نحاور كثيراً من المثقفين , حول قضايا ثقافية وفكرية تشغلهم وتشغلنا , وننسى أن نحاور فيهم الإنسان , عن الميلاد والموت وما بينهما , وكيف تبدو لهم الحياة بمعزل عن تثقفهم , وعلى ما تبدو عليه هذه القضايا جدلية وفكرية, إلا أنني طلبت من الأستاذ فيصل سعيد فارع أن أحاور فيه الإنسان لا المثقف , وفشلت ..فكنت استدعي المثقف وأنا أعد الأسئلة ولعله كان يستدعيني, فحتى الإنسان البسيط هيهات أن يجيب عن أسئلة في الميلاد والموت وما بينهما , بمعزل عن إمعان تفكير وخلاصة تجارب حياتية وأثر من قراءات محدودة , فكيف هو الحال مع مثقف بحجم الأستاذ فيصل سعيد فارع ينبثق من ثقافته الواسعة وتجاربه الحياتية فكر متفلسف غير انطباعي أو موروث , فتعذر تجنب المثقف في الأسئلة و في الإجابات عنها, الا أن الإنسان ظل حاضراً في كليهما , فما دام الحديث عن الميلاد والموت , فلا بد من حضور الإنسان فكان هذا الحوار مع الأستاذ /فيصل سعيد فارع الإنسان والمثقف مدير عام مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة واليهما معاً أقدم شكري الجزيل . أولا : الميلاد هل يمكن اعتبار لحظة الميلاد أولى مراحل المعرفة؟ لا ، لأن العلم الحديث أثبت أن المعرفة تبدأ في المرحلة الجنينية ، وتتأتي من تلك المورثة بيولوجيا التي تشمل خصائص وطبيعة الإنسان الفيزيولوجية والجسمية ومن بينها القدرات الفكرية والانفعالات والغرائز. لو أن المولود يعي لحظة ميلاده ، فما الذي يمكن لفيصل سعيد فارع ، أن يكون قد استوعبه لحظة ميلاده؟ ربما وضعة الحليب الأولى ، وصرخة إعلان الحضور. هل تمنيت يوماً أن تولد من جديد؟ يقول بعضهم: (إن أقسى ما في الحياة ليس أن تسأم ، بل أن تكون مكرهاً على أن تبدو مسروراً) وأنا لا أزعم أن حياتي كانت مثالية ، ولكن مستوى إنجازي فيها يجعلني راضياً إلى حد كبير عنها. بعيداً عن اعتقاد الهندوس بتناسخ الأرواح ، كم عدد المرات التي تتمنى أن تولد فيها من جديد وطبيعة الشخصية التي ترغب أن تكونها بعد كل ميلاد جديد؟ سؤال كهذا يثير فضول الدفاع عن الذات ، لأنه يستحم بلغة الانتماء إلى الأشياء الحميمة التي أريد أن أتمها في دروب العالم الافتراضي الذي أميل إليه في كينونتي البديلة التي لا أراها توقاً ممكن التحقيق ولا أسعى إليه لأن حياتي لم تتعثر حد توقي لبدائل متوخاه أرجوها. متى تمنيت لو أنك لم تولد؟ أزعم أنني لم أتمن ذلك ، وإن كانت اللحظات التي عبر عنها الشاعر الجاهلي في تحمل الوحشي أكثر من تحمل الإنسي من السلوك حين قال عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير قد تستدعي ذلك. هل كان ميلادك حدثاً سعيداً أم مجرد قدوم احدهم يضاف إلى من سبقوه؟ أنا إضافة للحياة والوجود. بميلاد من تفرح أكثر.. الولد أم البنت؟ أفرح بميلاد أي منهما. هل تمنيت يوماً لو ولدت بنتاً ؟ لا. بماذا تشعر لحظة ميلاد إنسان؟ لم أشهد مطلقاً لحظة ولادة إنسان .. لكنني أعتقدها لحظة فيها الكثير من القدسية. متى وأين ولد فيصل سعيد فارع؟ ولدت في الثلاثين من مارس 1950م في قرية الدمنه مديرية الشمايتين ، محافظة تعز. ثانياً: بعد الميلاد هل كان الكتاب أول مصادر المعرفة بالنسبة إليك؟ نعم . متى شعرت بأهمية تنويع مصادر المعرفة وتحصليها ؟ قد يبدو القول إن مرحلة المراهقة مثلت جسر الاهتمام الأول بالمعرفة أمراً مغالى فيه في نظر البعض ولكنها اللحظة التاريخية التي كنا نعيشها آنذاك وما اعتمل فيها من صراعات وتحديات واقتران ذلك بالوجود في قلب أحداث وفي وسط أشخاص فاعلين وذوي حضور في الشأن العام كان من بين ما امتازوا به قدراتهم ومعارفهم التي يشار الى علوهم فيها من بين ما استدعى أن يبدأ الاهتمام بالمعرفة وتنويعها والنهل من مصادرها المختلفة وهو ماتعزز أكثر فأكثر كلما أمعنا في العمر وشروط الحياة التي كنا نتوق للتميز فيها عبر امتلاك مستوى أعلى من المعرفة . المشاق التي واجهتها في سبيل تحصيل المعرفة? لاشك أن صعوبات عدة اكتنفت هذه المسيرة التي لازمتني طيلة معظم حياتي ،فأوعية المعرفة في البداية لم تكن متاحة ولم تكن متنوعة وعندما تتاح لم تكن في المتناول كما أن امتلاكها كان يمثل عبئاً بل وقد تكون السبيل الأيسر للسجن ,لأن بها تتعزز التهم وتكال بقدر من الموثوقية, هذا في شق التحصيل المعرفي العام ،أما الجانب التخصصي من المعرفة فلم يكن المتاح محلياً منه سبيلاً لتحقيق الطموح فكان الاغتراب سبيلاً أمثل لنيله. ما هو تأثير الزمان والمكان في تكوين المثقف فيصل سعيد فارع ؟ تأثير لاشك غامر وكبير فمتغيرات كهذه تلعب دوراً كبيراً على الجانب الثقافي للفرد بما تتيحه من إمكانات وصلات ومعارف لا تتأتي في ظل استغراق مكان ما ردحاً طويلاً من حياة الفرد ،وللترحال في جغرافيا المكان والزمان وما يواكبها من صلات إنسانية فوائد ازعم انها جد كبيرة ،في عملية التكوين هذه . ما هو تأثير فيصل المثقف على فيصل الإنسان ؟ لاشك كبير هذا التأثير ،أراه وألمسه في كل ما اعتمل في حياتي بدون أي زعم أو ادعاء. هل يمكن للحب الأول أن يتكرر ؟ لا أظن أن لهذه التجربة الإنسانية ان تعيد نفسها بمثل دفق وحيوية التجربة الأولى التي بها محلق كالنسور في سماء العاطفة متبعين فطرة القلب البكر . وأنت في حالة عشق ما نوع الكتاب الذي تقرأه والأغنية التي تسمعها ،أم تراك لا تقرأ ولا تسمع ؟ للعشق طقوسه وتجلياته وتوافقاته ..هو يستدعي كل ذلك لأنه لحظة إنسانية فارقة ..ولا يمكن أن يكون مضمراً في تاريخ حياته السابقة . كيف تنظر للمرأة وهي في حالة عشق ؟ سأقول إن كان لابد من قمر فليكن كاملاً وليكن كالعاشقة. هل تجيد السباحة وسط الرمال ،وهل تجيد السير في صفحة الماء ؟ لا . متى تبكي ومتى تضحك من قلبك ؟ومتى تكتفي بالمشاهدة وتلوذ بالصمت ،وماذا تتمنى أن تكون بعد عشر سنوات ؟ في البحث عن الفرق بين البكاء والضحك ،لعل المسافة كالواو ...مجازية ،ولكنني في كلتا الحالتين أعيشهما بامتلاء تنقصني فيهما هدنة للتأمل ،وفي الستين قل للحياة سيري ببطء ، واغتنم ماتبقى منها كي تستكشف ما لم تعمله وما لم توقد شمع الحضور فيه ، وحيث ما تبقى من عمر مدعاة إيناع عبر الايغال في حياة الحياة الممتدة ما شاء لها الله أن تمتد. ثالثاً : قبل الموت هل تمنيت الموت يومياً؟ نعم ولا. أيهما أشد قسوة الميلاد أم الموت؟ الميلاد. كيف تنظر إلى الموت، بمعزل عن النظرة الفلسفية؟ سؤال الموت .. هو إحدى قضايا الحياة الكبرى التي لا محيص عنها. هل تشعر بأنك قادر على تحقيق كل أمانيك رغم استحالة ذلك كما يقول البعض أم إنك فعلاً قد فعلت ذلك؟ ليس المهم في نظري أن تحقق كل أمانيك قبل الموت ... المهم أولاً أن تجد لنفسك أحلاماً وأفكاراً نبيلة ، وان تعمل بدأب ومثابرة على تحقيق أقصى ما تستطيع منها ، وعلى أن لا تتوقف عن استدراج هذه الأحلام إلى واقع خارج منطقة اللون الرمادي ، ومسالك عابري الدروب. أتمنى الاستماع لأغنية رائعة في اللحظات الأخيرة التي تسبق موتي ، فماذا تتمنى أنت؟ أن استمع أغنية لم تغن بعد ، وإيقاع لحن لم يسمع بعد. هل يشغلك المصير فيما بعد الموت؟ نعم ، شأني في ذلك شأن الغالب الأعم من البشر الذين يحاولون تحسين ميزان تجارتهم لصالح ما بعد إيماءة الموت عند الغروب ، وسأسعى بدأب من أجل ألا ادع الحياة خالي الوفاض مما يستحق أن يُشار إليه إيجاباً بعد رحيلي. ماذا ستفعل لو قال لك الطبيب(باقي من عمرك ستة أشهر)ستعشق كل يوم ؟ ستقرأ كتاباً كل يوم ؟ ستبكي كل يوم؟ لأن الموت حق، سأواصل الحضور في الحياة ، مسرجاً أحلامي على سحب تبشر بالربيع المشوب بضباب لا يحول بيني والتلفت للوراء فاتحاً أفقاً لغيمة واعدة. ما هو تعليقك في سرك حين يقول لك أحدهم( الله يطول لنا بعمرك)؟ أقول... وإياك.