صحة غزة: ارتفاع الجثامين المستلمة من العدو الإسرائيلي إلى 315    موسم العسل في شبوة.. عتق تحتضن مهرجانها السنوي لعسل السدر    مليشيا الحوثي تسعى لتأجير حرم مسجد لإنشاء محطة غاز في إب    القائم بأعمال رئيس الوزراء يشارك عرس 1000 خريج من أبناء الشهداء    أبين.. حادث سير مروع في طريق العرقوب    شبوة تحتضن بطولة الفقيد أحمد الجبيلي للمنتخبات للكرة الطائرة .. والمحافظ بن الوزير يؤكد دعم الأنشطة الرياضية الوطنية    صنعاء.. إيقاف التعامل مع منشأتَي صرافة    وزارة الخدمة المدنية توقف مرتبات المتخلفين عن إجراءات المطابقة وتدعو لتصحيح الأوضاع    الأرصاد يتوقع أجواء باردة إلى شديدة البرودة على المرتفعات    المجلس الانتقالي الجنوبي يرحّب بتقرير فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة ويدعو إلى تعزيز التعاون الدولي    لحج: المصفري يرأس اجتماعا للجنة المنظمة لدوري 30 نوفمبر لكرة القدم    توتر وتحشيد بين وحدات عسكرية غرب لحج على شحنة أسلحة    عالم أزهري يحذر: الطلاق ب"الفرانكو" غير معترف به شرعا    تسعة جرحى في حادث مروع بطريق عرقوب شقرة.. فواجع متكررة على الطريق القاتل    انتقادات حادة على اداء محمد صلاح أمام مانشستر سيتي    سؤال المعنى ...سؤال الحياة    برباعية في سيلتا فيجو.. برشلونة يقبل هدية ريال مدريد    بوادر معركة إيرادات بين حكومة بن بريك والسلطة المحلية بالمهرة    جحش الإخوان ينهب الدعم السعودي ويؤدلج الشارع اليمني    هل يجرؤ مجلس القيادة على مواجهة محافظي مأرب والمهرة؟    الأربعاء القادم.. انطلاق بطولة الشركات في ألعاب كرة الطاولة والبلياردو والبولينغ والبادل    العسكرية الثانية تفضح أكاذيب إعلام حلف بن حبريش الفاسد    غارتان أمريكيتان تدمران مخزن أسلحة ومصنع متفجرات ومقتل 7 إرهابيين في شبوة    إحباط عملية تهريب أسلحة للحوثيين بمدينة نصاب    الدوري الايطالي: الانتر يضرب لاتسيو في ميلانو ويتصدر الترتيب برفقة روما    العدو الصهيوني يواصل خروقاته لإتفاق غزة: استمرار الحصار ومنع إدخال الوقود والمستلزمات الطبية    دائرة الرعاية الاجتماعية تنظم فعالية ثقافية بالذكرى السنوية للشهيد    الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية تُنظم فعالية خطابية وتكريمية بذكرى سنوية الشهيد    مرض الفشل الكلوي (27)    فتح منفذ حرض .. قرار إنساني لا يحتمل التأجيل    الأمين العام لجمعية الهلال الأحمر اليمني ل 26 سبتمبر : الأزمة الإنسانية في اليمن تتطلب تدخلات عاجلة وفاعلة    انها ليست قيادة سرية شابة وانما "حزب الله" جديد    ثقافة الاستعلاء .. مهوى السقوط..!!    تيجان المجد    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    الزعوري: العلاقات اليمنية السعودية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين واللغة لتصل إلى درجة النسيج الاجتماعي الواحد    سقوط ريال مدريد امام فاليكانو في الليغا    قراءة تحليلية لنص "مفارقات" ل"أحمد سيف حاشد"    الرئيس الزُبيدي يُعزي قائد العمليات المشتركة الإماراتي بوفاة والدته    محافظ العاصمة عدن يكرم الشاعرة والفنانة التشكيلية نادية المفلحي    الأرصاد يحذر من احتمالية تشكل الصقيع على المرتفعات.. ودرجات الحرارة الصغرى تنخفض إلى الصفر المئوي    في بطولة البرنامج السعودي : طائرة الاتفاق بالحوطة تتغلب على البرق بتريم في تصفيات حضرموت الوادي والصحراء    جناح سقطرى.. لؤلؤة التراث تتألق في سماء مهرجان الشيخ زايد بأبوظبي    وزير الصناعة يشيد بجهود صندوق تنمية المهارات في مجال بناء القدرات وتنمية الموارد البشرية    صنعاء.. البنك المركزي يوجّه بإعادة التعامل مع منشأة صرافة    رئيس الحكومة يشكو محافظ المهرة لمجلس القيادة.. تجاوزات جمركية تهدد وحدة النظام المالي للدولة "وثيقة"    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    عين الوطن الساهرة (1)    الهيئة العامة لتنظيم شؤون النقل البري تعزّي ضحايا حادث العرقوب وتعلن تشكيل فرق ميدانية لمتابعة التحقيقات والإجراءات اللازمة    مأرب.. فعالية توعوية بمناسبة الأسبوع العالمي للسلامة الدوائية    في ذكرى رحيل هاشم علي .. من "زهرة الحنُّون" إلى مقام الألفة    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    على رأسها الشمندر.. 6 مشروبات لتقوية الدماغ والذاكرة    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    صحة مأرب تعلن تسجيل 4 وفيات و57 إصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام الجاري    الشهادة في سبيل الله نجاح وفلاح    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا تراجع المسجد في ضبط السلوك الاجتماعي والأخلاقي؟!
نشر في الجمهورية يوم 15 - 05 - 2011

كشفت دراسة علمية حديثة عن تراجع دور المسجد في تعديل سلوك المسلمين, والنهوض بهم إلى مستويات تليق بالدين الذي يحملونه, وتؤهلهم لريادة العالم وبناء حضارته, وأشارت الدراسة التي أعدها الدكتور مازن حريري أستاذ الفقه المقارن المساعد بكلية الآداب في جامعة تعز إلى أن الرغبة في حياة أفضل ومكانة تليق بالأمة المسلمة هي حلم أغلب المسلمين.أثر المسجد في ضبط السلوك الاجتماعي والأخلاقي
لكن هذه الرغبة تفتقر إلى المصداقية والجدية في التغيير؛ لأن الأماني وحدها لا تصنع الحضارات, بل لا بد من الفاعلية والمبادرة, وأن يبدأ كل مسلم بنفسه وأسرته وهكذا, فيتلمس هذه السلوكيات وتلك الأخلاق, ويحولها إلى واقع عملي في أقواله وأفعاله وهيئته, وإذا صلح الأفراد صلحت الأمة.
مراكز إشعاع حضاري
إن للمساجد في الشريعة الإسلامية شأنًا كبيرًا ومكانةً مرموقةً؛ لما لها من دور بارز وفاعل في حياة المسلمين الخاصة والعامة؛ فالمساجد مراكز إشعاع فكري وروحي وحضاري في المجتمع الإسلامي؛ فهي المكان الذي يجتمع فيه المسلمون خمس مرات في اليوم والليلة، يتوجهون منه إلى الخالق تبارك وتعالى بالصلاة والذكر والدعاء, وقد كانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد، فإن النبي أسس مسجده المبارك على التقوى، ففيه الصلاة، والقراءة، والذكر، وتعليم العلم، والخطب، وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات وتأمير الأمراء وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم, فالمسجد لا يقتصر أثره على أنه مكان للعبادة فحسب, بل يتعدى ذلك إلى أنه المدرسة المفتوحة التي تعنى بتربية المجتمع وتنشئته التنشئة الصحيحة, وتقويم اعوجاجه, بضبط سلوكه وتصرفاته, والعناية بأخلاقه, ومعلوم أن علاقة المسجد بالسلوك الاجتماعي والأخلاقي علاقة وثيقة؛ لأن المسجد يعد نموذجًا مصغرًا للمجتمع المسلم عمومًا؛ إذ يرتاده كل شرائح المجتمع كبيرهم وصغيرهم, ذكرهم وأنثاهم, غنيهم وفقيرهم, رئيسهم ومرؤوسهم, كما أن التعامل اليومي مع المسجد يكسبه أهمية خاصة؛ نظرًا لأهمية المسجد وحيويته، وتعلق مصالح المسلمين به.
توجيه السلوك الاجتماعي
وأوضحت الدراسة التي نشرتها مجلة الباحث الجامعي، وهي دورية علمية فصلية محكمة تصدر عن الإدارة العامة للبحث العلمي بجامعة إب، أن السنة النبوية الشريفة حثَّت على صلاة الجماعة, وشجعت على ارتياد المساجد. ومن خلال أحاديث صلاة الجماعة وفضلها, وفضل الذهاب إلى المساجد يمكن معرفة جملة من الصفات والسلوكيات التي تسهم في توجيه السلوك وضبط التصرفات, وأهمها:
أولاً الاجتماع والإخاء والمساواة بين المسلمين، فالمسلم ليس انطوائيًا أو معزولاً عن مجتمعه, أو راهبًا في مكان عبادته, بل هو اجتماعي بفطرته التي فطر الله الخلق عليها, وفي خروجه إلى المسجد لصلاة الجماعة تأكيد لهذا المعنى.
ثانيًا الإخلاص والإتقان وإجادة الأعمال، فالإخلاص صفة خلقية عظيمة أوْلتْها السنة اهتمامها, وعملت على غرسها وترسيخها في النفوس,
ثالثًا الانضباط والنظام، فصلاة الجماعة في المسجد تعلم الانضباط في الزمان والمكان؛ لأن المعتاد على صلاة الجماعة لا بد له أن يلتزم بوقت كل صلاة, بحيث يكون الانضباط صفة ملازمة له في كل تصرف, وهذا يعينه على تنظيم الوقت والالتزام بالمواعيد, وكما يتعلم المصلي في جماعة الانضباط الزماني فإنه يتعلم الانضباط المكاني, إذ يقف في صف مستوٍ متراصٍ متصلٍ بلا فرجات, ويُتمّ الصف الأول فالأول.
رابعًا وحدة المجتمع وتماسكه، فالذي يصلي في جماعة مدركًا ضرورة رصِّ الصفوف وتسويتها وسد الثغرات في الصف والمحاذاة بين المناكب, مقتديًا بإمام واحد, عالمًا أن مخالفته تبطل صلاته, متجهًا مع المصلين إلى قبلة واحدة, بلا فرق بينه وبين غيره من المصلين, كل ذلك يغرس في نفسه الشعور بأهمية الوحدة وضرورة تماسك المجتمع وتراحم أفراده, وأن المسلم على ثغرة من ثغرات الإسلام فليحذر أن يؤتى الدين من قبله.
رعاية المرأة
وأكدت الدراسة أن المسجد له بالغ الأثر في رعاية المرأة وحماية حقوقها حيث إنه لا يشك منصف أن الإسلام اهتم بالمرأة وحرص على رعايتها وإعطائها حقوقها بعد أن كانت سلعة تباع وتشترى وتدفن حية, والأدلة على ذلك كثيرة متعددة, إلا أننا سنذكر بعض الأحاديث المتعلقة بالمسجد, والتي تشير إلى حرص الإسلام على ضبط وتوجيه السلوكيات المتعلقة باحترام المرأة ورعايتها.
عن أبي قتادة الأنصاري (أن رسول الله «ص» كان يصلي, وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله «ص» ولأبي العاص بن الربيع بن عبد شمس, فإذا سجد وضعها, وإذا قام حملها). ومع دلالة هذا الفعل على عطفه, ورحمته بالأطفال وغيرهم, إلا أنه يدل أيضًا على أن رسول الله كان حريصًا على تغيير النظرة الدونية إلى الأنثى, وأنها لا تختلف عن الذكر من حيث تكريمها وتقديرها واحترام مكانتها؛ كي تترسخ هذه المعاني في نفوس أصحابه؛ خصوصًا وأن هذا الفعل منه «ص» كان في صلاة الفريضة, ولم يمنع الإسلام من مخالطة المرأة في أي حال من أحوالها حتى وإن كانت حائضًا, في حين كانت المرأة في بعض الأديان تترك وحدها, وتعزل حال حيضها كأنها قذر ينبغي اجتنابه. وبالإضافة إلى حضور المرأة إلى المسجد للصلاة, فإنها كانت تمارس بعض الأعمال فيه.
رعاية الفقراء والمحتاجين
كان رسول الله «ص» يهتم بأتباعه كلهم غنيهم وفقيرهم, قويهم وضعيفهم, بل اهتمامه بالفقراء والضعفاء منهم أشد حتى نجده يسأل عن الرجل أو المرأة التي كانت تعتني بالمسجد؛ ولما علم أنها ماتت قام فصلى على قبرها إكرامًا لها, واهتمامًا بها.
وكان رسول الله «ص» يحرِّض أصحابه على الصدقة, ويغرس في نفوسهم تلك القيم الرائعة في كل مناسبة تسنح له, والحقيقة أن السنة النبوية الشريفة اهتمت بهذه السلوكيات والأخلاق الرفيعة عمومًا, وقد وردت أحاديث في ذلك تضمنت موضوعات عدة, إلا أنها تتضح بصورة أكبر في أحاديث المسجد؛ للأثر الاجتماعي الذي يؤديه, إذ التكافل الاجتماعي المتمثل في تفقد أحوال المصلين والمجاورين للمسجد والزائرين له, وتلبية متطلباتهم, ورعاية ذوي الاحتياجات كلهم, له الأثر العظيم الذي لا يستهان به في ضبط السلوك وتوجيهه إلى الأفضل.
الترفيه والترويح عن النفس
وشددت الدراسة على دور المسجد في خلق موجبات الفرح والترفيه الروحي حيث إن المجتمع الإسلامي ليس مجتمعًا جامدًا متصلبًا لايعترف بالمرح أو الترفيه, بل هو مجتمع حيوي ومرن يلبي احتياجات النفس البشرية, ويراعي فطرتها, ويقرُّ الترويح عنها بالمباح, دون أن يمس ذلك بأصول الشريعة وثوابتها, وإن السنة النبوية المطهرة أكدت هذا المعنى في مناسبات مختلفة, وتذكر بعض الأحاديث التي تروي كيفية بناء المسجد أن النبي «ص» كان يُنشِد الأناشيد مع أصحابه وهم يبنون المسجد؛ يُرَوِّح بذلك عنهم ويسليهم, وتجدر الإشارة إلى أن المسجد لا ينبغي أن يخرج عن وظيفته المعتادة؛ بحيث يصبح مكانًا للإعلانات أو الخطابات أو الأغراض الشخصية أو الحزبية, وهذا ما يُلمِح إليه حديث النهي عن نشد الضالة في المسجد, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول «ص» : (من سمع رجلاً يَنْشُدُ ضالة في المسجد، فليقل لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا). فعلى الرغم من أن المسجد مكان مناسب لإعلام أكبر عدد ممكن من الناس عن الغرض المفقود؛ كي يساعدوا صاحبه في العثور عليه, إلا أن النبي «ص» منع من ذلك - مع أنه «ص» يأمر بحفظ المال وينهى عن إضاعته-؛ لما فيه من رفع الصوت والتشويش على المصلين, ولأن الذي ينشد ضالته استغل المسجد في غير ما بني له كما علل النبي «ص» بذلك؛ وهذا ينسجم مع كون المسجد مكانًا عامًا أعد للنفع العام, وليس منشأة خاصة أعدت للنفع الفردي.
الحرص على سلامة المسلمين
اهتمت الشريعة الإسلامية بالإنسان أياً كان, وأمرت بالمحافظة على النفس البشرية, وحرمت إراقة الدماء, ولم تبح قتل النفس بلا مبرر يستوجب ذلك, وكان اهتمامها بالنفس المسلمة أشد, والأمر بالمحافظة عليها, وعدم الاعتداء عليها أكبر وأعظم. فعن عبد الله بن مسعود «رضي الله عنه» قال: قال رسول الله «ص»: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله, وأني رسول الله, إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس, والثيب الزاني, والمارق من الدين التارك للجماعة).
ولذلك فقد نبهت السنة النبوية إلى ضرورة أخذ الحيطة والحذر عند حمل السلاح أو استخدامه, وفي ذلك أبلغ الأثر في غرس صفة الحذر والحرص على سلامة المسلمين في النفوس عمومًا؛ كي يكون سلوكًا اجتماعيًا يرافق المسلم في كل مكان, وبذلك يسهم المسجد في بيان أهمية كل ما من شأنه أن يحافظ على الدماء والأنفس.
تنمية الحس الذوقي والجمالي
حرصت الشريعة الإسلامية على تنمية الحس الذوقي والجمالي لدى المسلمين, وعملت على تفعيله في المجتمع؛ لأنه وسيلة للسمو بالسلوك والارتقاء بالذوق, وطريقة لتحقيق التوازن والانسجام في شخصية المسلم والمجتمع الإسلامي بشكل أوسع, والسنة النبوية غنية بالأدلة على ذلك, ويبدو هذا الأمر جليًا في الحض على النظافة والطهارة, وعدم إيذاء الآخرين ولو بالروائح الكريهة خصوصًا لمن يرتاد المساجد, وحيث إن الذهاب إلى المسجد يتكرر خمس مرات في اليوم والليلة؛ فإن ذلك يقتضي أن يكون المسلم كالزهرة في بستان الحياة, فلا يبدو إلا في أجمل صورة, ولا يُشم منه إلا أطيب ريح, ومن النصوص التي تحض على ذلك ما ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي «ص» قال: (من أكل البصل والثُّوم والْكُرَّاث فلا يَقْرَبَنَّ مسجدنا. فإنَّ الملائكة تتأذَّى ممَّا يتأذَّى منه بنو آدم). وإن في عبارة (فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) إشارتين تؤكدان ترسيخ تلك الذوقيات الرائعة وتفعيلها في المجتمع, فالأولى أن السنة التي تنبه أتباعها إلى أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم تريد أن ترشدهم إلى أن تكون رائحتهم طيبة باستمرار وفي أوقاتهم كلها, وليس عند دخولهم المسجد فحسب؛ لأن المسلم يعلم أن الملائكة تلازمه في كل وقت وحين إلا عند الخلاء وعند لقائه أهله. والأخرى أن الذي يراعي الملائكة كي لا تتأذى بروائحه الكريهة, وهي مخلوقات نورانية غيبية, فإنه سيراعي غيره من بني آدم الذين يرونه ويراهم ويختلط بهم, وهذا من باب أولى.
ويتأكد هذا الحس الذوقي والجمالي في الاختبار الذي أجراه النبي «ص» لاختيار مؤذن حسن الصوت من بين عدد من الرجال, كما ورد في سنن الدارمي عن أبي محذورة (أن رسول الله «ص» أمر نحوًا من عشرين رجلاً فأذَّنوا فأعجبه صوت أبي محذورة فعلَّمه الأذان) وفي الحديث دلالة واضحة على ضرورة وضع الرجل المناسب في المكان المناسب..فهذه الشريعة التي تحث على أن يكون المرء نظيفًا في بدنه وثوبه ومكانه, وألا تقع عينه على قبيح, وألا يَشم إلا أطيب ريح ولا يُشم منه إلا كذلك, وألا يسمع إلا أحسن الأصوات, في عبادته في المسجد وفي شأنه كله؛ لهي شريعة تغرس في مجتمعها أعلى المثل السلوكية في الذوق والجمال.
الرفق والتيسير
كان رسول الله «ص» رفيقًا بأصحابه, رحيمًا بهم, فكان يعينهم في بناء المسجد, ويمسح التراب عنهم, ويواسيهم بنصحه وكلامه العذب, وينشد معهم الأناشيد, وفي كل ذلك تعليم لهذه الأمة على خلق الرفق والرحمة.. وتبرز صفة التيسير في كثير من الأحاديث والمناسبات, كترك النبي «ص» كثيرًا من أعمال التطوع خشية أن تفرض على الأمة, كما حصل في تركه «ص» صلاة التراويح جماعة, كما يدل عليها أيضًا كراهة النبي «ص» أن يشدد المرء على نفسه ولو بالطاعة, فعلى أولياء الأمور أن يتعلموا من رسول الله «ص» ضرورة الاهتمام لأمر الرعية, والسؤال عن أحوالهم, ومد يد العون لهم؛ حتى وإن كان ذلك عن طريق الدعاء لهم, أو تعليمهم وإرشادهم إلى ما يصلحهم؛ فإن ذلك يسهم في ضبط السلوك في المجتمع المسلم.
ضمان حرية الرأي والتعبير
إن المتتبع للسيرة العطرة للمصطفى «ص» يجد أنه عمل على غرس الحرية في نفوس أصحابه الكرام, وسمح بممارستها؛ وذلك لعلمه «ص» أن المسلم الحر هو الذي يُعوَّل عليه في بناء حضارة الأمة وحفظ حقوقها, والسنة النبوية المطهرة مليئة بأحاديث تثبت ذلك وتدل عليه, فكان «ص» يعتمد مبدأ الشورى في أمور كثيرة, وهذا من شأنه أن ينمِّي سلوك الحرية ويفعله في المجتمع, كما كان يصغي لكل من يبدي رأيه أو يكلمه في أمر ما, وفيما يخص أحاديث المسجد, فإن في حديث ذي اليدين عندما راجع النبي «ص» في أمر صلاته, دليلاً على حرية التعبير ومراجعة ولي الأمر.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((صلى بنا النبي «ص» الظهر ركعتين ثم سلم, ثم قام إلى خشبة في مُقَدَّمِ المسجد فوضع يده عليها, وفي القوم يومئذ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فهابا أن يكلماه, وخرج سَرَعَانُ الناس فقالوا: قَصُرَتْ الصلاة, وفي القوم رجل كان النبي ? يدعوه ذا اليدين فقال: يا نبي الله أَنَسِيتَ أَم قَصُرَت؟ْ فقال: لم أنس ولم تقصر قالوا: بل نسيت يارسول الله قال صدق ذو اليدين, فقام فصلى ركعتين ثم سلم, ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول, ثم رفع رأسه وكبر, ثم وضع مثل سجوده أو أطول, ثم رفع رأسه وكبر).. ولا أدل على أن الحرية قد ترسخت وتفعلت في المجتمع المسلم من أن المرأة التي كانت مضطهدة في الجاهلية غير معترف بها ولا برأيها، صارت في الإسلام موضع احترام وتقدير تبدي رأيها بكل جرأة وصراحة, ونختار موقفين اثنين يدلان على ذلك، أحدهما حدث في وجود النبي «ص», وهو إجارة زينب بنت رسول الله «ص» زوجها العاص بن الربيع وكان على الشرك, وقبول هذا الفعل منها مع عدم علم النبي «ص» بذلك مسبقًا, وحصل ذلك في المسجد, في صلاة الصبح. والآخر في خلافة عمر رضي الله عنه, وقصة المرأة التي ناقشته عندما أراد أن يحدد المهر بمقدار معين, فراجعته فرجع عن عزمه. فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لا تُغَالوا في مهور النساء, فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر؛ إن الله يقول: "وآتيتم إحداهن قنطارًا"[النساء:02], فقال عمر: امرأة خاصمت عمر فخصمته) .
عوامل تراجع دور المسجد
واختتم الحريري دراسته بتعداد بعض الأسباب التي أضعفت دور المسجد في تعديل سلوك المسلمين, وتؤهلهم لريادة العالم وبناء حضارته, ومن أبرزها ما يأتي:
أ الابتعاد عن العقيدة الصحيحة, فالعقيدة من أبرز العوامل الدافعة للعمل والإنتاج, ولذلك فإن مساحة شاسعة في القرآن الكريم ركزت على العقيدة, وبالذات الإيمان بالله تبارك وتعالى, وكذلك السنة؛ لأن الإيمان الحقيقي بالله سبحانه يجعل المرء قويًا فاعلاً يخلع عنه كل ارتباط بغيره, مع استحضار معيته ومراقبته في كل وقت وكل عمل, فيتحرى المؤمن أن يكون عمله خالصًا لوجه الله تعالى, فتنطلق أقواله وأفعاله تلقائية وعفوية متسمة بالرقي الحضاري النابع من تعاليم هذا الدين, ولا حاجة عندئذٍ لرقيب أو حسيب يَعدُّ على المرء حركاته وسكناته؛ فالعقيدة تدفعه إلى مراقبة الله عز وجل وحده لا شريك له.
ب الابتعاد عن القدوة الصالحة, فالصحابة رضوان الله عليهم اقتدوا بالنبي «ص», والتابعون اقتدوا بالصحابة وهكذا من بعدهم فنهضوا وسادوا وبنوا حضارة العالم, فالقدوة مهمة في حياة الناس, ومن كانت قدوته صالحة راقية كان كذلك, ومن كانت قدوته تافهة منحطة لا يمكن أن يكون صاحب سلوك راقٍ أبدًا, وكلما ابتعد المسلم عن الإقتداء برسول الله «ص» ضل وزل وابتعد عن الحضارة.
حلم المسلمين
ج الرغبة في حياة أفضل ومكانة تليق بالأمة المسلمة هي حلم أغلب المسلمين, لكن هذه الرغبة تفتقر إلى المصداقية والجدية في التغيير؛ لأن الأماني وحدها لا تصنع الحضارات, بل لا بد من الفاعلية والمبادرة, وأن يبدأ كل مسلم بنفسه وأسرته وهكذا, فيتلمس هذه السلوكيات وتلك الأخلاق, ويحولها إلى واقع عملي في أقواله وأفعاله وهيئته, وإذا صلح الأفراد صلحت الأمة,وتحول الأمة من القول إلى الفعل من أهم دلائل الجدية, وكل هذه السلوكيات بحاجة إلى ممارسة, ولا يكتفي بالقول أو النصح والإرشاد إليها فحسب, بل لا بد من التطبيق.
ه إبعاد المسجد عن أثره التربوي والاجتماعي المرجو منه؛ حيث فقد فاعليته وتأثيره, وتحول إلى مكان للصلاة فقط, يُفتح قبل وقت الصلاة ويُقفل بعدها مباشرة, وربما لا يتم الدخول إليه إلا ببطاقة تعريف كما في بعض البلدان الإسلامية اليوم, ولا يمكن للسلوكيات الفاضلة أن تنضبط, والأخلاق الحسنة أن تؤتي أكلها وأثر المسجد سطحي هامشي.
د تراجع أثر العلماء والمثقفين في الاهتمام بتلك السلوكيات الاجتماعية الراقية, والأخلاق الحميدة الموجودة في تعاليم ديننا الإسلامي وأحكامه المختلفة, فقد اقتصر أثر بعض العلماء والمثقفين على بحث أمور جامدة لا تتعلق بضبط سلوك المجتمع ولا تهتم بتحسين أخلاقه, ولم يوضحوا للعامة أو لغير المسلمين تلك المثل الرائعة المنتشرة في كتاب الله وسنة نبيه «ص», فبيانها ونشرها يساعد على الرقي بهذه الأمة واستعادة مجدها وحضارتها من دون أدنى شك.
و كما أن لبعض العوامل الخارجية أثرها في تراجع دور الأمة المسلمة, مثل تأثير ثقافة الأقوى وسيطرة حضارته وبعض قيمه, وهذه العوامل ليس لها تأثير إذا ما تلافت الأمة العوامل الأخرى, وعادت إلى كتاب ربها وسنة نبيها «ص», وطبقت ما فيهما؛ لأن من خصائص هذا الدين أنه يؤثر ولا يتأثر ويستوعب الأمم الأخرى ولا يُستوعب, لكنه بحاجة إلى رجال فعَّالين لا قوَّالين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.