إصابة شخصين برصاص مليشيا الحوثي في محافظة إب    الشيخ الأحمر: أكرمه الأمير سلطان فجازى المملكة بتخريب التعليم السعودي    قيادية بارزة تحريض الفتيات على التبرج في الضالع..اليك الحقيقة    مع استمرار الحوثيين بمنع اللقاحات.. أكثر من 50 ألف إصابة بالحصبة في اليمن خلال عام واحد    قبل شراء سلام زائف.. يجب حصول محافظات النفط على 50% من قيمة الإنتاج    غزو اليمن للجنوب.. جرائم لا تسقط من الذاكرة    الحكومة تدين اختطاف مليشيا الحوثي للصحفي العراسي على خلفية تناولاته لفضيحة المبيدات القاتلة    مجزرة مروعة في محافظة تعز واستشهاد 5 نساء بقصف حوثي على المدنيين    هل يُخفي البحر الأحمر مخططًا خطيرًا؟ القيادي المؤتمري ابوبكر القربي يُحذر!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    الدوري الالماني ... بايرن ميونيخ يحقق الفوز امام فرانكفورت    البريميرليج ... ليفربول يواصل السقوط    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    "نجل الزنداني" يكشف عن رسالة من ايران لأسرتهم ..ماذا جاء فيها    اختطاف خطيب مسجد في إب بسبب دعوته لإقامة صلاة الغائب على الشيخ الزنداني    فريق طبي سعودي يصل عدن لإقامة مخيم تطوعي في مستشفى الامير محمد بن سلمان    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    ارتفاع إصابات الكوليرا في اليمن إلى 18 ألف حالة    أسفر عن مقتل وإصابة 6 يمنيين.. اليمن يدين قصف حقل للغاز في كردستان العراق    استشاري سعودي يحذر من تناول أطعمة تزيد من احتمال حدوث جلطة القلب ويكشف البديل    مقاتلو المغرب على موعد مع التاريخ في "صالات الرياض الخضراء"    مركبة مرسيدس بنز ذاتية القيادة من المستوى 3    "نهائي عربي" في بطولة دوري أبطال أفريقيا    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    اليوم السبت : سيئون مع شبام والوحدة مع البرق في الدور الثاني للبطولة الرمضانية لكرة السلة لأندية حضرموت    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    ضبط المتهمين بقتل الطفل الهمداني في محافظة إب بعد تحول الجريمة إلى قضية رأي عام    لماذا يخوض الجميع في الكتابة عن الافلام والمسلسلات؟    جماعة الحوثي توجه تحذيرات للبنوك الخاصة بصنعاء من الأقدام على هذه الخطوة !    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    حادث مروع .. ارتطام دراجة نارية وسيارة ''هليوكس'' مسرعة بشاحنة ومقتل وإصابة كافة الركاب    بعد القبض على الجناة.. الرواية الحوثية بشأن مقتل طفل في أحد فنادق إب    كان يرتدي ملابس الإحرام.. حادث مروري مروع ينهي حياة شاب يمني في مكة خلال ذهابه لأداء العمرة    عشرات الشهداء والجرحى في غارات إسرائيلية على وسط وجنوب قطاع غزة    السلفيون في وفاة الشيخ الزنداني    تعرف على آخر تحديث لأسعار صرف العملات في اليمن    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    رفض قاطع لقرارات حيدان بإعادة الصراع إلى شبوة    ما الذي كان يفعله "عبدالمجيد الزنداني" في آخر أيّامه    قوات دفاع شبوة تحبط عملية تهريب كمية من الاسلحة    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    ريال مدريد يقترب من التتويج بلقب الليغا    عاجل: إعلان أمريكي بإسقاط وتحطم ثلاث طائرات أمريكية من طراز " MQ-9 " قبالة سواحل اليمن    فرع العاب يجتمع برئاسة الاهدل    أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغموض في الشعر الحديث
نشر في الجمهورية يوم 06 - 06 - 2008


شعراء هذا اليوم جنس ثالث فالقول فوضى، والكلام ضباب
(نزار قباني)
إن ظاهرة الغموض أو الإبهام في الشعر الحديث واحدة من أعقد الظواهر التي يجابه بها القارئ في أثناء قراءته لقصيدة أو خاطرة شعرية أو أي جنس آخر من أجناس الأدب المتعارف على تصنيفه في أيامنا هذه. ولكن لنسأل أنفسنا أولاً: ما هو الأدب؟
يراد بكلمة أدب التهذيب والصقل والتمدن, والمقصود من التأديب في مصطلحات اللغات كافة أن يكون الإنسان مهذباً أو مؤدباً أو مثقفاً قد نشأ على العلم بفنون المعرفة والحكمة وجمع بين ثقافة الفكر والضمير, فمن فضائل الأدب أن يقوم اللسان ويهدي إلى أساليب التعبير عن حوائج النفس ومعاني الأفكار. وبناءً على ذلك فالأدب هو إيصال ما أكتبه إلى الآخر بأسلوب جمالي ينفذ إلى قلبه ووجدانه دون تعقيدات, والأدب الرفيع وحده يستوعب التجارب ويعبر عما تمليه بواعث الحياة التي تخاطب الفطرة الإنسانية وشتان بين كتابة تنبض بالحياة والمتعة وكتابة تعقدها وتقف عند مظاهر القشور والطلاء.
ولنتفق أولاً أن ما يدفع القارئ للقراءة دون شك هو الهواية, فليس من الإنصاف -والحال هذه- وضع العراقيل والعقابيل في طريقه لابتزاز حاجته إلى فعل القراءة.
ولكن من جهة أخرى ما الذي يدفع الشاعر إلى كتابة هذا النوع من الشعر أو كتابة الشعر على هذه الصورة؟ هل هو تشَّربه بثقافة غير تلك التي درج القارئ على قراءتها؟ هل هذا هو أسلوبه الوحيد لإيصال الفكرة إلى قارئه؟ وهل يعني هذا أنه يفتقد الأساليب المناسبة لإيصال تلك الفكرة؟ ما الذي يجعل الشاعر شاعراً في ظل افتقاره إلى أساليب إبداعية تعينه على إيصال المتعة والفكرة إلى القارئ؟!
سئل الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور ذات يوم : هل تقرأ لجيل الشباب؟ فأجاب: “نعم بكل تأكيد, ولكنني في بعض الأحيان أجد صعوبة في فهم ما يرمي إليه الشاعر وقد قرأت في إحدى المرات قصيدة لشاعر شاب فلم أفهمها ومعروف عني أنني أقرأ القصيدة لمرة واحدة فأردد غيباً أغلب أبياتها ولكن الذي حصل هذه المرة أنني لم أفهمها فأعدت قراءتها مرة أخرى لا بل مرات أخرى ولم أفهمها أيضاً فأدركت في النهاية أن العيب ليس فيّ أو في ذاكرتي ولكن العيب هو في كاتب هذه الكلمات المبهمة والمستعصية على الفهم “ ... وقد أطلق الشاعر الكبير حينها على هذا الصنف من الشعراء اسم “شعراء الأحاجي والألغاز”.
فإذا كان رجل في قامة صلاح عبد الصبور وتاريخه قد عانى من هذه المشكلة فكيف لا يعاني منها قارئ هاوٍ ينحصر كل همه في إشباع ذائقته الأدبية ؟‍‍‍‍‍
على أن هناك قامات أدبية باسقة كتبت أدباً واضحاً فهمه الناس, كتبت أدباً جميلاً فأحبه الناس وأحبوهم, لم يستعرضوا عضلاتهم على القارئ لأنهم كانوا أصحاب رسالات أدوها بكل ثقة وأمانة, وخلدهم التاريخ حتى أصبحت كتاباتهم مراجع ودراسات يستعين بها النقاد والدارسون والباحثون.
وقد نختلف بعض الأحيان حول الشكل أو المضمون مع هؤلاء الشعراء الذين نحن بصدد الإشادة بهم ولكن هل يجادل مجادل في موهبتهم أو يشكك في شاعريتهم؟
ولدينا شاعر كبير آخر هو نزار قباني كتب شعراً سهلاً سلساً يفهمه حتى أنصاف المثقفين وأشباههم ويتذوقه حتى النجار والحداد وباعة الخضروات ومع ذلك فقد جاء أدبه رائعاً رائقاً استساغته فئات وشرائح المجتمع كافة وكتب له الخلود بعد ذلك. اقرأ معي مثلاً كيف كان يتغنّى بدمشق فيصفها وصفاً تذوب له القلوب، وتستوعبه العقول، وتستنفر له كل الأحاسيس المرهَفَة، يقول:
قمرٌ دمشقيٌ يُسافرُ في دمي
وبلابلٌ.. وسنابلٌ.. وقِبَابُ
الفُلُّ يبدأ من دمشقَ بياضَهُ
وبِعِطرِها تتعطّرُ الأطيابُ
والماءُ يبدأُ من دمشقَ.. فحيثُما
أسندتَ رأسكَ، جَدولٌ ينسابُ
ويأتيك من الشعراء في أيامنا هذه من لا يتبرأ فقط من مدينته ولكن من ذاته نفسها فتجده تارة يشبه نفسه بالشجرة الوافرة على سجين أزرق وتارة بالبحيرة وتارة بالغياب, فقد كتب أحدهم قصيدة بعنوان “الأخضر” قال فيها:
أنا أخضر القبور.. علي زرق العصافير
ووحشة أختي
أنا الشجرة الوافرة على سجين أزرق
أنا البحيرة من يديك.. فتغرقين في الكآبة
اسمي الغياب
وفضتي الغرقى
ورسم شاعر آخر صورة قبيحة جداً للتاريخ:
“شهدوا أن التاريخ امرأة
صلعاء بعين واحدة
وبرأس مفتوق”
والآن ما الغموض في الشعر؟ ولماذا كتابة أدب يستعصي على الفهم؟ لماذا أقرأ قصيدة للمتنبي – وهو مالئ الدنيا وشاغل الناس – فأحفظها وأحللها وأركبّها وأفهمها جملةً وتفصيلاً؟ لماذا أفهم أدب نزار قباني وأتذوقه وأرتشفه حتى الثمالة وأحفظه حتى الوريد؟ ألا يستشهد الناس حتى يومنا هذا بحكم المتنبي وأمثاله؟ ألم يواكب أدب نزار قباني أجيالٌ تعلمت فنون العشق على يديه؟ ما الذي يرمي إليه هؤلاء الشعراء من وراء كتابتهم لشعر كهذا؟! ماذا يريدون أن يقولوا للقارئ؟ وما الذي ينتظرونه منه؟ هل يأملون منه أن يصفق لهم ويثني على هذه الكتابة الخارقة التي توهموا ساعة كتابتها أنها اكتشاف عظيم أو فتح مبين في عالم الشعر؟!
لا أدري لماذا يذكرني هذا ببعض آيات منسوبة إلى مسيلمة الملقب بالكذاب, إذ كان يقول لأتباعه إبان ادعائه النبوة :
“يا ضفدع ابنة ضفدعين, نقي كما تنقين, نصفك في الماء ونصفك في الطين فلا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين”.
وللأسف فما أقرؤه عن هذا النوع من الشعر يوظف بشكل غريب السريالي والرمزي والغرائبي والمخيالي دون أن يكون ملماً بأبسط قواعد ومبادئ هذه الفنون, فالتحديث الشعري ليس تزويقاً لفظياً أو شكلاً فضفاضاً وحسب.
ثم ما هي الأساليب الإبداعية والأنماط الشعرية التي اكتشفها وابتكرها لنا هذا الغموض المغرق في الظلمة؟! فالأدوات هشة وغير متماسكة دلالياً واللغة فقيرة وغير مشذبة حافلة بركاكة لفظية، فالغموض له حدود فنية إن تجاوزها تحولت معه تلك الكتابات إلى كتابات (مشفرة) أو طلاسم ضبابية تجعلك إما أن تتهم نفسك بالغباء ومن ثم تقوم بضرب رأسك بالحائط وشجها على أساس أنها كتلة لحم وعظم لا فائدة منها لفهم كلام مكتوب، فكتاب الله عز وجل وسنة رسوله وكتب الفقهاء والأئمة وعظماء الأدب حتى ولو كانت غامضة في بعض الأحيان إلا إننا بعد عدة محاولات نفهم ولو عشرة بالمائة مما كتب وأحياناً نفهم ما يراد قوله إجمالاً.!
يقول “وليد معماري”في “مماحكة تحت ظل الزيزفون”في العدد “987”من جريدة”الأسبوع الأدبي”في هذا الصدد:
“ويظن بعض كتاب قصيدة النثر، أن الأمر يتركز في رصف كلمات مبهمة إلى جانب كلمات أكثر إبهاماً.. في ممارسة تشبه الشعوذة، معتقدين أن القارئ سينظر إلى إبداعاتهم، على أنها العبقرية التي تفوق مستوى فهمه.. بينما بساطة الصياغة، وعمق الفكرة، وبكارتها، جعلت من محمد الماغوط ملكاً متوجاً لمثل هذا الفن... (كما هي الحال لدى الشاعر الأمريكي والت وايتمان، أول رواد قصيدة النثر)... وهو - أي الماغوط - عبر عن أوجاع منفاه، وتشرده، وجوعه، في ديوانه: غرفة بملايين الجدران.. صارخاً من بئر معاناته العميقة: “لقد نسيت شكل الملعقة.. وطعم الملح”!.. وست كلمات منه كانت كافية لرسم لوحة كثيفة التعبير”
والشاعر” قاسم حداد” مثلاً وهو الشاعر المطبوع ينسى في بعض الأحيان أن له قراءً سيفحصون شعره فيسرح بخياله بعيداً عنهم وكأن أمرهم لا يعنيه في شيء فيكتب ويسترسل ويستفيض في كتابة شعرٍ يقف قارئ مثلي حائراً أمام مراميه وأبعاده الخفية. ففي قصيدته (تاريخ ) يكتب:
الذين كانوا
كانوا...
وتنتهي القصيدة عند هذا الحد وبثلاث كلمات لا غير.!
ومن خلال طرحنا لظاهرة الغموض كعقبة في وجه الأدب لا نطلب من الشاعر أن يلجأ إلى الشرح والتفصيل والتكرار بشكل يؤدي إلى اهتراء ذلك الأدب وافتقاره للإثارة وإشارات اللغة والرمز والتكثيف والشاعرية فنحن نعيش الآن غربة أدبية قاتلة تجعلنا نفهم الحداثة بشكل خاطئ وكأنها نظرية مستعصية على الفهم بسبب ظاهرة الغموض هذه، فالحداثة حالة تجدد وتحول تصب أولاً وأخيراً في رفعة الأدب ورقيه ومنحه دلالات إبداعية معرفية.
ولكن الأمانة تفرض علينا ألا نتجاهل النماذج الجيدة على قلتها والتي كتبت في هذا المنحى بشكل واكب الحداثة مستوفياً شروطها وأركانها فأفرز أدباً جميلاً تقبله جميع العاملين في حقول الأدب وتذوقه القارئ مبدياً إعجابه بهذه المعادلة الجميلة والبناءة فنحن لا نطلب من الشاعر أن يدلي بأسراره ومفاتيح شعره من خلال معادلة الوضوح التي نطالبه بها، ففي هذه النقطة بالذات يمتلك الشاعر حق السير في هذا المنحى فله أن يراوغ مستعيناً بالغموض والرمز لطرح الفكرة وتقديم الصور والاستعارات الجميلة ناثراً شعره تلميحاً لا تصريحاً، فلسنا من دعاة التبسيط بل من دعاة البساطة.. البساطة في كتابة الكلمة المعبرة، والبساطة في نقل الواقع ولكن بكتابة معمقة مستوفية لكافة أركان وشروط الكتابة، وبالتالي بناء وتشييد نص إبداعي زاخر بما يخدم وظيفته في توصيل المبتغى إلى القارئ.
وإذا كان لا بد من هذا الغموض فيجب أن يكون غموضاً يشف عن دلالة بالتأمل لئلا تصبح الصورة لغزاً من الألغاز. إن الغموض لا يكتسب مشروعيته الشعرية إلا إذا دخل في علاقة مع مكونات الخطاب الشعري الأخرى. وما دامت القصيدة بناء متكاملا، فإن الغموض الدلالي ينبغي أن يكون في انسجام تام مع عناصر الشعر الأخرى.
ولكن لا يجب الخلط بين الغموض والإبهام لأن الأخير يلغي مسافات التفاعل بين النص والواقع وبين الشاعر والمتلقي، ومرد الإبهام إلى اضطراب في الفكرة وتشويش في الرؤيا، بينما الغموض على العكس من ذلك, وهذا الخلط بينهما فتح المجال أمام المتطفلين على الشعر فظهرت أسماء كثيرة تدعي كتابة النص الحديث المسربل بالغموض دون أن تمتلك ذرة من موهبة أو إبداع.
هل يعقل أن نثقل كاهل القارئ بفك هذه الطلاسم ونلقي على كاهله الاستعانة بقواميس لفك هذه الأحاجي والألغاز؟ ليس القارئ مضطراً لقراءة مثل هذا الشعر وليس مضطراً فوق ذلك للاستعانة بمثل هذه القواميس لفك هذه الطلاسم.
إذاً فعلى من تقع المسؤولية؟!
تقع المسؤولية على الجميع نقاداً وباحثين ودارسين ومثقفين وذلك بسبب ندرة المحاضرات والندوات التثقيفية التي غابت عن الساحة ولا أدري لماذا فامتلأت بهذا الأدب الرديء وهذه الشرذمة من الأدعياء والمتطفلين على الأدب. أين المسؤولون عن هذا الأدب والذين يمنحونه جواز السفر إلى عالم الأدب الأرحب؟ أليس النقاد الذين يؤيدون هذا الأدب ويكرزون به هم من أوصلوه إلى هذه الركاكة الجوفاء؟ ثم من هؤلاء الذين يريدون فرض هذا النوع من الأدب الهابط على المتذوق بدعوى الحداثة؟
إن هذا الشعر لا يمت إلى الحداثة بصلة، فهو قد فرض لأسباب أيديولوجية لا أدبية وسوف تلفظه الساحة الثقافية عاجلاً أو آجلاً، وإذا ما ابتعد الأدب قليلاً عن المتلقي فالمسؤولية تقع على كاهل الأديب وليس على الأدب أو التجربة, فشاعرية الأدب ورسالته ترفضان فكرة الإبهام .
يقول العقاد في مطالعاته ص 18: “ لا فلاح لأمة لا تصحح فيها مقاييس الآداب ولا ينظر فيها إليها النظر الصائب القويم لأن الأمم التي تضل مقاييس آدابها تضل مقاييس حياتها والأمم التي لا تعرف الشعور مكتوباً مصوراً لا تعرفه محسوساً عاملاً “
فلا بد للأمة إذا أرادت الرقي أن تصحح مقياس كتابتها وشعرها لأن الأمم الحية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد هو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والجمال وإذا كان الشعر شعوراً بجوهر الأشياء والكشف عن لبها وصلة الحياة بها فإن الكتابة إبحار في جوهر المعاني وحقيقة الكائنات وسبر لحقائق الكون والوجود والبحث عن اللغز الأكبر لغز الإنسان والكون.
طالما كانت جدتي تبهرني بقصصها الجميلة وطريقة سردها لتلك القصص هي التي لم تبتدع أساليب وطرقاً لإيصال فكرتها إلى عقلي وقلبي وكانت “بساطة الكلام” هي كل ما تملكه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.