الوقت .. ما آكلش ولا حاجة .. أمس الليل شربت قرطاس لبن حقيقي وطرشته كله .. وكظمة يادكتور..”. كانت قد وصلت إلى الكرسي أمام مكتبي، وقاطعت اندفاعها في الحديث بكلمات الترحيب، وطلبت منها الجلوس والراحة حتى تتمكن من أن تتحدث بهدوء. جلست بدون أن تتوقف عن الشكوى، وإن كانت قد خفضت صوتها قليلاً: ” أقول لك كظمة يا دكتور .. تضغط لي هنا على صدري وتطلع لاقبة الرأس وتعمل لي دوخة.. دوخة شديدة، ولا أقدر أحرك رأسي منه .. ولا أعمل لي مهرة.. وحمى .. حمى زي النار يا دكتور طول الليل .. تطلع لي من الزبان مع لهيب ويتهر مثل النار في جسمي كله .. وبعده عرق شديد وبردة وفتور.. ومعدتي .. لهيب ووجع .. ولا عد أقدر آكل لقمة .. وغاثي .. غاثي .. غاثي ..”. استطعت مقاطعتها أخيراً وسألتها: أشتي أعرف كيف كانت حالتك عندما كنت تأخذي الدواء؟ ” عادني كنت أشكل قليل .. أحسن شوية .. الدواء يهدي لي بس بعد ما خلص الدواء .. رجع لي الوجع أزيد من الأول .. وذلحين لا أكل ولا شرب ولا نوم.. ما أنامش يا دكتور .. أجلس سهرانة للصبح .. وكلي أوجاع .. وحقوي .. حقوي يادكتور..” مش أنا قد قلت لك كام مرة من قبل لا تقطعي الدواء .. ولازم تحضري للمراجعة ومتابعة حالتك قبل ما تكملي الدواء بعدة أيام؟ كم شيكون لي يادكتور .. ومنين باجيب حق الدواء .. كله مهدي .. أني أشتي منك دواء شافي .. وأني والله لاعطي لك عيوني .. نحنا ما بناش قدرة على السرحة والرجعة والتكاليف.. قدك تدري بحالتنا يا دكتور.. والدنيا غلاء والحالة قاصرة.. والله لو كنت قريب لاكنت أجي أزورك زيارة.. لكن نحنا بعيد.. والله أنني خرجت من بيتي قبل الفجر وعاد الدنيا غدر.. أنت عارف السيارة إلى هنا والله إن أجرتها ستة ألف ريال وهذه قده سابع والا ثامن مرة نجي لك.. كم شيكون بنا؟!! طيب.. خلاص بانعمل لك الآن فحص دم علشان نشوف هذي الحمى أيش قد تكون. وانفجر صوتها عالياً مرة أخرى، تحتج على اقتراحي بإجراء فحص الدم: “مش عادني عملت المرة الأولى فحص كامل.. عاده مالوش ثلاثة شهور.. ماشتيش فحص دم.. اعمل لي جهاز بس.. شوف المعدة حقي أيش في به وشوف القلب والرية.. تقول يادكتور مايكونش هذا الوجع من المرارة؟!.. والا من الكلى؟! قالوا لي أن عندي أملاح كثير في الكلى..”.
سلم علي بحرارة تدل على سابق معرفة بي، وأخذت أنبش في الزوايا البعيدة لذاكرتي، ولكنها لم تسعفني بصورة تعيده إلى ذهني رغم أن وجهه بدا مألوفاً. لاحظت مباشرة استدارة وجهه السمين، وحمرة الخدين، وحب الشباب على وجهه وهي العلامات المميزة لاستخدام أدوية الكوتريزون لفترة طويلة. أخرج من جيبه ورقة قديمة باهتة لم يعد لها من اللون الأبيض إلا أثر قديم، وكانت مطبقة بعناية ولكنها قد بدأت تتمزق عند خطوط عطف الورقة على بعضها، وأخذتها منه بعناية حتى لاتتحول بين أصابعي إلى مزق متفرقة، واتضح أنها كانت وصفة طبية كتبتها له قبل سبع سنوات، وتتضمن الكورتيزون مع دواء آخر وهو الإيميوران. ولما أعدت النظر إليه من جديد تذكرت وجهه القديم قبل سبع سنوات عندما لم يكن قد تناول الكورتيزون بعد، وأدركت الشبه بينه وبين وجهه ومظهره في الوقت الحاضر، وعرفت لم خانتني ذاكرتي، ولم أتعرف عليه لأول وهلة. أعدت الترحيب به، وأنا أقول له: أتذكر جيداً الآن أنك كنت مصاباً بالتهاب الكبد المزمن النشط، وأنني قد وصفت لك هذه الأدوية، وقد عدت إلي مرتين أو ثلاث مرات.. ولم تعد بعد ذلك.. ها..ها.. لابد أنك سافرت.. أذكر كذلك أنك في تلك الأيام كنت تنتظر وصول تأشيرة دخول إلى أمريكا.. من أقاربك هناك. ولا سافرت ولا حاجة.. ماقدرتش أحصل على تأشيرة. وأين كنت خلال هذه المدة كلها؟ هنا.. في البلاد.. ومعي قليل أشغال في إب. طيب.. ومن كان يشرف على علاجك خلال هذه الفترة؟ ولا حد! يعني ماكنتش تتعاين عند أي طبيب ولاتعمل فحوصات طوال هذي الفترة. ولا أتعاين ولا أفحص ولاشيء.. كل مايخلص الدواء حقي أشتريه مرة ثاني واستعمله! ولم تنقطع عنه أبداً خلال هذه الفترة؟ لا.. انقطع أحياناً فترات بسيطة.. أسبوعين.. شهر.. ولما ألاقي فرصة وأنزل إلى إب أشتريه واستعمله! وكم حبة من الكورتيزون تأخذ في اليوم؟ حبتين أو ثلاث.. وأحياناً لما أتعب أزيد حبة! وأيش السبب اللي خلاك لا تتعاين.. ولا تفحص ولا تتابع حالتك مع أي طبيب؟ لأنه ما لوش فايدة.. أنا عارف مرضي.. وعارف علاجي.. وخلاص! أظهرت الفحوصات وكشف الأمواج الصوتية ذلك اليوم أن الكبد قد أصابه التليف الشديد، وأنه قد أصيب بالداء السكري، وهو أحد المضاعفات المتوقعة من الكورتيزون. وصفت له العلاج وشددت على نصحه بضرورة المتابعة خاصة بعد إصابته بالداء السكري، ووافق على ماقلته بمجاملة وأدب جم، وابتسامة راضية، ولكنني لم أشاهده بعدها حتى اليوم.
وضع الأوراق أمامي على المكتب، وهو يقول من بين أنفاسه اللاهثة ووجهه الشاحب المتعب المكدود: “هذي رابع مرة نجي لك!”. قلبت أوراقه السابقة بسرعة واتضح لي أن المريض يعاني من ضخامة قلبية متوسعة ناجمة عن إقفار التروية الإكليلية لعضلة القلب، مما أدى إلى إصابته بقصور القلب الاحتقاني المزمن، الذي يصيبه بضيق التنفس، مع التعب والفتور عند بذل أي مجهود، مع ألم أعلى البطن وتضخم الكبد واحتقانه وضعف الشهية وتورم القدمين والجسم. انتظرني حتى أكملت الاطلاع على أوراقه السابقة، وأنظر نحوه متطلعاً ومتسائلاً: خيراً.. إن شاء الله. هذي رابع مرة نجي لك.. شوف الأوراق اللي قدامك.. وكل مرة نفس الكلام.. تجيب لي علاجات وأتحسن.. ولكن بعد ماينتهي العلاج بيومين.. ثلاث.. يرجع المرض من جديد.. وأرجع لحالتي الأولى.. ولا كأني تعالجت! أنا ما أقدرش على السرحة والرجعة.. وكثرة العلاجات.. أشتيك تعمل لي دواء تمام.. مافيش بعده طلعة ولانزلة.. أنا ما اشتيش مهدئات. هذي مش مهدئات ياعم أحمد.. هذي أدوية تساعد القلب.. لأن قلبك أصبح ضعيف شوية.. ويحتاج إلى مساعدة بهذه الأدوية. وكم تشتيني أستمر بالعلاج؟ باستمرار.. طول العمر.. لأن قلبك تعبان ويحتاج إلى هذه العلاجات لمساعدته على دفع الدم إلى أعضاء الجسم.. مثلما قلت لك. لاحول ولا قوة إلا بالله! أنا مش آلف استعمل دواء طول عمري، ولما كان يجي لي مرض استعمل الدواء يومين.. ثلاث أيام.. وخلاص. معليش ياعم أحمد.. الآن وضعك تغير.. ولما القلب يتعب يشتي له مساعدة شوية بالدواء وربنا كريم. ومن أين لي المال حق الدواء.. ومن شيجيب لي؟ وأنا إنسان على قدر حالي.. وجه هذه الأسئلة نحوي بنبرات استنكارية، ووجهه متجهم وقد زادت ملامح الضيق على وجهه من شحوبه وتعبه، ولم يكن يوجه الأسئلة منتظراً مني الإجابة، ولكنه كان يبدو أنه يوجهها مثل صفعة في وجه متهم. وبينما كنت أتململ محاولاً إيجاد جواب لائق أتهرب به من أي إجابة حقيقية لسؤاله المحرج، أو أحاول أن أطيب خاطره بكلمة، تدخل ابنه الشاب الذي كان يرافقه في الحديث لأول مرة، وهو يقول له: يابا.. مالك من هذا الكلام.. وأنا وإخواني فين رحنا؟... نحنا موجودين كلنا.. لاتزعج الدكتور بهذا الكلام.. هذا شغلنا نحنا.. ثم وجه كلامه نحوي: يادكتور أنت ماعليك.. اعمل له كل شيء يحتاجه.. واكتب له الدواء.. وأنا من هذي المرة بأتابع حالته.. وأرجعه لعندك في الوقت الذي تحدده. وخلال زيارات المتابعة التي انتظمت بعد ذلك، لم يكن المريض يتحدث معي أو يرد على أسئلتي، وكان يترك ذلك لابنه المرافق له دائماً، ولم يقم بتحيتي يوماً، ولا الرد على مجاملاتي، وعلى الرغم من أن ابنه الشاب كان يغمرني بعبارات الشكر فإن المريض نفسه لم يشكرني يوماً، وظلت نظراته المتفحصة تخفي وراء صمته قدراً هائلاً من الريبة والشك.