على الرغم من أن السرد واحد من أقدم الفنون، فإن هذا لا يعني أن كل قصة يقل عدد كلماتها، يمكن أن تكون مثالاً لما عرف بعد بالقصة القصيرة.. القصة القصيرة الحديثة (من ناحية مقارنة) جديدة في الأدب، بل إنها أصغر عمراً من الرواية.. لقد تم تأصيلها في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، وبعد خمسين عاماً من ظهورها. بلغت مرحلة النضج في أعمال عدد من الكتاب من أبرزهم موباسان وتشيكوف، ثم ازدهرت بحيث وصلت إلى أكبر قدر من التعبير المكثف الذي عرفته القصة، وتمثل ذلك في آمال عدد من الكتاب المحدثين الكبار في بداية ومنتصف القرن العشرين من أمثال جيمس جويس (1882 1941م) وفرانز كافكا (1888 1923م)، وارنست هيمنجوي (1898 1961م) وغيرهم. إلا أن ثمة إشكالية تتصل بفن القصة القصيرة، أصوله، مفهومه، نظرياته، تقنياته.. وهي إشكالية لعلها تبرز في هذا الفن أكثر من أي فن أدبي آخر.. وفي الواقع إنه لم تسد نظرية لشكل القصة القصيرة، بل إن معظم سمات هذا الفن جاء بها الممارسون له من الكتاب أمثال فرانك اكونور (1903 1966م) والناقد المبدع بيتس (1905 1974م)، وقبل ذلك ادجار ألن بو (1809 1849م) وموباسان (1850 1893م) وغيرهم. في البدء يمكن لنا أن نلاحظ أن معظم الكتاب مبدعين ونقاداً يركزون على مسألة الرد والرواية وكأنها التقنية الوحيدة! دون ريب، السرد هو البوابة الرئيسية التي يدلف من خلالها كاتب القصة القصيرة وكذلك الرواية، لكن هناك معالم ودروساً لا تساعد في رفع المستوى التقني للقصة والرواية فحسب، بل من دونها لا تكون قصة قصيرة إنما تصبح شيئاً آخر. وليس من الممكن الحديث عن القصة القصيرة بمعزل عن الرواية، فثمة تداخل بينهما، بل إن هناك من يرى أنه من المستحيل تمييز القصة القصيرة من الرواية على أساس معين غاير الطول.. إلا أن المشكلة تكمن في أنه لا يوجد تحديد لطول أي منهما، فالقصة الطويلة والرواية القصيرة، مفهومات للقصص التي بسبب طولها لا يمكن تصنيفها على أنها قصة قصيرة أو رواية. من جانب آخر لا يستطيع أحد أن يقول إن القصة القصيرة أكثر وحدة من الرواية، فكل منهما يمكن أن تكون ذات وحدة متساوية، كما أن الونيت والملحمة يمكن أن تكونا ذات وحدة متساوية، رغم الفارق الكبير في طول كل منهما.. أيضاً لا يمكن لأحد القول إن القصة القصيرة تتعامل مع شخصيات أقل، أو فترة زمنية أخصر من الرواية، وحيث إن هذه هي الحالة الغالبة، فإن القصة ذات الصفحات المحدودة يمكن أن تتناول عدداً كبيراً من الشخصيات خلال أكثر من عقد من الزمن، في حين إن الرواية الطويلة يمكن أن تقصر نفسها على يوم واحد في حياة ثلاث أو أربع شخصيات. تلك رؤية لبعض النقاد، لكن براند ماثيوز أحد المنظرين الأوائل للقصة القصيرة يؤكد قبل قرن من الزمان 1901م أن القصة القصيرة لا يمكن أن تكون جزءاً من رواية، كما أنه لا يمكن أن يتوسع فيها كي تشكل رواية، ويؤكد بشكل قاطع بأن القصة القصيرة ليست فصلاً من رواية، أو حتى حادثة أو مشهداً تم استقطاعه من قصة طويلة، لكنها في أحسن أحوالها تؤثر في القارئ بحيث إنه يصل إلى قناعة أنها سوف تفسد لو أنها كانت أطول من ذلك أو لو أنها جاءت على نحو تفصيلي أكبر. إلا أننا في الأدب العربي نجد عدداً من الكتاب تتداخل قصصهم القصيرة مع أعمالهم الروائية مثل يحيى الطاهر وابراهيم أصلان ومحمود الورداني.. وقد أشار خيري دومة في كتابه (تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة) إلى أن يحيى الطاهر نشر قصصاً قصيرة في مجموعة (الدف والصندوق) ثم أدخلها بعد ذلك في سياق روايته (الطوق والأسورة). وينشر ابراهيم أصلان كثيراً من نصوص (وردية ليل) في الدوريات، ثم يعيد تجميعها وإكمالها لينشرها تحت اسم رواية.. وينشر محمود الورداني بعض قصصه القصيرة في الدوريات وضمن مجموعاته القصصية، ثم يدخلها بعد ذلك في سياق روايته (نوبة رجوع). إحدى القضايا المهمة التي تتعلق بفن القصة القصيرة تتمثل في النظر إليه ضمن المقدار الكمي للكتابة مع إغفال كافة الجوانب الأخرى، نحن على يقين أن القصة القصيرة هي الابن الشرعي أو بشكل أدق يمكن أن تكون الشقيقة الصغرى لفن الرواية، لكن هذا لا يعني بحال من الأحوال أن القصة القصيرة رواية يقل عدد كلماتها. القصة القصيرة لا تتحمل أن تعالج عدداً من القضايا لعدد من الشخصيات عبر أجيال مختلفة، لأنها لو فعلت ذلك فلن تكون سوى سرد لأحداث متتابعة، تخلو من التكييف اللغوي والمعالجة المركزة، الروائي غالباً ما يتناول شخصيات أكثر، وربما يغطي بشكل تفصيلي فترة زمنية طويلة، ويتناول عدة جوانب من الشخصية الواحدة لكن هذا لا يحدث في القصة القصيرة. ثمة اتفاق أن الروائي وكاتب القصة القصيرة يستخدمان نفس المادة، التي يلتقطانها غالباً من الواقع المعاش الذي يحيط بهما، لكن الاختلاف بينهما إنما يكون في اختيار الصيغة والشكل الأنسب للتعامل مع هذه الأحداث. وهنا يؤكد الطاهر أحمد مكي أنه لا قيمة للزمن هنا، واذا كان (طول الرواية هو الذي يحدد قالبها، كما أن قالب القصة القصيرة يحدد طولها)، فإنه في الوقت نفسه (لا يوجد مقياس للطول في القصة القصيرة إلا ذلك المقياس الذي تحدده المادة نفسها، فالروائي قادر على تحويل الثواني إلى دقائق في القراءة، واللحظة إلى تحليلات متأنية) القصة القصيرة تحوي العناصر الأساسية لتقنية الرواية لكنها تأتي بشكل مضغوط ومركز. حين يأتي عباس محمود العقاد لتعريف القصة القصيرة نجده يربطها بالرواية لكنه يرى أنها تخالفها.. هذه المخالفة حسب رأيه لا ترجع إلى التفاوت في عدد الصفحات أو السطور أو الإسهاب والإيجاز، وإنما يكون في الموضوع وطريقة التناول.. القصة القصيرة كما يرى فتحي الابياري تعالج جانباً من الحياة يقتصر على حادثة واحدة، لا تستغرق فترة طويلة من الزمن، وإن حدث ذلك فإن القصة تفقد قوامها الطبيعي وتصبح نوعاً من الاختصار للرواية. من جانب آخر هناك ارتباط عكسي من حيث الإبداع، فماثيوز يؤكد في كتابه (فلسفة القصة القصيرة) أن المستوى الكبير الذي تمتاز به الرواية الاميركية في ذلك الزمن 1901م يعود الفضل فيه إلى القصة القصيرة، حيث نجد تقريباً أن كل روائي اميركي تقرأ أعماله من قبل الناطقين بالانجليزية، قد بدأ ككاتب للقصة القصيرة.. وقبل ذلك في سنة 1887م أشار محرر مجلة الناقد إلى كتابة القصة القصيرة والرواية بقوله (كقاعدة يتم إنتاج القصة القصيرة في مرحلة الشباب، في حين أن الرواية إنتاج الخبرة). وهناك العديد من كتاب القصة الذين حاولوا الهروب من القصة القصيرة، من أبرز هؤلاء تشيكوف (1876 1941م) ولعله انتقال أو تطور من كتابة القصة القصيرة إلى الرواية وفي الثلث الأول من هذا القرن نجد أن عدداً من الكتاب العرب تحولوا من كتابة القصة القصيرة إلى الرواية، ومن هؤلاء أحمد خيري سعيد ومحمود طاهر لاشين ومحمود تيمور ويحيى حقي.. كما يشير إلى ذلك سيد حامد النساج،. في محاولة لإعطاء تعريف للقصة كتبت الناقدة الاميركية برولكس في مقدمة (افضل قصص اميركية 1997م) تقول بأن القصة القصيرة شكل أدبي صعب يتطلب اهتماماً أكبر من الرواية من أجل السيطرة والتوازن.. إنها اختيار المبتدئين في عالم الكتابة، تجذبهم بسبب إيجازها ومظهرها الودود (الخادع) للموضوعات المختصرة، أو وظيفتها المدركة كاختبار حقيقي قبل محاولة كتابة الرواية ذات الخمسمائة صفحة. ولعله يجدر التأكيد أن هذا الرأي ليس على ظاهره فهو لا يجعل القصة القصيرة محطة عبور فقط، بل إنه يؤكد واقعاً عايشناه. ومازلنا في حياتنا الأدبية يتمثل في أن الذين كتبوا الرواية مروراً بالقصة القصيرة أقدر على تملك ناصية الكتابة والتعامل مع التقنية السردية (ولندع الاستثناءات جانباً)، لكننا نؤكد أن القصة القصيرة عالم فني متكامل بذاته ومحطة بقاء دائم لكثير من المبدعين.