الجمال سمة بارزة من سمات هذا الوجود، إن لم تكن أبرز سماته، والكون الواسع مملوء بهذا الجمال: الأرض بما فيها من وديان وجبال، ومحيطات وبحار، وجداول وأنهار، هذه النقطة من الظلل المتلألئة في ضوء الشمس، هذا البرعم المتفتح تنطلق منه الحياة، هذه الورقة النابتة كالطفلة الوديعة تهتز للنسمة الخافقة...وينقسم الجمال إلى قسمين ظاهر وباطن وسأفصل القول في القسم الأول(فالظاهر) وهو زينة خص الله بها بعض الصور عن بعض، وهي من زيادة الخلق التي قال الله تعالى فيها: {يزيد في الخلق مايشاء} سورة فاطر :1..فقالوا هو الصوت الحسن، والصورة الحسنة والقلوب المطبوعة على محبته ...كما هي مفطورة على استحسانه وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله جميل يحب الجمال” صحيح مسلم ص 91ومابعدها. ولما كان الجمال من حيث هو محبوب للنفوس، معظماً في القلوب، لم يبعث الله نبياً إلا جميل الصورة ، حسن الوجه، كريم الحسب، حسن الصوت، كذا قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أجمل خلق الله وأحسنهم وجهاً كما قال البراء بن عازب رضي الله عنه وقد سُئل : أكان وجه رسول الله مثل السيف؟ قال:لا بل مثل القمر ..صحيح البخاري وقال ربيعة الجرشي: قسم الحسن نصفين: فبين سارة ويوسف نصف الحسن، ونصف الحسن بين سائر الناس, وكان مصعب بن الزبير كما جاء في التراث من أجمل الناس، وكان يحسد على جماله، فبينما هو يخطب يوماً إذ دخل عليه ابن جودان من ناحية الأزد، وكان جميلاً ، فأعرض بوجهه عن تلك الناحية إلى ناحية أخرى، فدخل ابن حمران من تلك الناحية، وكان جميلاً فرمى ببصره إلى مؤخرة المسجد، فدخل الحسن البصري، وكان من أجمل الناس، فنزل مصعب عن المنبر. وقال الزبير بن بكار (صاحب كتاب الموفقيات): “ حدثنا مصعب الزبيري حدثنا عبد الرحمن بن أبي الحسن قال: خرج أبو حازم يرمي الجمار ومعه قوم متعبدون، وهو يكلمهم ،ويحدثهم ، ويقص عليهم، فبينما هو يمشي وهم معه، إذ نظر إلى فتاة مستترة بخمارها، ترمي الناس بطرفها يمنة ويسرة، وقد شغلت الناس وهم ينظرون إليها مبهوتين (مندهشين)، وقد ضبط بعضهم ببعض في الطريق، فرآها أبو حازم ، فقال: يا هذه اتق الله فإنك في مشعر من مشاعر الله عظيم، وقد فتنت الناس، فاضربي بخمارك على جيبك، فإن الله عز وجل يقول {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} سورة النور: 31 فأقبلت تضحك من كلامه ، وقالت إني والله: من اللائي لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البريء المغفلا وقال الأصمعي ( عبدالملك بن قريب): كنت في بعض مياه العرب، فسمعت الناس يقولون: قد جاءت قد جاءت، فتحول الناس فقمت معهم فإذا جارية قد وردت الماء، ما رأيت مثلها قط في حسن وجهها وتمام خلقها فلما رأت تشوف (إطالة النظر) الناس إليها أرسلت برقعها، فكأنه غمامة غطت شمشاً، فقلت : لم تمنعينا النظر إلى وجهك هذا الحسن ؟؟! فأنشأت تقول: وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ ونظر إليها أعرابي فقال: أنا والله ممن قل صبره ، ثم قال: أوحشية العينين أين لك الأهل أبالحزن حلوا أن محلهم السهل وأية أرضٍ أخرجتك فإنني أراك من الفردوس إن فتش الأصل قفي خبرينا ما طعمت وما الذي شربت ومن أين استقل بك الرحلُ تناهيت حسناً في النساء فإن يكن لبدر الدجى نسل فأنت له نسل ويجدر بنا الآن أن ننتقل إلى القسم الثاني من أقسام الجمال ولن أطيل الحديث في هذا الجانب خشية الإملال أو إرهاق القارىء الكريم بكل ما يتعلق (بالجمال الباطن) ولعل المقصود بالجمال الباطن: هو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة، وهو محل نظر الله من عبده وموضع محبته، كما جاء في الحديث الصحيح: “ إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم “صحيح مسلم. وهذا الجمال يزين الصورة الظاهرة وإن لم تكن ذات جمال، فتكسو صاحبها من الجمال والمهابة بحسب ما اكتست روحه من تلك الصفات. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى جمال الباطن بجمال الظاهر كما قال جرير بن عبدالله وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسميه يوسف هذا الأمة، قال: قال فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم “أنت أمرىء قد حسن الله خلقك فأحسن خُلقك” وقال بعض الحكماء: ينبغي للعبد أن ينظر كل يوم في المرآة، فإن رأى صورته حسنة لم يشنها بقبيح فعله، وإن رآها قبيحة لم يجمع بين قبح الصورة وقبح الفعل.