عندما يكون الشاعر عاشقاً يبدع، فما بال شاعر ولد في قبيلة عرف أهلها بكثرة العشق ورقة القلوب، فهنا ينطلق لسان الشاعر ليجود بأعذب الألفاظ، أما الشاعر فهو جميل بن عبدالله بن معمر العذري القضاعي، كنيته أبو عمرو واشتهر ب“جميل بثينة”.. أحد شعراء العصر الأموي، والقبيلة هي “عُذرة” ومسكنها في وادي القرى بين الشام والمدينة.عرفت هذه القبيلة بالجمال والعشق حتى قيل لأعرابي من العذريين: ما بال قلوبكم كأنها قلوب طير تنماث - أي تذوب - كما ينماث الملح في الماء؟ ألا تجلدون؟ قال: إنا لننظر إلى محاجر أعين لا تنظرون إليها. قيل لآخر: فمن أنت؟ فقال: من قوم إذا أحبوا ماتوا، فقالت جارية سمعته: عُذريٌّ ورب الكعبة. وربما جاء الكلام السابق ليوضح لنا خلفية القبيلة التي نشأ وترعرع فيها شاعرنا جميل بن معمر، هذا الشاعر مرهف الحس رقيق المشاعر والذي هام حباً ببثينة والتي انطلق يقول فيها الشعر حتى وفاته. عشق جميل قول الشعر وكان لسانه مفطوراً على قوله فيقال أنه كان راوية لهدبة بن خشرم، وهدبة كان شاعراً وراوية للحطيئة وهو أحد الشعراء المخضرمين. قصة عشقه عرف جميل بعشقه لبثينة والتي هام بها حباً وعندما تقدم لطلب الزواج منها قوبل طلبه بالرفض، فأخذ في إنشاد الشعر في حبه لها، ثم اتجه للوم والعتاب عليها بعد انصرافها عنه وزواجها من آخر، وعندما بالغ في هجاء أهلها استعدوا عليه السلطان والذي أمر بإهدار دمه، فخرج جميل من البلاد هائماً متنقلاً بين الشام واليمن ثم نزل إلى مصر وافداً على عبدالعزيز بن مروان والذي أكرمه وأمر له بمنزل فأقام فيه قليلاً ثم مات، وجاءت وفاة جميل عام 82ه - 701م. مما قاله في حبه لبثينة: وَمَن يُعطَ في الدُنيا قَريناً كَمِثلِها فَذَلِكَ في عَيشِ الحَياةِ رَشيدُ يَموتُ الهَوى مِنّي إِذا ما لَقيتُها وَيَحيا إِذا فارَقتُها فَيَعودُ يَقولونَ جاهِد يا جَميلُ بِغَزوَةٍ وَأَيَّ جِهادٍ غَيرُهُنَّ أُريدُ لِكُلِّ حَديثٍ بَينَهُنَّ بَشاشَةٌ وَكُلُّ قَتيلٍ عِندَهُنَّ شَهيدُ شعره يعد جميل رائد شعراء الحب العذريين، فكان أكثر شعره في الغزل والفخر، فيذوب شعره رقة من فرط المشاعر، وكان مقلاً في المدح، ويتميز الشعر العذري بشكل عام بالعفاف تنعكس عليه آثار البيئة الإسلامية، بالإضافة لعمق المشاعر وشفافيتها، ولا ينظم هؤلاء الشعراء غزلهم في وصف مفاتن المرأة الجسدية فكان غزلهم عفيفاً يهيمون حباً بامرأة واحدة فقط فيعرف كل واحد بمحبوبته مثل شاعرنا اليوم والذي عرف ب“جميل بثينة” وتستفيض أبياتهم الشعرية في وصف معاناة الفراق ولوعة العشق: اِرحَميني فَقَد بَليتُ فَحَسبي بَعضُ ذا الداءِ يا بُثَينَةُ حَسبي لامَني فيكِ يا بُثَينَةصَحبي لا تَلوموا قَد أَقرَحَ الحُبُّ قَلبي زَعَمَ الناسُ أَنَّ دائي طِبّي أَنتِ وَاللَهِ يا بُثَينَةُ طِبّي قال سهل بن سعد الساعدي: لقيني رجل من أصحابي فقال: هل لك في جميل فإنه ثقيل؟ فدخلنا عليه وهو يكيد بنفسه، وما يخيل لي أن الموت يكرثه - يشتد عليه – فقال لي: يا “بن سعد” ما تقول في رجل لم يزنِ قط، ولم يشرب الخمر قط، ولم يقتل نفساً حراماً قط، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟. فقلت: أظنه والله قد نجا، فمن هذا الرجل؟. قال: أنا. قلت: والله ما سلمت وأنت منذ عشرين سنة تشبب ببثينة. قال إني في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، فلا نالتني شفاعة محمد “صلى الله عليه وسلم” يوم القيامة إن كنت وضعت يدي عليها لريبة قط. فما قمنا حتى مات. عَجِلَ الفِراقُ وَلَيتَهُ لَم يَعجَلِ وَجَرَت بَوادِرُ دَمعِكَ المُتَهَلِّلِ طَرَباً وَشاقَكَ ما لَقيتَ وَلَم تَخَف بَينَ الحَبيبِ غَداةَ بُرقَةِ مِجوَلِ وَعَرَفتَ أَنَّكَ حينَ رُحتَ وَلَم يَكُن بَعدُ اليَقينُ وَلَيسَ ذاكَ بِمُشكِلِ لَن تَستَطيعَ إِلى بُثَينَةَ رَجعَةً بَعدَ التَفَرُّقِ دونَ عامٍ مُقبِلِ