دخلت إلى غرفته باتجاه النافذة وأزحت الستار ليتسلل ضوء الصباح معلناً بدء أول يوم دراسي واقتربت من سريره وأنا ارقب وجهه ونفسي تردد : ياالله كم اعشق هذا الوجه، ومررت بيدي على خديه بلطف وردة حمراء ندية وأنا أوقظه وأداعبه : ياعمري استيقظ حتى تشرق الشمس على الوجود، طوقني بذراعيه الصغيرتين واحتضنته ومضيت به إلى الحمام ،ووضعت له المعجون على فرشاة الأسنان وأنا أردد له من أجل أن يكون صباحك «سكر» لابد من الفرشاة والوضوء للصلاة ، افترشت أنا وهو الأرض بعد أن طويت سجادة الصلاة ومازلت أكرر عليه لأجل أن يكون صباحك «سكر» لابد أن تلتهم قطع الخبز المحشوة بالجبن وأسقيته شراب الفاكهة بيدي وألححت عليه بتناول كأس الحليب تحت تهديدي له بالغضب منه وعدم ترديدي معه أغانيه المفضلة، وقمت بعدها بتمشيط شعره بعد أن ساعدته على ارتداء ملابسه، وإغلاق أزرار قميصه، وأغرقته ببخات عطره المفضل ليحمل مع عطره شوقي إليه في لحظات غيابه الأول يوم دراسي ..كل هذا وأمي تجلس على تلك الاريكة ترقبني بنظراتها التي ملئت بالشفقة والحزن ، قبلتها أنا وولدي متمنياً لها يوماً جميلاًَ إلى حين عودتنا في الظهيرة . فقالت لي أمي : بربك الرفق بنفسك فهذا انتحار . أضفت قبله إلى جبينها وأغلقت باب المنزل ونزلنا الدرج مسرعين أنا وولدي باتجاه أول يوم دراسي فقد تبرعت صديقتي بإيصالنا بسيارتها احتفاء بهذا اليوم ، أغرقت ولدي بالوصايا عند باب المدرسة، تأكدت بأن حاجته مكتملة برغم تفقدي لها مسبقا لم أترك باب المدرسة حتى توارى عن ناظري بين زملائه وعدتُ أدراجي ليحتويني المقعد الخاص بسيارة صديقتي فكررت نفس جملة والدتي : أرفقي بنفسك فهذا انتحار. أجبتها بصوت هادئ : لابد أن أقوم بدور الأب والأم لأعوضه عن أي نقص ممكن يشعر به . أدارت مفتاح سيارتها وهي تتمتم بصوت أشبه بالهمس موجهة أتهامهاً لي : أنتِ السبب فقد آمنت بمثل جداتنا " ظل راجل ولا ظل حيطة " حاولت قدر استطاعتي أن أغير مدخلك لتكوين أسرة تحت تأثير هذا المثل ولكنك آثرتِ إلا أن تدخلي من بوابة جداتنا حتى تسابقي الزمن فلا تنحصري بدائرة العنوسة خوفاً من مجتمع لايقف بجانبك اليوم . صاحب ردي تنهيدة عميقة عمق تعلقي بولدي وأنا أجيبها بقولي : آه ياصديقتي أنتِ تعرفين جيداَ أنني فررت إلى الزواج به حيث لايلاحقني فضول النساء الكبيرات في أسرتي عن سر تأخري بالزواج ، ولا يمزقني سؤال المتزوجات من أسرتي حول كم بلغت من العمر مصاحبات ذلك بالدعاء لي بأن يسهل الله لي بزوج بعيد عن أزواجهن ،ولا تعجزني نظرات نساء إخوتي وقد استثقلن طول مكوثي بينهن ..... لذا قلت لوالدتي سمعاً وطاعة من باب " ظل راجل ولا ظل حيطة " فاستسلمت لأول رجل يبعد عني " الحيطة " تحت مباركة الجميع إيمانا مني أن كل الرجال كأبي وأني أحمل قلب أمي لذي لابد أن أؤمن بأن نصيحة جداتنا في محلها فلا ألو ضيفة ولا أي شيء يعوض المرأة عن نصفها الآخر... لطالما ياصديقتي حدثتني جدتي عن الرجل في زمانها احتجاجاً على تمسكي بالدراسة والو ضيفة قبل الارتباط بالزوج معللة انه كان يعني بالنسبة لبنات جيلها الحب ،والاحترام، وواحة الأمان فهو الوطن أينما رحل وحل حلت بعده المرأة فلا تشعر بغربة، أو قهر، أو خوف، أو تعب . هنا لمعت عيناها بنشوة النصر ووجهت لي سؤالها بقولها : جاوبيني الآن أين مساحة الظل المتبقية من رجال زمان في رجال هذه الأيام والنساء تعيش صراعاً لتقاوم أن تبقى على أنوثتها وهو يجبرها على أن تتقن دور الرجل بجدارة فتصبح مع مرور الزمن كما هو حالك الآن.. أماً وأبا، ذكراً وأنثى. رددت بضعف كعادتي: أنا من قررت أن أكون هكذا وأسرعت بالنزول من السيارة وإحكام إغلاق الباب وسبقتها ببضع خطوات فلحقتني وهي تضحك باستغراب : أنتِ من قرر أن تكوني هكذا بعد ماذا يارفيقتي..؟ بعد أن فقدتِ شهية النوم ، شهية الطعام ، وشهية الحياة ، وشهية الإحساس بالأشياء ..وأنتِ تكابرين وتتألمين بصمت حيال اتكاليته وعدم مبالاته، وتهديده لك بحرمانك من وظيفتك إذا لم تتكفلي باحتياجات المنزل وهو نائم ، وإذا لم تدفعي فواتير هاتفه الذي يستهلكه في محادثة أصحابه مابعد تخديرة القات، وإن لم تذهبي إلى سوق الخضار .... ولولا إيمانه بأنك عديمة الخبرة في نوعيات تلك الشجرة المقدسة لديه لأوكل لك مهمة توفيرها له يومياً.. فتحولت مع الوقت إلى نصف امرأة ونصف رجل وفقدت ظل الرجل الذي خنت من أجله كل حيطان غرفتك ومنزلك ووظيفتك ...!!.احترت في تغيير الموضوع مع صديقتي فحاولت الخروج عنه بقولي لها : لماذا كل هذا الهجوم وتذكيري بما مضى كأني أحضرت لك عريساً معنوناً على جبينه " ظل راجل ولا ظل حيطة " لم يبد عليها الارتياح من مداعبتي وهروبي بتغيير الموضوع فأفحمتني بدعائها : اللهم إني اخترت "الحيطة" وهي علي عظيمة خشية وخوفاً من الرجال فاكفني شر الحنين إليهم ...!! فتبسمت قائلة : ولكن ياصديقتي الغالية برغم مرارة الواقع هناك الكثير من الرجال يعتمد عليهم وتستظل نساؤهم بظلهم بحيث لايمكننا إنكار وجودهم . استشاطت غضبا وقالت لي : حسبي من ألهنا عدم إيماني بمثلك ونهجك وحسبك من الشقاء ماأنت فيه . وخرجت متجهة صوب المكتب الآخر ، ومضى يومنا رتيباً كأي يوم وضيفي يتبع القطاع العام وعددت الدقائق تلو الدقائق بتلهف لأذهب إلى مدرسة ولدي فأكون أول المستقبلين له حال انصرافه ... وبينما كنت أطوي فناء مبنى وظيفتي لأحث الخطى مسرعةَ سمعت صوتاَ يخترق أذنيّ وهو يقول : ماما ... ماما ..... ماما التفت مسرعة ودقات قلبي تسابقني فوجدت ولدي يجري باتجاهي فارداَ ذراعيه ليحتضنني فلم أستوعب ما أنا فيه إلا وهو بين أحضاني ونظرات الدهشة تقتلني وأنا أرى والده يقف خلفه اقترب مني هامساَ :إني أعترف لك بأني كنت طفلاَ شقياَ ... ومدللاَ .... ومشاغباَ إيمانا مني بأنك أم حنون لت تزلزلي قلاعي وترحلي، فأنا اليوم أعترف بذنبي فسأكون لك ِ أبنا، وأخا، وأبا، وسنداَ.. وقتها قطع حديثه رنين هاتفي الجوال فهربت بعيني نحو شاشته لمعرفة الرقم ،فكان رقم والدتي فأجبتها بقولي :نعم ، فردت بنفس اللهجة التي أعرفها منذ نشأتي مخبرة إياي بأن حاجياتي أنا وولدي قد سبقتني إلى منزلي مذيلة كلامها بالدعاء لي سحب زوجي الهاتف من يدي ليرجو بأن لاتذكر مثلها الأثري لي فقد حفظه وفهمه جيدا َ،وهو عازم على تحقيقه وأنهى المكالمة قاطعاَ وعوده لها بأن لا أعود إلى منزلها إلا لزيارتها وتفقدها ....واتجهنا ثلاثتنا إلى السيارة.