يالها من امرأة سعيدة فكل ماحدث لم يمح البسمة من شفتيها، فرغم القصف والدمار والمجازر التي أنهكت البلاد بفضاعتها إلا أنها لا تزال تحتفظ بزوجها وبيتها الذي أصابته قذيفة في ركنه الأيسر لكن لا يهم بالإمكان إصلاحه فالخراب ليس كبيراً حتى أن ابنها فارس ابن العاشرة ما زال بقربها كان في السابق يذهب إلى المدرسة ويعود عند الغداء حتى حصل على إجازة أبدية منحته إياها دبابات وجرافات دمرت مدرسته وسحقت معالمها. عاد فارس ذلك اليوم باكراً من المدرسة مع نفر قليل من أصدقائه الناجين فالبقية هناك قد تكومت أعضاؤهم بجانب الأحجار وبقايا المعادن الصدئة جرفتها الجرارات إلى مكان بعيد للتخلص من عفنها. شاهدته أمه مع زملائه لدى عودتهم غير المتوقعة، ثيابهم متسخة وبعض التمزق هنا وهناك ووجوههم وأيديهم تملؤها الخدوش، ورعشة خفيفة تكسو كل أجسادهم , أسرعت مبهوتة تحتضن ابنها بلهفة وأخذت تقبله بحرارة بعد أن علمت ما حدث ، فرغم ما حدث لولدها إلا أنها ظلت سعيدة فقد نجا ابنها من الحادث الذي حصد الكثيرين من زملائه. من يومها أصبح فارس يغدو مع أصدقائه أدمنت أكفهم معانقة الحجر يمارسون نشوة الرمي .. هوايتهم الوحيدة التي بقيت لديهم ليمارسوها بعد نسف مدرستهم. ظل فارس على هذه الحالة يغدو مع زملائه صباحاً ويعود سرياً في الظلام. اعتادت الأم ذلك من ولدها ولم يعد الخوف يزاولها كلما خرج فارس تودعه في الصباح وهي متأكدة من عودته. خرج فارس هو وأصدقاؤه في الصباح كعادتهم حتى إذا انطفأت السماء بزرقتها الصافية التي لم تجد بمائها للظامئين تحتها فاكتفت بلونها الساحر تطفئ به عطش أعينهم الحائرة، عادوا كلهم إلا أن فارس لم يكن معهم لكنها لم تقلق كثيراً فهي واثقة أن ابنها سيعود، أخبروها أن فارس لن يعود بعد اليوم لم تصغ إلى يأسهم وظلت تنتظر إبنها مرت ساعة منذ أن حضر رفاق ولدها ولم يرجع فارس بعد , لم تستسلم للقلق مادام أصدقاؤه عادوا سيعود هو بالتأكيد ظلت تتحمل عبء الأمل حتى انتصف الليل ولم تسمع بعد وطأة أقدام فارس على رواق المنزل المظلم إلا من شمعة ترسم باصفرارها جدرانه الشبحية بفتور.. دقت ساعة البندول القديمة المسمرة على خد الجدار الشرقي الممزق بشكل مخيف دقات مفزعة أيقظت القلق في خبايا نفسها صعدت أصوات غامضة من جدران المنزل اختلطت مع صوتها الذي بدا غريباً عليها يستفزها بخفاء.. فارس لن يعود.. كلام أصدقائه صحيح إذن .. شعرت بدوار قبض على رأسها بشدة وأنفاسها تثقل وتتقطع بصوت مختنق .. بدا لها المنزل يضيق وتتقارب جدرانه عليها حتى اعتصرها بمرارة أرادت أن تصرخ إلا أن الصرخة ماتت في أحشائها وسقطت في أعماق غيبوبة. استيقظت من النوم فزعة رددت عبارات قصيرة فور استيقاظها لم تفهم معانيها إلا أنها شعرت بالراحة لترديدها جالت ببصرها أرجاء الغرفة وهي لا تكاد تفهم شيئاً مما حولها ظلت دقائق حتى اتضحت لها بعض معالم المكان. كان الوقت صباحاً وأشعة الشمس المذهبة تنمنم الهواء اللامرئي الذي يرتدي بفراغه أشعة الشمس باستهتار ويسير خطاً غليظاً يدلف من النافذة المحطمة ويلتصق بالجدار المقابل لها بسطوع متلألئ. رأت شخصاً جالساً بقربها لم تتعرف إليه – ربما كان زوجها – كان الرجل يستمع إلى مذياعه العتيق باهتمام .. الشيء الوحيد القيم الذي بقي لهما بعد أن فقدا كل ما هو غال ونفيس. التفت إليها زوجها بهدوء وأعاد توليف مذياعه المشوش وكأنه اعتاد على حالة زوجته تلك قالت له.. ألم يعد فارس بعد. التفت إليها مرة أخرى قائلاً بنفاذ صبر.. ألم تيأسي بعد، ولدك منذ أسبوع غادر المنزل ومازلت تترقبين عودته. فارس سيعود، أنا واثقة أنه سيعود. سمعها فتيان كانا يمران بجانب البيت في مثل عمر ولدها, قال أحدهم.. يا للمسكينة لها أيام تهذي لا تعلم أين هي وكلما استيقظت من النوم تباشر بالسؤال عن عودة ابنها مع أن ابنها مزقته قذيفة منذ أسبوع إلى أشلاء ورغم ذلك ما زالت تنتظر عودته. إلا أنها ظلت سعيدة رغم كل ما حدث ولم يكن أحد في البلاد يشعر قط بلذة السعادة والأمل كما ظفرت بهما أم فارس.