من المشاكل التي يواجهها الطبيب الباطني خاصة، فئة من المرضى الذين قد ترددوا على عدد كبير من الأطباء خلال فترة قصيرة أو طويلة، ولم ينالوا مايبتغون من الرعاية الطبية، ولم يتحقق لهم المراد في الصحة والشفاء، وكل مريض أو مريضة من هذه الفئة يشكل نمطاً فريداً في كل شيء، ويتطلب من الطبيب الوقت الكافي لمعرفة مشكلته، ثم ابتكار طريقة مختلفة للتعامل معه تختلف عن طرق التعامل مع جميع المرضى الآخرين. وما أن أدرك أن المريض الذي دخل إلي لأول مرة هو من هذه الفئة المترددة على كثير من الأطباء فإنني أبدأ رغماً عني بالإصابة بالإحباط والخوف مما سوف أواجهه وأسأل الله بيني وبين نفسي أن ينتهي الأمر على خير. ومثل هذا المريض أو المريضة يأتي في العادة مصحوباً بعدد من مرافقيه، ويبدأ في سرد حكايته مباشرة مع المرض والأطباء، وكيف أنه قد تعاين عند عدد كبير منهم بدون جدوى، ويأخذ في ترديد أسمائهم والمستشفيات العامة والخاصة التي تعاين فيها ويصب اللوم على الجميع في ترديه إلى حالة سيئة وعدم معرفته لسبب مرضه وعدم فعالية أي دواء وصف له. ويتحامل بعضهم على الأطباء جميعاً، ويصفهم بالجهل والإهمال ويلقي الشتائم القبيحة أحياناً على واحد منهم أو أكثر، ناسياً أنني واحد من الأطباء، وأن التعميم بالسب على الزملاء الأطباء ينالني قدر منه بقدر ماينالهم جميعاً. وبعضهم يصمم على أن يرتب الأمور في قصته بحيث يذكر أنه قد تعاين أولاً لدى فلان وقال له كذا أو فعل معه كذا ولم يفد الأمر شيئاً، ثم أنه توجه إلى الطبيب فلان الذي قد لايتذكر أسمه، ويلح عليك في تذكيره بالاسم من خلال ماذكره لك عن عيادته مثلاً، ويصاب بالخيبة عندما لاتستطيع مساعدته في تذكر اسم الطبيب الذي قد تعاين لديه. والبعض يحمل معه جميع الأوراق التي قد تصل إلى حجم ملف سميك، وقد تكون مرتبة أو غير مرتبة، وقد يكون بعضها مطوياً ومطبقاً على بعضه، والأوراق ملتصقة ببعضها، وأطراف الكثير منها ممزقة، وهو يصمم على أن تطلع عليها جميعاً بشكل كامل، وأن تدرسها بعناية حتى تدرك حجم الإساءة التي قد تلقاها على أيدي هؤلاء الأطباء. أما المرافقين والمرافقات فهم أشد حماسة وأكثر حيوية ونشاطاً في الوصف، وكل منهم يقاطع المريض، ويضيف جملة أو يوضح شكوى، أو يضيف بعض الاتهامات الجديدة لبعض الأطباء، التي قد يكون المريض نسيها أثناء اندفاعه في الشكوى المرة من الطب والأطباء. في مثل هذه الحالة وأنا أنقل نظري واهتمامي نحو كل من يرفع صوته من المريض والمرافقين، أحس أنني قد وقعت في شرك لانجاة منه، وأنني قد أصبحت مثل أحد الأيتام في مأدبة اللئام. والأدهى من ذلك أنني أجد نفسي مجبراً على الإنصات باهتمام، وعلى عدم مقاطعة أحد، لأنني لو فعلت ذلك قبل الأوان فسوف يصابون جميعاً بخيبة الأمل، وربما يسوء التفاهم والتواصل فيما بيني وبينهم ويحدث ما لايحمد عقباه. ويبدو أن المريض أو المريضة عادة ومرافقيها قد حضروا أنفسهم لهذا الدور، وتدربوا طويلاً على الافتتاحية مثل جوقة من المنشدين، وأن من بين واجباتي التي تفرضها مهنتي نحوهم أن أستمع إلى المشهد الافتتاحي وأن أبدي اهتمامي وإعجابي بذلك، والحمدلله أن واجباتي المهنية لاتفرض علي التصفيق والهتاف لجوقة الإنشاد الجماعي. ولكن المصيبة الحقيقية أن كل هذه المواويل والحكايات لاعلاقة لها بالقصة المرضية، ولا الأعراض الأساسية التي يشكو منها، ولاتشخيص المرض ولا شيء من ذلك على الإطلاق، وتكون مدركاً أن الدقائق الثمينة تمر بسرعة، وأنك سوف تبدأ في تناول القصة كلها من أولها بعد أن ينتهي ذلك المشهد الافتتاحي “العظيم”. ويختلف هؤلاء المرضى كذلك اختلافاً عظيماً في مشاكلهم حيث يكون كثير منها ضمن الاضطرابات الجسدية النفسية والتي قد شخصها الأطباء، ولكن المريض لم يقتنع بذلك، أو أن الآثار الجانبية للأدوية التي وصفت له لم يستطع تحملها أو القبول بها، لكن بعضهم قد يكون لديه مشكلة طبية حقيقية تتطلب استكشافها وتقدير أهميتها، وقد تتطلب إجراءات تشخيصية قد يوافق عليها المريض وقد لايوافق عليها. وقد يكون عدم موافقته عليها اعتقاده واعتقاد المرافقين بأن الأطباء الآخرين قد قاموا بكل الإجراءات التشخيصية اللازمة، ولكنهم أخطأوا فقط في وصف العلاج، وأحياناً تكون عدم موافقتهم على الإجراءات التشخيصية الجديدة بأنهم قد دفعوا تكاليف مادية باهظة وأنهم لايقدرون على دفع أي تكاليف جديدة. وفي مثل هذه الحالة يصبح موقفي ضعيفاً وتتضاءل أحياناً ثقتي بالنفس حتى ينالني قدر كبير من الإحباط والإحساس بالفشل الذي يكونوا جميعاً قد تعاونوا على بثه في أجواء الغرفة، والذي قد تسرب قدر كبير منه إلى أعماق نفسي، وتخيم على تفكيري الشكوك العميقة لأنه إذا كان جميع الأطباء السابقون قد قاموا بكل شيء فما الذي يمكن أن أضيفه أنا؟ وكيف لي أن أكتشف مالم يتمكنوا هم من اكتشافه؟ ورغم إدراكي الكامل بأن مباشرة مثل هؤلاء المرضى يتطلب التخلي عن الانحيازات المسبقة، والبدء من أول القصة بشعور جديد، وبذهنية مختلفة جديدة تتغاير مع السياق الذي حدده قبلي الأطباء الآخرون، ووضعوا بعض الحواجز التي قد تمنعني من التفكير باستقلالية، وأن أضع في أعتباري تشخيصات أخرى لتفسير الحالة، وأن أتساءل عن أهمية كل التفاصيل، وأحاول أن أربطها بالسياق العام أو أفسر البيانات وأربط بينها بطريقة مختلفة وأنا أدرك كذلك، أن هذا الأمر لايمكن تحقيقه إلا إذا استطعت إقناعهم بترك الماضي وراء ظهورهم والبدء من جديد، وأن أعمل على اكتساب ثقتهم ونيل رضاهم، والتأكيد لهم بأنني أهل للثقة التي دفعتهم إلى الحضور إلي ذلك اليوم، وأنهم قد وجدوا أخيراً طبيباً ذو علم ومعرفة وخبرة ولديه الرغبة والقدرة على إبداء الاهتمام الكامل. وأنجح أحياناً في هذا الأمر وأفشل في كثير من المرت، وأدرك أنني قد تحولت إلى رقم في السلسلة المتتابعة التي يضيفها المريض إلى قائمته من الأطباء الذين يكيل لهم كل أنواع الاتهامات والفشل والسباب والشتائم.
دخلت علي مريضة من أحد الأرياف في محافظة إب، في الخامسة والثلاثين من عمرها غير متزوجة، تقيم مع والدتها، ويتولى شئون الصرف على المنزل أخواها اللذان يكبرانها سناً، وكانا يرافقانها في زيارتها، ويساعدانها على تصوير أحوالها المرضية وما عانته وكابدته خلال هذه الفترة من الآلام بدون أن تنال أي فائدة تذكر. وتساعد الجميع فيما بينهم على تذكر عدد المعاينات التي تمت في المستوصفات الريفية وفي عيادات ومستشفيات مدينة إب، ثم في مستشفيات العاصمة صنعاء حتى وصل إخوتها الذين يتولون نفقات علاجها إلى حد الإفلاس. كانت المريضة تبدو في حالة صحية جيدة ممتلئة القوام، قوية البنية، متوردة الوجه ولايوجد مايدل في مظهرها العام وهيئتها على مرض عضال، ولكن لهجتها وتدفقها في الكلام وصوتها المرتفع يوحي بدرجات شديدة من القلق والانفعال، وقدرت أنها قد تكون تعاني من أحد الأمراض العصابية أو الاضطرابات الجسدية النفسية. وفي العادة يكون هذا التشخيص المبدئي القائم على “الانطباع الأولي” الذي يتكون في ذهن الطبيب عن المريض صواباً، ولكنني قمعت هذا الرأي متذكراً أن الأعراض العصبية والانفعالية والنفسية كالقلق الشديد والخوف قد تطغى على الصورة كلية وتخفي الأسباب الجسدية العضوية المرضية التي قد تكون خطيرة في كثير من الأحيان. بعد أن انتهوا من سرد المشهد الافتتاحي، رجوتهم الهدوء وبدء القصة من جديد، ورغم اعتراضهم بأن كل شيء موجود في الملفات والأوراق التي أمامي، فقد أقنعتهم بأن هذه مجرد أوراق، وطالما أن المريضة موجودة أمامي فإنه لابد لي من الاستماع إليها من جديد، وكأنها تتعاين للمرة الأولى. قالت المريضة أنها قد طرشت الدم أول مرة منذ ستة أشهر، ونقلوا لها قربة من الدم في أحد المستوصفات ثم وصفوا لها العلاجات وتحسنت حالتها قليلاً، ولكنها طرشت الدم مرة أخرى بعد أقل من شهر. وتعاينت في مستوصف آخر بدون فائدة، ثم انتقلت إلى مدينة إب، حيث قاموا بإجراء منظار للمعدة والاثني عشر، ولكنها لم تستفد شيئاً. لقد كانت تعاني من شيء ثقيل يضغط على صدرها يسبب لها الضيق والقلق والضجر ثم ينتشر بعد ذلك على شكل التهاب شديد وحمى تشمل البطن والصدر والرأس وكافة أجزاء الجسم. ولم يستطع الأطباء معرفة هذه الالتهابات والحمى التي تعاني منها، ثم وصفوا لها عدة مرات علاجات لمرض التيفوئيد الذين قالوا أنه السبب في مرضها. ومنذ شهر ونصف عندما لم يجدوا أي تحسن لدى الأطباء في إب، قرروا الانتقال إلى صنعاء، وتعاينت لدى الطبيب فلان الفلاني الذي صمم على إجراء منظار آخر للجهاز الهضمي العلوي، لأنه غير متأكد من نتائج المنظار الذي أجري لها في إب، ولا يثق في نتيجته. وتكلفت إجراء المنظار، وعانت فيه ماعانت من آلام ومشاق ولكنها طرشت الدم من جديد بعد أقل من أسبوع على إجراء المنظار، وربما يكون هذا الطبيب قد جرحها بالمنظار وتسبب في حدوث النزف من جديد. ذهبوا بعد ذلك إلى طبيب آخر وأجرى لها كشفاً بالأمواج الصوتية، وأكد لهم أن السبب في كل متاعبها هو التهاب المرارة، وأن عليها استئصال المرارة قبل أقل من شهر وشعرت بالتحسن، وعادت إلى بيتها في إحدى القرى الريفية في منطقة إب ولكنها منذ ثلاثة أيام طرشت الدم من جديد، وقد جعلها ذلك تدرك أن جميع الأطباء لم يدركوا سبب مرضها، وأن أحداً لم يتعامل معها بشكل جيد، وأنهم جميعاً لا يريدون سوى كسب المال، وهي على استعداد لدفع المال لو كانت تملكه، ولكن كل نفقات العلاج يتولاها أخواها وكل منهم صاحب أسرة ولديه عيال. وقد بدأت هي تحس بأنها قد أصبحت عبئاً ثقيلاً عليهما لا يمكنهما احتماله، وأنها أصبحت تتمنى الموت حتى تستريح من مرضها وتريح جميع الآخرين من مشاكلها. سألتها عن لون الدم في كل مرة طرشت الدم فيها فقالت أنه دم صريح أحمر اللون، وسألتها عن طريقة إخراج الدم وهل يتم بعد السعال أو الغثيان والإقياء، فاحتارت، وترددت، ثم قالت أنه طرش من المعدة ما في ذلك شك. سألتها عن السعال فقالت أنه يحدث أثناء الطرش وبعده ليوم أو يومين، ولكنها لا تعاني من أي سعال أو آلام صدرية. نفت أن يكون لون الدم الذي تطرشه متغيراً أو داكناً بني اللون، أو مثل ثفل البن، وهو مايميز الدم المتدفق من المعدة والمريء، ونفت أن يكون البراز قد تحول يوماً إلى اللون الأسود، الذي يشبه القطران، وهو كذلك ما يحدث بعد قيء الدم لأسباب في الجزء العلوي من القناة الهضمية التي تشمل المريء والمعدة والاثني عشر خاصة. وعلى الرغم من أن المريضة لا تعاني من السعال ولا الحمى ولا الأعراض الصدرية الأخرى، فقد بدأ لدي حدس داخلي أن الدم الذي تخرجه المرأة ليس إقياءاً دموياً من الجهاز الهضمي، بل نفثاً دموياً من الرئتين أو البلعوم وهو مايؤكده اللون الأحمر للدم المقذوف، وعدم وجود دم ذو لون بني، أو مصحوب ببقايا الطعام، وعدم وجود التغوط الدموي الأسود. لم أجد خلال الكشف الحكمي الدقيق الذي قمت بإجرائه سوى ندبة جراحية حديثة على جدار البطن مكان استئصال المرارة. قلت للمريضة وأخويها أنني قبل أن أصدر أي رأي، فأنا أريد أن أجري فحصاً للدم والبصاق و أشعة صدرية عادية، وهي فحوص روتينية رخيصة الثمن لن تكلفهم الكثير، ولكنني فوجئت بعاصفة من الاحتجاجات من المريضة وأخويها، وكل منهم يحتج بأنه لم يعد معه شيء من مال ينفقونه، ولا يريدون أي فحوصات ولا كشوفات جديدة وأنهم يريدون مني وصف العلاج فقط، لأن كثيراً من أصدقائهم قد نصحوهم بالتوجه إلي، وأنني طيب ورجل خير ولن أكلفهم أي شيء. ثم بدأ أحد الأخوين يقدم لي حساباً بالغرامات المالية التي تكبدوها بسبب عملية استئصال المرارة والمناظير والعلاجات، ولكنني قاطعته بسرعة وحدة، وقلت له : “ اسمع دعك من كل ذلك، سوف تقوم بفحص الدم والبصاق وأشعة الصدر على نفقتي الخاصة مجاناً.. !. وما أن قلت ذلك حتى سرت موجة من الاستحسان والتقدير بينهم الثلاثة وأخذ كل واحد منهم يلهج بآيات الشكر والثناء، ويرحب بهذه الإجراءات التشخيصية التي طلبتها، وتسلموا القصاصات من يدي بامتنان كامل. وبعد أكثر من ساعة بقليل دخل الثلاثة علي من جديد يحملون النتائج، ووضعت أشعة الصدر على فانوس الأشعة المعلق بجوار مكتبي، وكانت الصورة مذهلة وكاسحة بالنسبة لي وحدي، فقد كان الفص الأعلى للرئة اليمنى متجبن بشكل كامل، ويحمل في وسطه تجويفاً كهفياً كبيراً في صورة نموذجية مثالية للدرن الرئوي. وليس ذلك فحسب، بل كان معدل ترسيب الكريات الحمر في الدم عاليا ويصل إلى 85مم/ ساعة (المعدل الطبيعي لا يتجاوز 20مم/ساعة)، وهي علامة مساعدة إيجابية تدعم صحة التشخيص، أما فحص البصاق فقد كان سلبياً. وشرحت لهم النتائج وأنا أحس في داخلي بكل مشاعر الفخر والانتصار وكأنني قائد من القادة العسكريين العظماء الذين فتحوا الممالك والأمصار، وكأنني كنت منتظراً منهم أن يضعوا على رأسي أكاليل الغار والفخار. ولكن مشاعرهم وردود فعلهم المتشككة في أقوالي، وما بدا على وجوههم من عدم الفهم، أو ربما الإنكار لما أقوله، أو عدم التصديق، ألقى علي موجة من الخيبة والإحباط أطفأت كل شعور بالفرح داخلي، وكأنهم قد ألقوا دلواً من الماء على جذوة مشتعلة الاتقاد. رحت فيما بيني وبين نفسي أشتمهم بكل جوارحي وأتمنى لو استطعت أن أصفع وجوههم وأعناقهم بكل ما أملك من القوة، وأن أعذبهم حتى أنال منهم على الأقل كلمة شكر كنت أعتقد أنني أستحقها بكل جدارة. حاولت فيما بيني وبين نفسي، بعد ذلك، أن ألتمس لهم العذر في شكوكهم، فالصورة الشعاعية لا تعني شيئاً بالنسبة لهم، وكذلك الإشارات والدلالات التي حصلت عليها خلال القصة المرضية لتحديد مصدر الدم غير مهمة بالنسبة لهم، ولا يدركون أهميتها مثلي، وأنا أقدم لهم تفسيراً مختلفاً عن الأطباء السابقين، ولكنني بالنسبة لهم لست سوى طبيباً آخر. وهكذا أقنعت نفسي بأنني إذا كنت لم أنل من الشكر والتقدير ما أعتقد أنني استحقه من هذه المريضة بالذات، فإن ما يمنحني إياه الكثير من المرضى من الشكر والاحترام والتقدير بأضعاف ما أستحقه منهم، يشكل تعويضاً مناسباً عما تبخل به علي هذه المريضة وأخواها. وكذلك فإن الرعاية الطبية ذات الكفاءة المهنية والأخلاقية التي أبذلها لمرضاي، هي بحد ذاتها مصدر للسعادة والرضى، ومعين خصب ليس له قرار. تمالكت مشاعري ولساني وكتبت الوصفة، وقلت لهم أنها يجب أن تستخدم العلاج لمدة شهرين، وأن تعود بعد ذلك لإعادة الكشف والفحص وللتأكد من أن كل شيء يسير على مايرام، فتسلموا مني الوصفة بدون حماس، وراحوا يتساءلون ما الذي يجب عليها أن تحتمي منه من الطعام. وكنت أحس حينئذ بواجب الانتقام، فقلت لهم أنه ليس عليها أن تحتمي من أي طعام، وأن تأكل كل ماتريده، وألا تمتنع عن شيء ترغب نفسها فيه وتشتهيه. واستغربوا جميعا عدم وصف حمية غذائية مناسبة، وأبدوا دهشتهم واستنكارهم، مؤكدين أن الأطباء السابقين قد وصفوا لها حميات عديدة، ولكنني صممت على موقفي وأكدت لهم بحزم وإصرار عدم حاجتها إلى أي حمية غذائية على الإطلاق. وبعد خروجهم من مكتبي أعدت التفكير، فوجدت أن ماقمت به من عدم فرض أي حمية عليها، هو أمر صحيح من الناحية العلمية والمهنية، ولكنني كنت قد قررت ذلك على سبيل الانتقام لجحودهم ونكرانهم. وضحكت أخيراً، قائلاً بيني وبين نفسي أن الطبيب حتى عندما يقرر الانتقام، فإن انتقامه يبدو ساذجاً، ولكن الأمر الأهم أنه متوافق مع الواجبات المهنية والأخلاقية مهما اشتد به الغيظ والحنق. وكانت هذه الحقيقة التي اكتشفتها لأول مرة، والتي أثبتت لي أن الطبيب لا يقدر أن يخرج عن طبيعته، ولا أن يخالف واجبات مهنته، مصدراً آخر للسعادة والرضا في نفسي بث فيها جواً من الهدوء والطمأنينة. وبعد شهرين، عاد الثلاثة إلي، المريضة وأخواها، وأبدوا من مشاعر الشكر والعرفان مالم أتوقعه، وكانت سعادتهم ظاهرة على وجوههم تماماً، وحين سلمت قصاصات إعادة الكشف والفحص حتى يتم التأكد من مدى التحسن الذي حدث بطريقة موضوعية، سألني أحد أخويها بمكر ساذج، أو بسذاجة ماكرة : “ هل الفحص والكشف مجاناً مثل المرة السابقة يادكتور؟”. تراكم الحنق والغيظ بداخلي للحظات، ولكنني أدركت المفارقة في الموضوع وقررت التحول إلى الفكاهة الساخرة، كأسلم طريق لتفريغ شحنة الغيظ التي ملأتني، فقلت له : “والله.. إذا أردت أن يكون ذلك مجاناً فأنا على استعداد.. ولكنني أتذكر مثلاً يمنياً يقول : “ لو صاحبك عسل..”، هل تعرف تكملة المثل؟!” فأجاب قبل أن يدرك مدى السخرية : “خلي منه وسل”، فاندفعت بالضحك بصوت عال، بينما أخوه يسحبه من ذراعه نحو الخارج، وهو يقول له : “ هيا.. هيا يا رجال.. عيب عليك.. خزيت بنا”.