أدرك الأطباء خلال السنوات الأخيرة، أن الأخطاء الطبية كثيرة الحدوث ولها أسبابها ومصادرها ومشاكلها ولذلك أصبح الأطباء يضعون الضوابط والقواعد في أعمالهم لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بالتقليل من حدوث الأخطاء إلى الحد الأدنى الممكن ولا أقول منع حدوثها بشكل كامل ومطلق، لانه فيما يبدو أن الخطأ والفشل هو جزء من الطبيعة الإنسانية ذاتها ولا يمكن تجاوزه على نحو مطلق بأي سبيل.. وقد ساد لدى الأطباء والمرضى والمجتمع بشكل عام خلال الحقب الأخيرة شعور بالتفوق والكمال، وان الممارسة الطبية قد أصبحت علماً مثل العلوم الطبيعية الفيزيائية والكيميائية، وليس هذا إلا وهماً عززته الوسائل التقنية الحديثة. ولكن الحقيقة البينة، هي ان الممارسة الطبية لا تزال مثلما كانت في الماضي علماً وفناً، يقوم في معظم مجالاته على درجات مختلفة من (عدم اليقين) وانعدام اليقين جزء أساسي من المهنة الطبية ومن ممارستها في جميع المجالات، يحاول الطبيب ان يتعايش معه وان يدرك كيفية مواجهته والتعامل معه بعيداً عن وهم التفوق والكمال. وتحدث الأخطاء الطبية كل يوم، حتى في الحالات العادية البسيطة خلال الأعمال الروتينية المعتادة في العمل العيادي الخاص، ويدرك الطبيب ذو الخبرة أن احتمال الخطأ وارد عليه ومحتمل الحدوث عند معاينة كل مريض ولذلك فانه يضع في ذهنه وفي أسلوب عمله القواعد الملزمة والضمانات التي تكفل عدم حدوث الأخطاء أو على الأقل ان يبذل كل ما في وسعه للتقليل من الأخطاء إلى الحد الأدنى. (والاخطاء الإدراكية) واحدة من بين أسباب الأخطاء الطبية الشائعة وهي تلك التي تنشأ عن عمليات التفكير داخل عقل الطبيب نفسه ولا علاقة لها عادة بالمريض ولا بجمع البيانات من خلال القصة المرضية والفحص الحكمي والاستقصاءات المختبرية والتصويرية. وهناك عدة أنواع من هذه الأخطاء الإدراكية،ولكن أهم نوع منها هو ما ينشأ عن التحيزات المسبقة التي تقوم في ذهن الطبيب، مثل القبول الأعمى للتشخيص الذي حدده الأطباء السابقون،أو وضع المريض داخل إطار النموذج الذي يستدعي التفكير بتشخيص معين،ويستبعد تشخيصات أخرى. فعلى سبيل المثال يمكن للطبيب أن يستبعد من تفكيره مسبقاً احتمال النوبة القلبية لدى مريض يشكو من ألم شديد في الصدر لأنه في السابعة والثلاثين من عمره،نحيل البنية، يمارس الرياضة بانتظام،ولا يدخن السجائر وليس لديه أي عوامل أخرى مؤهبة للإصابة بأمراض الشرايين التاجية. والخطأ الذي وقعت فيه اليوم هو من هذا النوع من التحيزات المسبقة التي استسلمت فيها للانقياد الأعمى وراء تشخيص الربو القصبي دون تفكير، ووضعت المريضة كذلك بدون أي دليل، داخل إطار النموذج الخاص من مرضى الربو في بلادنا الذين يتخوفون ويرفضون العلاج بالأدوية عن طريق الاستنشاق.
كانت مريضتي في الخمسين من عمرها تقريباً، ربة بيت ولديها تسعة من الأبناء والبنات وآخرهم في العاشرة من العمر، ولم تكن قد عانت من أي أعراض سابقة سوى ضيق التنفس الذي بدأ يحدث لها منذ حوالي شهرين،وقام ابنها الذي كان يرافقها بوضع كيس من العلاجات على سطح مكتبي وصفت من قبل طبيبين آخرين، وتحتوي على الأدوية الفموية للربو القصبي مع المضادات الحيوية وأنواع من شراب السعال. وقدرت أن المريضة لابد أن تكون قد رفضت التداوي بالأدوية عن طريق الاستنشاق "البخاخ"،أو أن الأطباء الذين تعاينت لديهم لم يعرضوا عليها ذلك، ولم يحاولوا إقناعها بأهميته، وكنت مدركاً مدى الصعوبات التي أواجهها في إقناع هؤلاء المرضى بالعلاج عن طريق الاستنشاق بسبب الاعتقادات الشائعة بين الناس بأنها أدوية خطيرة،وأن المريض يدمن عليها، وأنه لايقدر بعد ذلك الاستغناء عنها، ولا يتنفس بشكل طبيعي إلا بواسطتها، وبعضهم يعتقد أنها مثل الأكسجين الذي لايعطي إلا للحالات الخطيرة في المستشفيات. ويتطلب مني إقناع مثل هؤلاء المرضى والشرح والتفسير وإعطاؤهم التعليمات لكيفية الاستنشاق الصحيح للدواء، لكي يصبح فعالاً، وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً، مما دفعني في محاولة لتوفير الوقت اللازم لذلك، بأن أهمل تناول القصة المرضية والفحص الحكمي، الذي أجريته بسرعة وبدون اهتمام حقيقي من أجل عدم تضييع الوقت. واعتقدت حينئذ أنني قد أدركت جوهر مشكلة المريضة، وانسقت في التشخيص للحالة وراء زملائي السابقين،الذين قدرت أنهم قد وضعوا التشخيص الصحيح، ولكنهم أخفقوا في بذل الجهد الضروري لتقديم العلاج الصحيح، وهذا ما سوف أقوم به شرحت للمريضة أهمية العلاج بالاستنشاق وطريقته، واقتنعت بالأمر، ووصفت لها العلاج وحددت لها موعداً للمراجعة بعد أسبوعين، وكنت سعيداً بأنني لم أهدر الكثير من الوقت معها، حتى لا يتراكم المرضى الذين ينتظرون أدوارهم ويبدأون في الشكوى والتبرم والانفعال. وعندما عادت إلي بعد أسبوعين، كانت أسوأ حالاً مما كانت عليه في المرة السابقة وضيق التنفس واضح عليها،وقالت أن العلاج لم يحسن من حالتها على الإطلاق على الرغم من التزامها بكل التعليمات، وأن النوبات تتزايد عليها خلال الليل وتحرمها من النوم. وعلى الرغم من أنني أضع لنفسي قواعد صارمة في التعامل مع جميع الحالات التي لا تسير بالشكل المتوقع، وفي العادة فإنني أبدأ مع المريض من جديد بذهنية جديدة وتفكير جديد، وأدقق في التفاصيل، وأضع تشخيصي السابق جانباً، وأبدأ بوضع احتمالات تشخيصية مختلفة، فإنني في هذه الحالة لم أفعل ذلك، وقمت بمعاينتها بسرعة مثلما فعلت في المرة السابقة، وبدون أن أفكر مرة ثانية في التشخيص،وكان ما يدور في بالي هو أن أبدا لها العلاج بالحقن بالتسريب الوريدي للأدوية عن طريق المغذيات وأن أصف لها جرعة كبيرة من الكورتيزون، وهذا هو الحل الأخير الذي نلجأ إليه في علاج الحالات الربوية الشديدة التي لا تستجيب للعلاجات عن طريق الاستنشاق وعن طريق الفم. ولكن المريضة أنقذتني من الوقوع في الخطأ من جديد، حين قالت وهي تنتزع أنفاسها اللاهثة : " يادكتور.. ليش ماتعمل لي جهاز وكشافة وتخطيط قلب وفحوصات حتى تتأكد من المرض تمام..". وعلى الرغم من أنني قدرت أن النتائج لن تضيف شيئاً جديداً، إلا أنني وافقت على طلبها لإرضائها وإقناعها ولكي أمنحها الشعور بأن كل شيء قد أجري لها بما يوافق رغباتها ويلبي توقعاتها ويدخل الطمأنينة إلى نفسها. وبعد ساعة تقريباً انتقلت إلى غرفة الكشف بالأمواج فوق الصوتية، وبدأت بفحص صدرها، وما أن وضعت مولد الموجات فوق الصوتية على جانب القص الأيسر لتصوير القلب حتى كانت المفاجأة أمامي مذهلة ومخجلة. كان الأذين الأيسر للقلب متوسعاً بشكل عظيم، والصمام التاجي الذي يفصل الأذين الأيسر عن البطين الأيسر سميك ومتكلس ومتضيق بشكل شديد، وهي العلامات التقليدية الوصفية "لتضيق التاجي"، الذي يحدث عادة بسبب إصابة بالحمى الروماتيزمية (الرثوية) خلال صباها الباكر وشبابها. سألتها حينئذ ما إذا كانت قد علمت خلال السنوات السابقة بأن لديها تضيقاً في الصمام التاجي أو روماتيزم القلب، أو أنها قد تعبت أثناء الحمل والولادة من قبل، فقالت أنها لم تمرض سابقاً، وأنها أنجبت أبناءها في البيت، ولم تبدأ بالشعور بضيق التنفس إلا خلال الأشهر السابقة فقط. طلبت السماعة الطبية من ممرضتي، ووضعتها على الجانب الأيسر من صدرها، وعلى الرغم من طغيان الأصوات الصدرية على أصوات القلب، فإنني كنت قادراً على تمييز النفخة القلبية المبربرة العالية التي تميز إصابة الصمام التاجي بالتضيق الشديد. وكان هذا هو الموقف الثاني المخجل الذي أصابني خلال لحظات، فعلى الرغم من أنني كنت أعتبر نفسي خبيراً متمرساً في الإنصات إلى الأصوات القلبية المختلفة والنفخات التي تميز الكثير من الأمراض القلبية، فإنني أدركت في تلك اللحظة أنني في المرتين السابقتين، التي عاينت فيها المريضة لم أنصت للأصوات القلبية أصلاً ولم أضعها في مركز اهتمامي أبداً، وطغت على تفكيري تحيزاتي المسبقة فأنصت إلى الأصوات الصدرية، وأهملت كلية الإنصات إلى أصوات القلب. وأظهر كشف الصدر الشعاعي تجمع السوائل داخل الرئتين أي الوذمة الرئوية بشكلها النموذجي الذي يصفه أطباء الأشعة بمظهر جناحي الخفاش. وأصبح واضحاً أخيراً أمامي بشكل واضح، أن المريضة كانت تعاني مما يعرف بالربو القلبي الناتج عن تضيق شديد في الصمام التاجي للقلب، وليس مثلما افترضت سابقاً بأنه الربو القصبي الناتج عن تحسس في الغشاء المخاطي للقصبات الهوائية. وعلى الرغم من أن التفريق التشخيصي بين الربو القصبي والربو القلبي مهمة أساسية يجب على الطبيب القيام بها عند معاينة أي مريض يتقدم بعسر التنفس، فإنني قد أهملت الأمر كلية مما أدى إلى وقوعي في هذا الخطأ المخجل. كنت ممتناً وشاكراً في قلبي للمريضة، التي دفعتني إلى إجراء الفحوصات والكشوفات، التي مكنتني من استدراك الخطأ التشخيصي الذي وقعت فيه في الوقت المناسب قبل أن يحدث لها ضرر كبير، سوى تأخير التشخيص الصحيح لمدة أسبوعين. حمدت الله على أنني قد استطعت استدراك الخطأ في الوقت المناسب لدى هذه المريضة، ثم طافت على تفكيري غيمة كبيرة ظلت تطبق عليه لفترة طويلة : " ترى كم من المرضى الذين أعاينهم يفوتني فيهم التشخيص الصحيح؟... وماهو مصير هؤلاء الذين أخطئ في تشخيصهم ولا يعودون.." الله وحده أعلم.