1– مقدمة : لا يكتب كاتب لنفسه بل لإيصال فكرة أو إحساس أو قضية ما إلى المتلقي ، أو مزيج منهم معا ، وطبقاً لهذا التفسير يعد العمل الأدبي جسراً وحوارا بين المبدع والمتلقي يتوسل فيه الأديب بأدواته الفنية لإيصال تلك المعاني ، ويتلقى العمل القارئ والسامع يتفاعل معه ويتجاوب بحيث ينتقل به إلى آفاق ومشاعر وتجربة جديدة يرى فيها نفسه ويسمع خطرات قلبه ويدرس ويتأمل حول قضايا مجتمعه ، وطبعاً من المفترض أن يتم هذا التمازج والحوار الحار الخصب بين المبدع والمتلقي ، ويفترض أيضا حينها أن الأثر الجمالي للعمل الأدبي يكون وثيق الصلة بنفوسنا وحركتها ، وبعواطفنا وانفعالها ، وبأفكارنا ونموها ، وبأرواحنا وسموها .. وهنا نقول للأديب ليس هدفك إفراغ شحنتك النفسية دون تحقيق المردود الإيجابي للمبدع نفسه بداية بمعايشة تجربته وصب تلك التجربة الشعورية إلي واقع فني يحياه المتلقي مرة ثانية من منظور وشخصية الكاتب ، إذ يفترض فى العمل الأدبي أن يحرك بداخلنا البحيرات الراكدة فترحل الأفكار والأفعال إلي مواقف جديده وأفاق وعوالم اكثر حيوية ودفئا ، لنتفيئ ظلال أصعدة جديدة تمور بالحركة والنفع والتطلع ، وليست متعة المتلقي المجردة والساكنة والمنطوية إلا منتجة لذلك النمط الوجداني الذي يعشق الانطواء والعزلة وأحلام اليقظة العليلة ، يقول شاعر المهجر ( جبران خليل جبران ) : “ من يبيعني فكرا جميلا بقنطار من الذهب ومن يأخذ قبضة من الجواهر بدقيقة محبة ، ومن يعطيني عينا ترى الجمال ويأخذ خزائني». وتلك الورقة المقدمة بين يد حضراتكم إنما هي مجرد قراءات وخواطر من قارئ محب للأدب والثقافة بحيث تكون مفتتحا لقضية نرجو إثارتها والتفاعل معها وتلقي الرؤى والأفكار حولها بل لتحقيق هدفا أصيلا من أهداف الأدب ، وإثراء الحوار الأدبي بمزيد من إمتاع الأفكار والأفهام من روضة الآداب الغناء . وكان قد ذكر القاص : طارق رفاعي أن العمل الأدبي إذا نشره الأديب على الناس اصبح في حوزتهم فلهم الحق حينها في تناول مدلولاته وطرح الآراء والرؤى حوله ومناقشة الكاتب فيها ، وعليه أن يكون مستعدا لتلقي تلك الآراء والرؤى في عملية متصلة ( ذهاب – إياب ) تشكل بحق جسر الكلمات بين الأديب وجمهوره . 2– مكونات العملية الابداعية : الأمر ذو صلة وثيقة بعلم الاتصالات من حيث أن هناك مكونات للعملية الإبداعية لها آلياتها ووسائطها الخاصة ، بداية نتناول في إيجاز مكونات العملية الإبداعية تقول الكاتبة : صباح فاروق كيالى تقول : “ هي رؤية داخلية للعملية الإبداعية ذاتها لتشمل المكونات الآتية : المرسل, الرسالة, المستقبل أما المرسل والمستقبل فهما عنصران في المجتمع ، والرسالة بينهما عبارة عن خطاب موجه من المرسل إلى المستقبل، وتسعى إلى إقامة نوع من التواصل بينهما - وهو ما أشرنا إليه ببناء جسر الكلمات – فالمرسل يريد أن يقدم فكرة أو وجهة نظر معينة، وهذا ما يشكل رسالة أو خطابا ً، أما المستقبل فهو يتلقى هذه الرسالة كما يفهمها هو من النص، وهذا تأويل للخطاب أو قراءة له» - ومن هنا ظهرت مفاهيم “ تأويل النص الأدبي» ، و” إعادة انتاج العمل الأدبي من خلال قراءة المتلقي “ - وبهذا يتكون الخطاب - بحسب رأي المفكر محمد عابد الجابري - من جانبين: ما يقوله المرسل، وما يدركه المستقبل “ ( 1 ) وتعيد الكاتبة سر أزمتنا الثقافية بشكل عام ، والكتاب العرب بشكل خاص إلى جملة من العيوب تعاني منها مكونات العملية الإبداعية الثلاثة ،» فالمرسل: هو مصدر الرسالة وصانعها, وهو الكاتب الذي يرسل الرسالة اللغوية إلى القارئ أو السامع ، ولهذا.. فإن عليه أن يتمثل - في إبداعه - ثقافة مجتمعه, وأن يصوغها بأسلوب يعبر فيه عن نفسه ضمن إطار المجتمع الذي يعيش فيه، ومن المفترض أن يرتقي بذوق المتلقي من خلال اللغة والفكر “ وذلك جميعه باستخدام اللغة ( كشفرة مشتركة من خلال نظام اللغة ) ، وتتابع الكاتبة حديثها : “ الرسالة - أياً كان نوعها – تقوم بدور الوسيط بين طرفي العملية الإبداعية ، فعن طريقها يتعرف المتلقي على المبدع ، ومن خلالها يصل المبدع إلى المتلقي. لذا, فإن أهم شرط يجب أن يتوافر في الرسالة هو الوضوح والقدرة على الإيصال. فإذا كانت لغة الرسالة أو أسلوبها أو مضمونها لا يمتح من ثقافة المجتمع الذي ولدت فيه ، أو كانت لا تتوجه بالخطاب إلى المتلقي بالشكل المتعارف عليه ، فإنها سوف تفقد دورها ، وبالتالي فإنها ستؤدي إلى القطيعة بين الطرفين» ( 2 ) وتلك هي مشكلة بحثنا بالاستدلال حول وجوب تضمين الرسالة الأدبية القدر المناسب من الإفادة والإمتاع بحيث يستفيد منها المتلقي استفادة حقيقية ويتفاعل معها وينتقل عبرها إلي أفاق ومواقف وأفكار جديدة . وتقول أيضا : “ أن هناك الكثير من المخاطر التي تحيط بالعملية الإبداعية ، كقلة الانتشار, وصعوبة النشر, والأمية وعزوف المواطن العربي عن القراءة, وغياب النقد الجاد» ( 3 ) وجميع تلك العناصر تؤثر بشكل جوهري على الاحتفاء بالأعمال الأدبية والاستعداد لتلقيها وبذل الجهد لفهمها والوقوف على كنوزها ، ونعرض ( بعون الله تعالى ) في إيجاز بعض مشكلات وقضايا الإيصال وفهم العمل الأدبي بين المبدع والقارئ كما يلي : 3– إشكالية المبدع ومنابع ثقافته الأصيلة : اشرنا سابقا إلي مكونات العملية الإبداعية وأن احدها هو المبدع العربي نفسه وقد أشارت الكاتبة صباح فاروق كيالي إلى أن “ المبدع العربي عامة يعاني أزمة خانقة, قد يعي أسبابها فيعمل على تدارك مواطن الخطأ في إبداعه, وقد لا يعيها فيبقى قلقاً حائراً, ناقماً على مجتمعه, وبالتالي فإنه يغدو منبوذاً من قبل القارئ. أما أسباب أزمته فكثيرة, وعلى رأسها: أن كثيراً من مبدعينا الذين يعانون ابتعاد المتلقي عنهم, نشأوا في بيئة ثقافية معينة, واستخدموا لغتها في التعبير عن مواقفهم النابعة من ثقافة أخرى, في الوقت الذي ابتعدوا فيه كلياً أو جزئياً عن التعبير عن مشكلات مجتمعهم, فهم لم يكتبوا له, ولم يكتبوا عنه. لذلك, فإن كثيراً من خطاباتهم جاءت غريبة عن طبيعة مجتمعهم وعن طبيعة المتلقي لدرجة أن نتاجهم بات بحاجة إلى ترجمة وليس إلى قراءة, والترجمة عملية صعبة قد لا يتقنها معظم جمهور القراء .... وبذلك أصبح اختلاف الرؤية بين المبدع والمتلقي يعد أحد أهم الأسباب التي باعدت بين قطبي العملية الإبداعية ( المرسل – المستقبل) ، ولعلنا لا نغالي إذا قلنا: إن المبدع - على اختلاف مجالات الإبداع - رسول بمعنى من المعاني. فالحضارات لا تقوم إلا على أكتاف أبنائها من المبدعين» ( 4 ) ، ورغم إيماننا بأهمية الاستفادة من التراث الإنساني المشترك والاقتباس الدائب من إضافات الحضارة المعاصرة نرى أن ذلك يتم في إطار خطة مناسبة للاقتباس والتأثر ورعاية الخصوصية الثقافية حفاظا على الهوية والشخصية القومية ولا يصبح الأمر مجرد طمس كامل لمعالمها لتصبح مجرد ظلالا باهتة وصدى أجوف لشخصية أخرى . 4 - المتلقي ودوره فى فهم العمل الأدبي : والعنصر الثاني في العملية الإبداعية ( المتلقي ) ولا شك أن المتلقي وهو مستقبل الرسالة ممثلة في العمل الأدبي و له دوره الهام في تفسيره والتفاعل معه وبداية نتفق جميعا انه لا يمكن أن يتفق الجميع في رأى وحيد يقول أفلاطون : “ إن الحق لم يصبه الناس في كل وجوهه ولا أخطاؤه في كل وجوهه بل أصاب كل إنسان جهة» ( 5 ) ، فلا شك أن خلفية المتلقي النفسية والثقافية والاجتماعية تؤثر بوضوح على تلقي العمل الأدبي ، يقول ( اسبينورا ) : “ إن الرغبة هي التي ترينا الأشياء مليحة ، لا بصيرتنا “ ( 6 ) ، وقال ( وليم جيمس ) : “إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ التصادم بين الأمزجة البشرية ، وهذا الاختلاف بين الأمزجة له أيضا شانه في ميدان الأدب والفن والحكمة» ( 7 ) ، فاختلاف المدارك وطبائع العقول يؤثر في حالة تلقي العمل الأدبي فاستقبال العقل الشاعري الذي تؤثر فيه العاطفة يختلف بالطبع عن تلقي العقل الرياضي الذي يقوم بربط الأسباب بالنتائج ربطا وثيقا محكما ، وهنا تظهر وجهة أخرى وهي أهمية عمل الأدباء بخاصة على الارتقاء بالذائقة الأدبية لجمهور القارئين من خلال إنشاء آثارهم الأدبية ومنتوجاتهم الفكرية والإبداعية بحيث تكون ذات مستوى يرقى عن الإسفاف والسطحية بما يعمل على تشكيل فكر وإنضاج وجدان القارئين . إذا على مستوى طبائع الأمور ومواردها العامة ، أما على المستوى العام فيذكر احد الكتاب : “ وفي اعتقادنا أن أهم عامل يشكل أزمة التلقي هو ارتفاع نسبة الأمية في الوطن العربي, حيث الأمية الأبجدية والعجز الكلي أو الجزئي عن القيام بعمليتي القراءة والكتابة. هذا إلى جانب الأمية الثقافية التي عملت على توسيع الهوة بين الإنسان العربي والمطبوع بشكل عام.، ثم إن المستوى الثقافي بين جمهور المتلقين يختلف بحسب الواقع الاقتصادي لكل منهم. فانشغال المواطن العربي بالهموم اليومية, وسعيه اللاهث وراء لقمة العيش ما عاد يمكنه من أن يجد متسعاً من الوقت للقراءة. وعلى الرغم من ذلك, ونظراً لأن الثقافة حاجة إنسانية, فإنه يحاول أن يجد متنفساً يطل من خلاله على عوالم الثقافة ودنيا الإبداع. إلا أنه يصطدم - غالباً - بصعوبة الخطاب, وضبابية الفكرة التي يعبر عنها المبدع, فيرتد إلى ذاته معايناً حالة نكوص تؤدي به إلى العزلة الثقافية ... ومع مرور الوقت يفقد آليات التذوق الفكري والفني, فيهجر أشكال الخطاب الراقية متوجهاً إلى أبسطها وأكثرها جذباً وتشويقاً ألا وهي وسائل الإعلام الحديثة. وهذه الأخيرة تعمل منذ زمن على مزاحمة الكتاب والمطبوع, لتحل محل الثقافة المنظمة ثقافة عابثة ساذجة تستثير المتلقي بأساليب مبهرة إن دراسة التلقي الفني يجب أن تصبح عنصراً مكوناً في عملية الكشف عن قوانين الفن ووظائفه ودوره في الماضي والحاضر, وفي اكتشاف اهتمامات المتلقين وأذواقهم وحاجاتهم وفي رفع سوية تلقيهم للنصوص الإبداعية” ( 8 ) . 5 - الرمزية المستغرقة الى الغموض : وقد يكون من أهم أسباب اختلاف الرؤى حول العمل الأدبي غموضه ووقوعه في دائرة الإغراب واشتماله على استبطان الأديب لذاته واستغراقه فيها ، وبداية نشير إلى المذهب الرمزي في الأدب ( والذي يشتمل فيه العمل الأدبي على لونين من المستوى في المعنى وهما مستوى العالم الواقعي ومستوى عالم ما وراء الواقع وازدواجية المعنى ... ونجد فيه التحرر من السرد والاتجاه إلي التدليل العميق والأسلوب المركز الموحى » ( 9 ) ، وبالتالي يعاهد المتلقي عملا أدبيا له معنا ظاهرا ومعنا باطنا يذكر د . مصطفى عمر في تعليقه على المدرسة الرمزية : «فأنصار الرمزية يرون أن عالم المادة إنما هو صور زائفة ولجأوا إلى الرمز فكفى ما عاناه المجتمع من عالم الماديات وأنكروا أن تكون الماديات مصدر الحقائق وآمنوا بداخل الأشياء فاستبطنوا ذواتهم وأنكروا الظواهر المادية كصور محسوسة في المجتمع لذلك كانت خاصيتهم الأولى “ الإيحاء والإلهام “ وعدم التميز بين العالم الداخلي والخارجي ورؤا أن كل لون من الألوان الأدبية يحمل مدلولين من المعاني مدلولا داخليا كشف عن أعماق الصورة ومدلولا خارجيا ينقل إلينا صورة ناطقة لواقع وأنكروا أي عمل أدبي لا يحمل هذين المدلولين واعتبروه ضربا ناقصا من ضروب الفن ولم يكتمل نضجه ولكنهم نظروا للعالم من خلال رؤيتهم فقط فجاءت غامضة لا وضوح فيها ، وكان الإيحاء وسيلتهم في الكتابة فالكلمة رمز لمدلول بعيد بالتالي اللفظ يجب أن يوضع في مكانه بما يحدث من جرس يؤدى إلى متعة ولذة ولذلك غمرت أعمالهم الروح الشعرية حتى في قصصهم ورواياتهم النثرية والاقتراب أيضا إلى الموسيقى والخيالات التي تشبه الأحلام والاهتمام الصور الميتافيزيقية والهيام في الأجواء الغيبية» ( 10 ) . ولكن نجد أن الاستغراق في الرمز إلي حد الغموض لاقى انتقادا واسعا ، إذ ليس معنى الوضوح في العمل الأدبي وتيسير وصول مقصوده إلي فؤاد وعقل المتلقي ينفى عنه التكثيف الفني وأن يحمل بين طياته العديد من الدلالات والرمز الموحى المعبر إذ يرى البعض أن هذا الغموض ( والذي يبدو معه العمل الأدبي كالمعميات و الطلاسم الملغزة ) لا يمكن أن يكون معيارا للحداثة والتفرد الإبداعي ، إنما هو ثمرة مرة من ثمار التخمة المادية وطغيان الفردية والاستغراق الكامل في الاستبطان الداخلي دون أي فائدة مرتجاة للقارئ ، وترى الأستاذة سناء صليحة “ أن الرمزية المغرقة فى الغموض تحير القارئ وتفقده اهتمامه بالعمل وان استخدام الرمز يكون بالتوسل بان يكون واضحا جليا لا يغرق القارئ في متاهات بعيدة عن قضية الكاتب الحقيقية» ( 11 ) ولا شك أن الوضوح هو شاطئ الأمان الذي يأوي إليه الحائرون والتائهون في بيداء صحراء الحياة المحرقة المخيفة ، وليس شرطا للوضوح في العمل الأدبي ( كما ذكرنا ) أن يكون على حساب إهدار القيم الفنية في العمل ، فليس معنى الإبداع الغموض بحجة انه يتدفق من الوعي واللاوعي . ويبقى التساؤل: هل يكون الوضوح في العمل الأدبي لدرجة تحول أن يحمل اكثر من دلالة ؟ ، هذا ليس صحيحا فالتكثيف وان يشتمل الأثر الأدبي على اكثر من مستوى من الفهم والاستعانة بالرمز ليس معناه الإغراق في الغموض تذكر الكاتبة سناء صليحة : “ الفكرة في العمل الأدبي يمكن لها أن تمتزج في نسيج العمل جميعه وتتغلغل خلف الحدث من خلال الصورة والنسق التعبيري» ( 12 ) ، ويشير أحد الكتاب إلي هذا المعنى قائلا : “بعض الأدباء يسرفون في رموزهم بحيث يتحول العمل الأدبي إلي لغز كبير تحار فيه الأفهام ربما يكون من أهم عوامل نجاح العمل الفني أن يحتمل أكثر من تفسير ولكن أن تكون الرموز معقولة وعلى أن يكون للعمل الفني – إلي جانب الرمز – صورته البسيطة التي يستطيع أن يفهمها القارئ العادي» ( 13 )، ويلخص الكاتب الكبير / علي ادهم أسباباً متعددة وراء الغموض في الأعمال الأدبية قائلا : “ الغموض قد يكون مصدره الرغبة في التضليل والإدعاء أو محاولة ستر الأغراض المقصودة لتفاهتها وقلة غنائها أو الخوف من إذاعتها ، وقد يكون سببه قصور التعبير وعجز الأداء وعدم تمكن الناشئين من الفن الذي يعالجونه ، وقد يكون عمق الفكرة أو طرافتها أو تعصيها علي التعبير الواضح وتأبيها على المنطق المفهوم» ( 14 ) ، ويضيف : “ وظيفة اللغة هي توضيح الأفكار وليست إخفاء الأفكار كما يزعم بعض الساخرين» ( 15 ) .