لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    اليمن: حرب أم حوار؟ " البيض" يضع خيارًا ثالثًا على الطاولة!    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    عبد المجيد الزنداني.. حضور مبكر في ميادين التعليم    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    شبوة تتوحد: حلف أبناء القبائل يشرع برامج 2024    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    البحسني يثير الجدل بعد حديثه عن "القائد الحقيقي" لتحرير ساحل حضرموت: هذا ما شاهدته بعيني!    وفاة نجل محافظ لحج: حشود غفيرة تشيع جثمان شائع التركي    إصابة مدني بانفجار لغم حوثي في ميدي غربي حجة    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    القصاص ينزل من سماء تعز: إعدام قاتل بعد تحقيق العدالة لأولياء الدم    بارتي يشعل الحماس في صفوف ارسنال قبل مواجهة توتنهام    24 أبريل.. نصر تاريخي جنوبي متجدد بالمآثر والبطولات    البرق بتريم يحجز بطاقة العبور للمربع بعد فوزه على الاتفاق بالحوطة في البطولة الرمضانية لكرة السلة بحضرموت    شكلوا لجنة دولية لجمع التبرعات    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    الرياض.. أمين عام الإصلاح يستقبل العزاء في وفاة الشيخ الزنداني    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    كأس إيطاليا.. يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته من لاتسيو    رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    وزارة الداخلية تعلن الإطاحة بعشرات المتهمين بقضايا جنائية خلال يوم واحد    رئيس الاتحادين اليمني والعربي للألعاب المائية يحضر بطولة كأس مصر للسباحة في الإسكندرية    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    المهرة يواصل مشاركته الناجحة في بطولة المدن الآسيوية للشطرنج بروسيا    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    رشاد العليمي حاقد و"كذّاب" تفوّق على من سبقه ومن سيلحقه    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تفعل هذا الأمر    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حميد شحرة.. القصة التي لم تكتمل!
نشر في المصدر يوم 27 - 10 - 2009

مرت هذا الأسبوع الذكرى الثالثة لوفاة فقيد الصحافة اليمنية الأستاذ حميد شحرة مؤسس صحيفة الناس ورئيس تحريرها منذ صدورها في مايو 2000م، وحتى وفاته في 25 أكتوبر 2006م، في حادث مروري مؤلم على طريق حرض الحديدة بينما كان عائداً مع أسرته من أداء العمرة.

كانت "المصدر" قد نشرت في ذكرى وفاته الثانية نصاً سردياً للفقيد هو جزء من رواية كان يكتبها؛ لكن الأجل وافاه قبل استكمالها.

"المصدر أونلاين" ينشر هذا النص في الذكرى الثالثة لوفاته، سائلاً الله عز وجل أن يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته.


مغامرة صغيرة للنسيان
نظر (ع) إلى نفسه في المرآة، وراوده شك بأنه لا يعرف هذا الوجه، حدق في عينيه مباشرة فلم يجد سوى نظرة فارغة، ابتسم لكن ابتسامته لم تظهر على الوجه الذي أمامه. تنهد ومضى بعيداً عن المرآة.

آلاف المرات ينظر فيها للمرآة ويشعر أنه يحمل قناعاً لا وجهاً، بالأحرى وجهاً مستعاراً ليس وجهه هو. يحس أن ملامحه التي تظهر للناس لا علاقة لها بملامح وجهه التي يحسها. لا تعبر عنه ولا تنقل مشاعره كما يريد.

هذا الصباح استيقظ من النوم وعنده شعور داهم بأنه عاد من رحلة طويلة، وأنه مختلف عنه كل صباح.
إنه ليس نفس الشخص الذي آوى إلى فراشه في المساء.

عندما فتح عينيه أحس بضياع كبير؛ لا يعرف من هو؟ أو أين هو؟ ولا يدرك شيئا مما حوله..
صوت طفل صغير أعاده إلى إدراكه عندما هتف: أحبك يا بابا..
ثلاث كلمات أعادته إلى غرفة نومه التي يملأها ضوء الشمس.
إبتسم معانقاً الصغير وقبله قبلاً كثيرة وهو يحاول أن يتذكر اسم الصغير الذي ضاع فجأة من ذاكرته..
إنه ما زال هو..

يتسلل الشيب إلى رأسه وهو لا يزال يعتقد أنه لم يتجاوز العشرين.
تتقاذفه الأيام والسنون وهو غارق في ظن بعيد بأنه ما زال قادراً على كل شيء.

يكبر أطفاله الصغار الذين لا يعرف كيف فاجأوه باقتحامهم حياته هو الذي لا يزال يحس بنفسه طفلاً، ويتحسس العجز في مشيته لكنه لا يلتفت لذلك، يرجع ما يحدث له إلى ما حوله، أما هو فلا يتعب.. ولا يمرض... ولا يشيخ.
أحس جفافاً في فمه، وعزم على أن يطلب إلى زوجته كوبا من القهوة، لكنه آثر السلامة وبدأ في ارتداء ملابسه..
حاول أن يتذكر أحلامه البارحة، هل رأى أحلاماً في ليلته الغريبة هذه، التي خرج منها منهكاً ومتعباً كأنه جاء من سفر طويل؟

لماذا هو مثقل القلب، ومنطفئ، ورغبته في الحياة ليست على ما يرام؟
من المؤكد رأى أحلاماً كثيرة. لكنه لا يتذكرها، لا يتذكر شيئا على الإطلاق.
أحس بشوق غامض يجتاحه، ذات الشوق الذي يستشعره كلما أحس بالغربة عن حياته، وكلما أحس بعجزه، وكلما داهمه الألم والقهر

كانت أشواقه المبهمة الغامضة تزداد قوة كلما فكر بمعنى الحياة، وأرهقته الأسئلة الكبرى عن الوجود، إحساس غامض ورهيف يجعله في حالة انتظار وتوق لا حدود له لشيء غامض أيضاً لا يستطيع أن يتبينه ولا أن يعرفه.
إنه يعرف أن مشاعره هذه بسيطة، وتطوف بكل البشر وليست حكراً عليه وحده، لكنه كان يحس إحساساً عميقاً أنه الوحيد الذي يتوقف عندها ويرقبها ويترصدها، ويستطيع أن يحدد الوقت الذي ينتقل فيه من حالته الطبيعية إلى هذه الحالة من الغربة ومن العزلة ومن الشوق الغامض والحزن النبيل الذي لا يقف وراءه سبب ظاهر ومحدد.
لكنه اليوم لا يعرف متى حدث هذا التحول الشعوري، كان قبل أن ينام يضحك، لم يكن مكدراً، ولا متعكر المزاج.
ما الذي حدث خلال ليلته، كيف جرى التحول وفي أي مرحلة من مراحل نومه؟.. سأل نفسه بغير رغبة في الوصول إلى إجابة.

تعود أن يدير حواراته مع نفسه دون أن يهتم لآراء الآخرين فيه. وهو في أحايين كثيرة يحاور نفسه بصوت مرتفع، مما يوحي لهم بأنه ممسوس، كما أنه قد يغرق في الصمت ليفكر ناسياً من حوله وذاهلاً عن كل شيء في خلوة شعورية تعزله عن العالم كله، فيحدثونه ولا يسمع وينادونه ولا يجيب.

عندما لفظه منزله إلى الشارع، شعر بأشعة الشمس الدافئة تصارع موجات البرد الشتائي الذي يجعل صنعاء أكثر كآبة. كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة صباحا، ومع ذلك فإن البرد كان شديداً. أحس برعشة تطوف جسده كله، وخالجه شعور أنه لن يعود إلى منزله هذا اليوم.

مرت دقائق طويلة قبل أن يسمع محرك سيارته وهي تجعر، فكر خلالها بأكثر الطرق أماناً للتخلص من السيارة دون أن يتعرض لحادث أو يتعرض شخص آخر لحادث بسببها.

وفيما هو ينطلق رجح أنه سيموت اليوم بحادث سير لأن سيارته لم تكن طبيعية. وشعر بلا مبالاة تجاه فكرة موته. حدث نفسه: شيء ما سيحدث اليوم، ليس مهماً ما يكون، عابراً أو مصيرياً، ساراً أو محزنا، المهم هو أن لا يكون عاديا.

طالما حدثت نفسي أنني أنتظر حدوث شيء غير اعتيادي يغير حياتي، آويت إلى فراشي أحمل أمنية وحيدة أن أستيقظ صباحاً على مفاجأة مذهلة تقلب أيامي وصباحاتي رأساً على عقب. ولكن كل صباح أكتشف أنه تكرار لصباح قبله. يوم طويل هذا الذي أعيشه منذ زمن بعيد.

وفجأة همدت السيارة ولم تعد تصدر صوتاً. لم يضق صدره كالعادة، تدافع عدد من الأشخاص ليزيحوها عن الطريق، أغلقها ومضى على قدميه باتجاه ميدان التحرير الذي بدأت الحركة فيه تتزايد، والناس يتوافدون والتجار يرتبون بضائعهم.

منذ شهور وهو يعبر هذا الشارع دون أن يتأمل الناس على جانبيه.
الوجوه كلها ذابلة وممصوصة، ثمة إحباط يغلف ملامحها، واستسلام للمجهول يطل من العيون.
قرر أن يقوم بجولة على قدميه، لا رغبة له اليوم في العمل، حتى العمل نفسه لم يعد قادراً على تبديد شعوره بالملل.

تَلْفَنَ من هاتفه المحمول إلى مساعده بأن يقوم بعمله ومضى إلى قلب التحرير، وهو يمني نفسه بمغامرة صغيرة تبدد ضجره.
قبل عشر سنوات مضت، حمل حصيرته وزوجته وقرر أن يصبح من ساكني صنعاء، هارباً من رتابة الحياة في مدينته الريفية النائية.

كانت أول جولة استكشافية له في مدينته الجديدة في الجزء القديم منها. صنعاء القديمة التي سحرته في صباه عندما كان يراها مصوَّرة على المجلات واللوحات السياحية والتقاويم السنوية، أي جمال ومهابة في هذه المدينة العتيقة. التي تتلألأ بيوتها السامقة تحت أشعة الشمس كسبائك الذهب.

تغيب عن ذاكرته تفاصيل تلك الجولة، فذاكرته التي ملأها الصراع اليومي من أجل لقمة العيش بمئات الثقوب لم تعد قادرة على تذكر شيء مما مضى من عمره، يشعر في أحايين كثيرة أنه رجل بلا ذاكرة.
لكنه يتذكر الانطباع الأول الذي خرج به من هذه الجولة. لقد فقدت صنعاء القديمة سحرها في نفسه، إنها مدينة قذرة، الروائح الكريهة التي تنبعث من أزقتها وأكداس القمامة التي تزاحم العابرين في شوارعها الضيقة، وملامح البؤس التي تطل من وجوه الناس، وتشي به الأسمال التي يلبسونها، كل ذلك جعلها مجردة من مظهرها الملكي الذي يراه في الصور السياحية ويصورها مدينة أسطورية وجزء من غموض الشرق القديم وخرافاته، فإذا بها من الداخل مدينة مطحونة، ومهملة، يأنف الميسورون أن يسكنوها فتركوها للفقر والفقراء.

قال كثيرون قبله إن المدن تشبه النساء، وبعض النساء لها سحر يذهب باللب، فإذا اقتربت منها أكثر اكتشفت زيف سحرها، وصنعاء كانت مدينة من هذا النوع من النساء.
كان تقارب البيوت الشاهقة وتلاصقها يثير خياله، فيحسب أن سكانها أيضاً يعيشون حياة مشابهة، متلاحمين ويسند بعضهم بعضا. تمنى أن يسكن في دار من دورها، ليحس بقوة التعاطف الإنساني وروعة الجوار، وكان على استعداد لتحمل العيش في بيت قديم يفتقر إلى السعة والنظافة والعلاقة بمستجدات العصر وإنتاجات العلم، مقابل هذا الشعور. إلا أنه تحمل مساوئ السكن ولم يتحمل صدمة القطيعة التي واجهته بها هذه الدور المتلاصقة. كانت صنعاء القديمة ترفض الغرباء وتعاملهم بدونية فغادرها غير آسف.

مضى باتجاه بستان السلطان، الذي تحول إلى مجمع لقصور العائلات الحاكمة والعائلات التي ترتبط بها في الزمن الغابر وحتى الآن، كان بستان السلطان مجموعة من الحدائق التي خص بها السلطان الأيوبي توران شاه نفسه بها إبان سيطرة الأيوبيين على صنعاء، وقرر أئمة صنعاء ضمها إلى أملاكهم بعد رحيل الأيوبيين.
تذكر هذه المعلومة مشفوعة بسؤال عبر رأسه: من سيرث القصور التي تبنى الآن في الجهة المترفة من صنعاء الجديدة؟

كف عن طرح أسئلة تنم عن حقد طبقي منذ التزم فكراً يجرم الصراع الطبقي باعتبار الجميع أهل ملة واحدة. لكنه ظل يفكر في علاقات الناس بالناس. والمال بالدين، والأخلاق بالسياسة. وكطفل في عالم الأفكار ومراهق في سوق السياسة، لم يتسن له الوصول إلى إجابة محددة، لكنه ظل مخلصاً لمشاعره البدائية تجاه مسألة العدالة، وعبثاً حاول إقناع نفسه بأنها مستحيلة. صارت له قناعاته الخاصة التي دفعته باستمرار إلى تحقيق نجاح عملي، لكنها ظلت ناقصة فعكست نفسها على نوبات من الضجر والملل تتفجر في أوقات متباعدة، زادت وتيرتها قسوة بعد ولوجه العقد الرابع من عمره.

عبر الممر الحجري الجديد دلف إلى السائلة التي رصفت مؤخراً وزينت بجسر للمشاة جميل ومتواضع يفضي إلى أول سلسلة من البيوت المتلاحمة.
قرر أن يكف عن شغل ذهنه بأسماء الأحياء والحواري، وأن يمضي بهدوء ليتفرج على المدينة التي صارت جزءا من الموروث الإنساني وتحت رعاية دولية تحميها من الانقراض، تاركة سكانها لهذا المصير.

تذكر شاهد فيلماً سينمائياً أوروبيا أنتج في مطلع السبعينات عن حكايات ألف ليلة وليلة صورت معظم مشاهده في صنعاء التي كانت آنذاك صغيرة وباقية على حالها منذ مئات السنين. فتنه الفيلم الذي جعل صنعاء أكثر سحراً، ومسرحاً للخيال المراهق.
شده مشهد في الفيلم، ابن التاجر المنهوب يتجول متعباً في زقاق ضيق، لا يعرف ماذا يفعل، عندما انفتحت نافذة خشبية أطلت منه صبية حسناء، نظرت إليه وأصابته بسهم من عينيها قاتل، وبدأت قصة الحب التقليدية، بين الفتى والفتاة، مع بعض الألغاز المبهمة والمغامرات التافهة التي تمتلئ بها قصص ألف ليلة وليلة.

عصر يوم، دفعه ضجره إلى السير في زقاق ضيق متلكئاً وهو ينظر إلى النوافذ التي لا تفتح، وقاده خياله إلى ما هو أبعد من نظرة قاتلة لغادة هيفاء لا تعاني من الأميبيا والطفيليات التي أسقمت حسناوات اليوم، تساءل إن كان سيجد زنبيلا كبيراً أمامه يجلس فيه فيرتفع إلى الأعلى ويفاجأ بثلاث صبايا يستقبلنه بمرح ويقدنه إلى مجلس لهوهن، فيغرق في نعيم الصبا والشباب. كما جاء في مشهد ماجن في الفيلم، استنكر خياله الفاجر واستعاذ منه وقنع بالنظرة التي تورث الحسرة، إلا أن كلباً عقوراً، لا يعرف من أين جاء هجم عليه كأنه مارد من مردة ألف ليلة وليلة، لم يتمكن من الإفلات من أنيابه إلا بصعوبة وبجرعة كاملة ومؤلمة من مصل الكلب، جعلته ينصرف كلياً عن التفكير ثانية بأن أزقة صنعاء القديمة يمكن أن تكون مسرحا لقصة حب لا تنتهي بالنباح.

الناس هم الناس في الشوارع الزقاقية لصنعاء العتيقة، إلا أن البؤس صار أبلغ تعبيرا عن نفسه.
لاحظ أن الأزقة نظيفة، والروائح لم تعد فواحة، لكن الأسمال البالية طالت الصغار والكبار، والشباب الذين يعبرون الطريق لا تقل وجوههم تغضناً وانكساراً عن أولئك المسنين الذين تجمعوا أمام دكان صغير وهم يتحدثون، ويضحكون، ولا يدري ماذا يقولون.

مرت بمحاذاته امرأة في منتصف العمر وهي تتلفع زي الخروج التقليدي لنساء صنعاء وهي تسحب وراءها طفلة مغبرة، تبكي بحرقة، والمرأة تصرخ فيها وتأمرها بالسكوت.
نظرت إليه المرأة باستغراب، فخلع ربطة عنقه، وهمّ أن يقول لها أن الطفلة تحتاج إلى معاملة أفضل، إلا أن صوته ضاع، قد لا تفهم ما يقوله لها وتنشأ مشكلة، فاكتفى بالابتسام ومضى.

كان قد قطع مسافة بعيدة وصار على مقربة من أقدم أسواق صنعاء، سوق الملح، الذي ليس فيه ملوحة، بل سحر الحوانيت الصغيرة وجو الألفة والدفء الذي يلفه.
ثمة نداءات مكبوتة، عميقة، تدعوه إلى التوغل في فهم حياة مدينة رفضت أن تقبله.
أجال بصره عالياً فقابله لون الطين والحجر في البيوت العالية.

أرجع بصره كرة أخرى إلى الناس، وآلمه منظر الوجوه الطيبة، وهي ممصوصة، ومرهقة، تحدق فيه ببلادة ممزوجة بحرمان ورغبة في حياة أفضل، وتساءل: ما الذي يمنعهم من تغيير حياتهم إذا كانوا ساخطين عليها؟.
لطالما أرقه هذا السؤال، وعبثاً حاول التوصل إلى قناعة. إلا أنه رجح أن تكون ثقافة الاستبداد السياسي والفكري والديني أيضاً قد ترسخت عبر تراكمات قرون من الظلم والقهر والجهل وصاغت الشخصية اليمنية بهذا الشكل المشوه، الذي يستسلم لوضعه أياً كان ويرفض التضحية من أجل نفسه أو الآخرين متوكئاً على القدرية والمشيئة الإلهية والعرف الاجتماعي البائس. ويختار أقصر الطرق، تعلم أن لا يطيل نفسه حتى يصل إلى هدفه. إن كان له هدف أساساً.

وضع حداً لرغبته في قيادة الجماهير إلى المستقبل الباسم عندما استغرق في قراءة تاريخ هذا البلد العجيب.
لقد خلص إلى نتيجة موجزة: القضايا العامة تخسر في هذه البلاد، القضايا الشخصية يمكنها أن تنجح. تحتاج هذه الأرض ذات السيادة المحكومة بالفوضى والحكام الجهلة محدودي الأفق والذين تخلو رؤوسهم من أي مشروع، إلى جيل جديد يعرف كيف يفكر وكيف يخطط وكيف يراقب نفسه عند التنفيذ.

وقبل كل هذا يعشق الحرية ويقدرها، يعلمها أيضا. وجيل هذه مواصفاته ليس من المؤمل أن يظهر مع كل الفساد التربوي والتعليمي، والتدهور الاقتصادي الذي يصنع النقيض تماماً، جيل بلا هدف ولا قدرة ولا مستقبل.
أيقظه من تأمله صرخة طفل تدعوه إلى أن ينتبه، لكنه لم ينتبه إلا والدراجة المسرعة توقعه أرضاً.
تحاشى نظرات من حوله ونهض باسماً وهو يهدئ من روع الصبي الذي شرع في النحيب وإظهار إصاباته بصورة مبالغة.
فكَّر: أردتها مغامرة للنسيان فجاءت مليئة بالأسئلة التي أتعبتني؟

أسرع في مشيته متوجهاً إلى قلب السوق، متخذاً أقرب زقاق إلى حانوت يتفنن في صنع الشاي والقهوة. طلب كوباً من البن الكثيف ثم حدث نفسه كسائح يروي خلاصة رحلته:
لماذا يكبر حزني اليوم؟ إنه هائل كأن أحزان ساكني هذه الدور تجمعت وحطت فوق قلبي. إلا أن بيوتهم المتلاصقة تسند بعضها بعضاً فيضيع الحزن في أزقتها، أما أنا فوحدي لا سند لي ولا طاقة.

كم أنا متفرد ومستوحد في هذه المدينة! لا توجد لغة بيني وبينها، أكرهها وأحبها، أعيش مآسيها الكبيرة، ولا تشاركني آلامي الصغيرة.
هي لا تحس بي، ولا تلتفت إلي، تمضي في استهلاك أيامي في محاولات فاشلة للإجابة على أسئلة لم تطرحها، ولم تفكر فيها، لأنها غارقة في مضغ الفضائح والجوع والنكات البذيئة في مجالس القات.

أتخيل نفسي نقطة سوداء ضائعة في متاهة عبثية، كائناً غريباً يقتحم رتابة الحياة في مدينة مضمخة بالضجر ومسكونة بالعجز والانتظار.
أراني لطخة فرشاة على لوحة باهتة الألوان، لطخة تتوهج برغائب محتدمة تتلظى لكشف المستور، لكنها تستحيل إلى ثقب أسود يبتلع نفسه، أو فوهة بركان يتأجج حمماً وتنحبس في جوفه كلما همت بالثوران. أو طعنة غائرة في جدار من قضاض.

لدى هذه المدينة عالمها السري، لديها مباهجها أيضا، ولديها حياة أخرى مليئة بالمجون.
زعموا أن الليل يستر الكثير، وأن ما عجز الليل عن ستره لفضاعته يولد كل صباح على شكل فضيحة يلوكها الناس لصباحات وأماسي كثيرة، بألم زائف، وتشفي مفضوح.
أما النساء فسر مغلق، ومحط الإثارة ومصدرها. يبدأ الأمر بالمرأة وينتهي إليها. الكثير من الوهم، المزاج اليومي يجعل أكثر البائسات المسحوقات في بلد بلا نضارة غيداً حساناً خارقات الجمال.

لا يعترف الناس بأنهم مشاريع فضيحة. الكل ملائكة فمن أين تتناسل الشياطين؟
هذه مدينة غذاؤها اليومي الشكاوى والتأوهات، ومقيلها ذروة الحياة، ففيه يمارس الناس نقاشاتهم العقيمة محشوة بالفضائح والشائعات، ويلفظونها مع بقايا القات، ليتعاطوا جرعتهم الليلية من الحسرة والكآبة.
أنت لا تعيش يا أنا. أنت وحدك سرب لوحده، تغرد وحدك، ولا يسمع صوتك. كل عام تقول نفس الأشياء وتصل إلى نفس القناعة. ألم يئن الأوان كي تيأس وتبحث عن سرب لك؟

ألا يكفيك ما مضى وأنت تركض وراء شيء لا تعرف ما هو؟ وتسعى إلى الوصول إلى شيء غامض لا تعرفه؟ كم بقي من العمر حتى تبدده في الركض وراء أشواقك الغامضة؟
نهض (ع) وقد عزم أن يبتعد عن هذا المكان حتى لا تتحول النزهة إلى سبب إضافي للانهيار.
تجاهل (ع) ألمه الذي أحس به فور انتهائه من شرب القهوة الثقيلة، وتوجه إلى مخرج السوق قاصداً زيارة باب اليمن.

كثيراً ما تساءل عن سر تسمية البوابة الرئيسة لصنعاء العتيقة بهذا الاسم: ألأنها البوابة الجنوبية للمدينة فسميت على عادة العرب (ما كان شمالاً فهو الشام وما كان جنوباً فهو اليمن)، أم لأنها بوابة العاصمة التي تجمع شمل أهل اليمن القادمين إليها من أقاليم هذا البلد الغني بتنوع عاداته وثقافاته ولهجاته وأزيائه!
لم يكن يستسيغ هذه التسمية لأن اليمن أكبر بكثير من أن يكون لها باب واحد. إنها عالم كامل من الشوق والحرمان والطيبة والبؤس والإيمان الذي سجنته الحكمة.

انحدر هابطاً باتجاه الباب وهو يرمق أتلال المكسرات والزبيب وباعة التحف والجنابي بدون اهتمام، حتى وصل إلى باحة الباب. اندهش لنظافتها وحسن ترتيبها. كانت آخر زيارة قام بها إلى هذا المكان قبل عدة سنوات. وكانت الساحة مكتظة بالباعة الجوالين وتجار الثياب المستعملة، وأصناف لا حصر لها من البضائع الرخيصة.
لا شيء جديداً يستحق التأمل في هذا المكان الذي تم تجديد بعضه بطريقة لا تمنحك الشعور بأن التاريخ يقف أمامك. ثمة محاولة تلفيق واضحة لربط الماضي الساحر بالحاضر المبهرج بلا مضمون حضاري.

في الزاوية الغربية للبوابة شاهد عجوزاً محتبية، وقد بسطت أمامها رقعة قماشية عليها بعض الخرز والقواقع مختلفة الأحجام والألوان، ويجلس قبالتها شاب تحدثه، فيما يقف آخر إلى جواره.
اقترب منها وهو يتذكر المنجمة العجوز التي كانت تجلس على رصيف التحرير قبل سنوات نفس هذه الجلسة الخرافية، وكم راودته نفسه أن يدفع إليها بعض القروش لكي تخبره بالمستقبل، ولكن يمنعه اعتقاده في التنجيم باعتباره ضرباً من الدجل وتطاولاً على الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.

وقف على مقربة من العجوز التي توقفت عن الكلام ونظرت إليه بعين واحدة كبيرة لم تعد تحمل شكل العين الطبيعية، وكانت العين الأخرى شبه مغمضة تطل منها قطعة لحم حمراء قانية. كانت العجوز سمينة ذات جسم قوي، وساعداها مليئان بأساور رخيصة زائفة. شعر بالتوتر من لفتتها هذه، فنظر إلى الأرض. عادت هي إلى الشاب (الذي يقف أمامها) تخبره:
... وستتزوج اثنتين، وترزق من الأولاد سبعاً ومن البنات خمساً، وتعيش حياة طيبة.
- من سأتزوج؟ هل تخبريني من سأتزوج؟ قال الفتى بقلق.
- ابنة تاجر كبير، والثانية مطلقة، أبوها على كتفيه نسر... قالت العجوز باسمة بخبث.
- ألا توجد فتاة أبوها مدرس. لا أريد ابنة التاجر ولا ابنة حامل النسر، أريد أن أتزوج ابنة جارنا. صاح الشاب بيأس، وأردف: كنت أعرف أنها ستطير مني، أبوها لا يريدني.
ضحكت العجوز وقالت: ما أدراك؟ ربما تكون ابنة التاجر هي ابنة المدرس، ربما ينتقل إلى التجارة قريبا، وتصبح مهنته الجديدة، وتتزوج من تحب!

انفرجت أسارير الفتى وهتف: صحيح ربما يحدث ذلك، هو لا يحب التعليم ولا يكفيه دخله من هذا العمل، من المؤكد أنه سيصبح تاجراً.
بدا السرور على وجه الشاب، وتبسمت العجوز راضية. لكنه عاد ليقطب حاجبيه ويسأل: ولماذا أتزوج ثانية؟ أنا أحب زوجتي ولا أريد ثانية.

بدا الضيق على وجه العجوز وهي تغمغم: يا ولدي هذه هي الأقدار، لست أنا من سيزوجك بثانية. ارض بما كتب لك فهناك حكمة إلهية في هذه الأمور.
قال الرجل الواقف إلى جوارهما: احمد الله يا أخ، يوجد ناس يحلمون بذيل فستان، وأنت أكرمك الله باثنتين. وفوق ذلك تاجر ينفق عليك، وضابط يحميك من خصومك.

نهض الشاب صارخا: وأنت ما دخلك؟ وليش تحشر نفسك في شؤوني؟
احتد الرجل وهو يطوح بذراعيه: أنت لا تستحق النعمة؛ تنخط هكذا وأنت لم تتزوج بعد بنت الضابط ولا بنت التاجر، حتى بنت المدرس بعيدة عنك. فلما تتزوج أيش تعمل؟ سبحانك يا رب!
تماسك الرجلان وكل واحد يكيل الشتائم للآخر. تجمع الناس بسرعة، وبدأ الجميع في التدخل لإحلال السلام بين المتماسكين، وسرعان ما اشتبك المتدخلون مع بعضهم بدون سبب واضح واختفى الشاب والرجل في لحظات. في حين استمر الصراخ يعلو من المتجمهرين حتى بدأوا ينسحبون واحداً إثر الآخر.

كان (ع) يرقب المشهد وهو يبتسم. كان يعلم أن الأمور قد تنتهي بقتيل وعدد من الجرحى كعادة الناس في بلاده، الذين يمتلكون من الشهامة والطيبة ما يكفي لأن يخوض أحدهم حربا لمجرد أنه لم يتمكن من فض الاشتباك وصار لزاما عليه أن يأخذ موقعه القتالي إلى أقرب المتخاصمين إليه لهجة أو ملامحاً.

يذهله التضامن الذي تخلقه العصبية القبلية في هذا المجتمع؛ يمكن للمرء أن يقاتل بدون أن يعرف السبب بكل حماس، فقط لأن ابن قبيلته طرف في هذه الحرب. ربما بدأ الناس في المناطق الحضرية يتخلون عن هذه العصبية، ولكن لا بديل لهم يؤمن حقوق المواطن الضعيف وينتصر له، لأن ممثلي القانون يمكن أن يبيعوا القانون لمن يدفع، أو يتجاهلونه لمن يملك نفوذاً.

في غياب القانون تصبح القبلية سياجاً آمناً يحتمي به المواطن المتمسك بعرفه القبلي.
ثمة مناطق شاسعة في هذا الكوكب الغريب المسمى "اليمن" يستوطنها أغلب السكان محرومين من هيبة القانون ومن نعمة القبيلة.
عبرت هذه الخواطر ذهن (ع) وهو يقترب من مكان المعركة الغريبة ليبحث عن العجوز التي حجبها المتعاركون عن نظره.

كانت لا زالت في مكانها، إلا أنها صرّت قواقعها ورملها في نفس الرقعة، وتشبثت بها بقوة.
- السلام عليكم يا خالة.. بادرها وجلاً.
- تدفع مقدماً. ليس قبل أن تدفع. يكفي أن العاشق ذهب بدون أن يدفع... غمغمت العجوز. وأضافت: لقد اتفقا على هذه المشاجرة حتى لا يدفعان، أليس كذلك؟
أحس بالشفقة على هذه البائسة. كيف يمكن لمخلوق تعيس مثل هذا أن يعلم الغيب؟! كيف يمكنها أن تزوج وتثري وتمنح المستقبل للناس وهي على هذا الحال من البؤس، ومن شظف العيش؟! أين تذهب عقول الذين يأتون إليها باحثين عن أسرار الغد؟! ما الذي جعله وهو يفهم كل هذا يقبل إليها، ويحييها وهو خائف، كأنه يترقب أن تفتح له كتاب القادم من أيامه، ويخاف مما سيسمعه منها!

هل يظن أن مثل هذا الكائن العاجز -الذي لم يعرف أنه سيقع ضحية شاب يبحث عن أخبار مستقبله مجاناً- قادر على أن يكشف له مستقبله ويجلي له المجهول الذي تحمله له أيامه القادمة؟
قذف لها ورقة نقدية فأخرجت كيس نقودها المهترئ، وأعادت له عدة أوراق نقدية أصغر وهي تغمغم: هذا الباقي يا ولدي، إقرأ حظك بمائة ريال بس.
- لا أريد. أنا أعرف حظي جيداً.. خذي هذا لك، لا أريد منك شيئاً، شكراً، اهتمي بنفسك يا خالة. قال لها ذلك ونظر إليها بإشفاق.

لمح دمعة ترقرقت في عين العجوز التي رفعت يديها وهي تدعو له بتأثر حقيقي وغمغمت: أنت لا تصدقني؟
- وهل تصدقين أنت ما تقولينه؟
- لا، ولكن ماذا أفعل؟ وكيف تعيش امرأة مسنة مثلي؟
- يمكنك أن تعملي أي عمل آخر غير الكذب على الناس.
- أنا لا أكذب عليهم، أنا أدخل إلى قلوبهم السعادة. أقول لهم فقط ما يريدون أن يسمعوه. الناس يخافون من المجهول، وأنا أطمئنهم. أمنحهم أملاً بأن ما ينتظرهم أفضل. هم لا يصدقونني، لكنهم يصدقون أحلامهم. ابتسمت وهي تضيف: أقول لهم بأنهم سيصبحون أغنياء ويعيشون حياة طيبة. سيتزوجون ويتزوجون بمن يحبون، وسينجبون أطفالاً أصحاء، ستطول أعمارهم، لا أخيفهم أبداً، سيكون لديهم وقتاً كافياً لكي ينتظروا تحقق هذه النبوءات بدون قلق أو ضنك بالحياة.

فكَّر بأن هذه العجوز حكيمة أكثر مما يوحي به منظرها. كانت تقول كلاماً يفكر فيه، ولكنه احتار في كيفية تحويل هذه الأفكار إلى طريقة محسوسة لصناعة الأحلام. لجعل الحياة أكثر قابلية لأن تعاش، وجعل الناس قادرين على التفكير بالمستقبل دون خوف.
هل يمكن خداع الناس بالدجل والشعوذة وادعاء معرفة الغيب وتصنيع أحلام جاهزة بمقاسات مختلفة لكي تناسب كل المستويات وترضي جميع الأذواق؟ لو كانت هذه الطريقة آمنة وفعالة ما كانت الأديان كلها ناصبتها العداء.

- حتى زعماء العالم الصناعي المتقدم الذي هو ثمرة العلم التطبيقي لهم هوس بالمنجمين ويسلمون لهم القياد، يمكن للعقل أن يأخذ إجازة طويلة عندما يتعلق الأمر بالمجهول. ضحك في سره وهو يتخيل تفاهة السياسيين وهم يتنازلون عن حنكتهم ودهائهم ومكرهم مقابل مشورة لدجال أو مشعوذة تزعم أنها تعرف المستقبل وتكشف الغيب، وبيدها صعود نجمه وهبوط أسهمه.
ودَّع العجوز التي عادت إلى حبوتها، ومضى خارجاً ولم يلتفت، ليرى المنظر الساحر للباب بعقده المزخرف وهو يواري بيوت صنعاء المتلاصقة. إنه سحر كاذب، وعظمة مزيفة.

أحس بالندم لأنه لم يترك العجوز تقرأ له طالعه. تمنى كثيراً أن يعرف ما يخبئ له الغد، عندما صار قريباً من تحقيق رغبته القديمة أدار لها ظهره، هل كان سيصدق العجوز وهو على يقين أنها كذوب. هل هو بحاجة إلى حلم وأمل، كذبة كبيرة عن المستقبل، وهم جميل يتعلق به، يخرجه من حياته المضجرة هذه، وهم لا يصنعه هو، ولا يكتشف زيفه!
حياته شديدة الواقعية، بل واقعية أكثر مما ينبغي، وهو الآن غير قادر على التخفيف من واقعيتها كما كان يفعل إلى وقت قريب.

لا يعرف منذ متى بدأ ينفصل نفسياً وروحياً عن حياته، لكنه يعرف متى قرر أن يتوقف عن هذه اللعبة الخطرة.
كانت لعبته تقتضي أن يحيا حياتين، حياته المعتادة التي لم يخترها، وحياته الأخرى التي من صنعه.
في الأولى يتعامل مع مفرداتها بجدية أقل، وبشعور عميق أنها لا تخصه، لا وزن لمتاعبها عنده، لا يعنيه إن خسر كما لا يفرح إذا كسب.
الثانية هي التي تعنيه، هو وحده كل أطرافها، حياة افتراضية تمده بالقوة والمقاومة والرغبة في تحويلها إلى حياة حقيقية.

يبنيها كما يريد. يحيا فيها قادراً لا يشعر بغصة العجز ولا بمذلة الوهن. يرتبها ويشكلها ويهيئها لاستقبال أعظم أوهامه وأشدها سحرا. موعده المؤجل الذي لا يأتي أبداً. لحظة اكتماله التي ينتظرها دون جدوى.
يحمل عالمه هذا في أعماقه، ويحيا لعبته هذه بتناغم دقيق.لا يشك أحد بأن رجلاً بهذا الألق والتوقد يخفي سراً بحجم هذا العالم.

يفاجئ نفسه حيناً بهذا الازدواج الرهيب، فتنتابه كآبة عميقة، يشاهد انهيار عالمه الخاص، وتصرعه الغصة والقهر وهو يكتشف أن ما يبنيه خارج الزمان والمكان محض وهم لا مكان له على أرض الواقع، وأن العمر يمضي ولن يتذوق مباهج الحياة التي لم يعشها، الحياة التي ينتظر فيها أعظم مواعيده وأكثرها قدسية.
عندما يحدث ذلك، كان ينكسر، يتألم وحده، يبكي على أطلال عالمه حد النحيب.
قيل إن أكثر الناس حزناً هم أكثر الناس مرحاً ولا يكفون عن المزاح، وهو اختبر هذه الحقيقة، وأثبتها.

وكما كان له عالمه الخاص فله حزنه الذي لا يراه أحد. كان مع الناس يفيض سخرية ومرحاً، وحين يختلي بنفسه ينتحب على أطلال عالمه المهشم.
كان لديه ما يدفعه باستمرار إلى خلق وهم جديد وعالم جديد وانتظار جديد، فيعود إلى حالته الأولى حتى ينهار مرة أخرى.
ذات مرة قرر أن يتوقف عن هذه اللعبة. قرر أن يكون له حياة واحدة وعالماً واحداً فقط. وعليه أن يحيا في الواقع الذي لم يختره، لكنه اختار أن يغيره.
هذا القرار كان قاسياً، لكنه كان أجدى من الحياة في الوهم.

قرر أن يهيئ حياته لأعظم مواعيده، وأن يكون مستعداً عندما يحين موعد اكتماله. لكنه مع طول انتظاره أدرك أنه تغير كثيراً، صار أكثر كآبة وأقل احتمالاً للهزائم.
شعر أن الزمن غدر به، لم يمهله حتى ينصرف من تلقاء نفسه، كان عليه أن يغادر زمنه خالي الوفاض، ولم يكن يرغب بذلك، لكن الزمن لا يحترم رغبات أبناء الطين.
وها هو الآن على رصيف شارع الزبيري، لا يعرف وجهته، ولا ماذا تبقى له. لحظة أخرى من لحظات الزمن المفقود. الزمن الذي لا يستعاد.

حدَّق في السماء الصافية. وشعر بالشمس اللاهبة تلذع وجهه فأغمض عينيه وتنهد.وجد (ع) نفسه أمام مقبرة خزيمة، المقبرة الرئيسة لصنعاء.
كانت ممتدة الأطراف في كل الاتجاهات فيما مضى، لكن موقعها الاستراتيجي في قلب العاصمة، دفع الأحياء إلى التهامها قطعة قطعة حتى تضاءلت، وتزاحم الموتى الجدد فوق قدامى الموتى والقدامى الذين نقلوا من قبورهم على الجدد، ولم تتبق قبور معلومة إلا لمن كان له نصير من الأحياء ينافح عن المثوى الأخير لميته من الاحتلال والتوطين.

كان يعرف أنه هذه اللحظة في المقبرة ذات الصيت التاريخي والشعبي بدافع خفي -ربما- تحت تأثير مزاجه الغرائبي في هذا اليوم.جال بعينيه أرجاء المقبرة، ثمة امرأة متلفعة بالسواد وإلى جوارها فتى في مقتبل العمر يجلسان إلى جوار قبر حديث، له ضريح من الرخام، والمرأة تضع غصن شجرة في أعلاه، والفتى يسكب عليه الماء.
على مقربة منهما رجل يمشي بين القبور وهو يقرأ أسماء الناس عليها. لم تكن ملامحه واضحة، لكن من مشيته الوقورة ويداه خلف ظهره، يبدو رجلاً يبحث عن العبرة والعظة، وكأنه يتحقق من ألقاب سكان القبور، ليتيقن أن الموت لا يفرق بين من كان في الدنيا أميراً ومن كان أجيراً.

في الطرف الآخر رجل في منتصف العمر يحفر قبراً بهمة عالية وقد شمر عن ساعديه ورفع ثوبه إلى منتصف جذعه، يساعده شاب عشريني في إزاحة التراب عن فوهة القبر.
كان الهدوء يسيطر على المقبرة، وزقزقات العصافير ترتفع بين الحين والآخر، مع همهمات حافر القبر.
نظر باتجاه الزاوية الشمالية للمقبرة فطالعه البنك المركزي، سيد مصارف البلاد وأكثرها تأثيراً في معيشة الناس، المتخم باحتياطي نقدي تم جمعه من مدخرات الناس، تحسباً لنكسة اقتصادية متوقعة.

وإليه يعزى الكساد الذي أصاب الحياة الاقتصادية وأوقف مشاريع الاستثمار الجديدة وهدد القائم منها فعلاً. كان المركزي يطل بسخرية مهيبة على خزيمة وكأنه يقول: أنا أوصلتهم إلى هنا، والبقية تأتي...وكان صمت القبور أبلغ رداً على هذه المفارقة المضحكة التي يصنعها البنك بوقوفه مزدهياً إلى جوار مقبرة بائسة وجدباء كخزيمة.حاول أن يتذكر أين يثوي صديقه عبدالله.

مرت سنوات على رحيله بطريقة لا تتناسب مع حياة هذا الصديق ولا طبيعة شخصيته. ودفن هنا وحيداً وهو الذي لم يعش وحيداً أبداً.اتجه جنوباً مهتدياً بما تبقى من ذكرى الدفن إلى القبر الذي يسكنه الآن عبدالله بدون أن يبدي احتجاجاً على جيرانه أو اعتراضاً على الصمت الذي لم يكن يحبه. فهو الصاخب دوماً، المثير للجدل، واللاذع في النقد، والصادق في المودة، والأطهر قلباً بين من عرف من الأصدقاء.

لخمس سنوات مضين وهو يحاول أن لا يتذكر عبدالله، لأن صدمة موته كانت أكبر من طاقته على تصديق جدية الموت.
مضت الشهور الأولى على موت عبدالله كأسوأ ما تكون، فقد عجز (ع) عن استيعاب فكرة رحيل عبدالله بهذه السهولة، وبهذا السبب التافه الذي أودى بحياته دون خجل منه؛ قيل إن عبدالله -نحيل الجسد سريع الحركة- اختل توازنه وسقط أرضاً، ولم يستيقظ بعدها، إذ أصابته حجرة صغيرة في مؤخرة عنقه أفقدته الوعي.
ظل عبدالله الذي كان ساخراً من العيار الثقيل يهزأ بموته سبعين يوماً قبل أن تفيض أنفاسه وتفارقه روحه.

لا يعلم أحد إلا عبدالله وربه ما الذي حدث في هذه الغيبوبة الطويلة. كان (ع) على يقين من عودة عبدالله سالماً إلى أهله، لأنه لا يموت هذه الموتة رجل بحيوية وتوقد و سخرية عبدالله.
هذه موتة تافهة لا تليق برجل عظيم، كان يشعل الحرائق أينما حل بحق أو بباطل. كان يتلفن بين الحين والآخر إلى عبدالله كعادته، لكن عبدالله لم يكن في بيته مع أطفاله محط فخره وزهوه.
كان ثاوياً بجسده الذابل في قبر عادي. قبر يمكن أن يكون لأي شخص ليست له حياة عبدالله غير العادية، ولا روحه التي لها ألف خيال مجنح.

عندما تعرف إلى عبدالله بعد خلاف عنيف، آنس إليه على الرغم من فارق العمر بينهما، كانا ينتميان إلى الفصيلة نفسها من البشر، ويحملان الشعلة المقدسة ذاتها التي تحرق نفس من يرفعها عالياً في وجه الظلام.
بعد رحيله لم يعد (ع) واثقاً أنه بمنأى عن الموت الذي قد يختطفه بطريقة تافهة.
مات كثيرون قبل رحيل عبدالله وأكثر بعده، لكن موت هذا الصديق الغريب كان علامة فارقة في حياته.

تعرف إلى الموت وجهاً لوجه، وأدرك أن الموت لا يحب المزاح، ولا يعرف كيف يختار للرجال موتات لائقة، ولا يمنح أحداً فترة سماح. قبل حادثة موت عبدالله بأيام، كانا معاً. تناولا طعامعهما، وشرعا في مقيل طويل انتهى على مضض قبيل منتصف الليل. كان يتحدث كأنه لن يموت أبداً. كان يحلم بمشاريع كثيرة، ويقترح خططاً بالغة الغرابة لإعادة ترتيب العالم. كان واثقاً أنه سيقوم بكل ما يريده، كأن الزمن القادم تحت إبطه.أطلق عشرات النكت اللاذعة. منح الجهات والأشخاص الذين لا يحبهم أوصافاً وتعليقات لا يقولها إلا هو، وتحدث عن ماضيه وخطَّط لمستقبله. كان حياً أكثر من الحياة نفسها، ساخراً ضاحكاً مهرجاً ووقوراً أيضا. وكان أيضاً حزيناً وهو يتحدث عن الأصدقاء، وغدر الرفاق. كان متألماً من الذين عرفوه جيداً لكنهم تواطؤوا على ذبحه. أحبهم وأبطنوا له الضغينة. أساؤوا إليه دون مبرر وبلا ذريعة.هؤلاء الذين تحدث عنهم عبدالله كانوا أكثر الناس تباكياً عليه في مأتمه!

قرأ فاتحة الكتاب على القبر، وفكَّر وهو يبتسم، ماذا لو ناداه الآن عبدالله من أعماق القبر، وسأله عن العالم الذي كان شغوفاً بسماع أخباره وهو على قيد الحياة. ماذا لو طلب إليه أن يرفع التراب عن جسده لأنه ملَّ البقاء تحته، وآن له أن يعود، لأن الحرائق لم تعد بنفس النكهة التي كان عبدالله يشعلها. تخيل أن القبر سينفتح ويخرج منه هذا الرجل الفوضوي المتمرد على قانون المقابر ويحتضنه قائلاً: ها قد عدت، أين نخزن اليوم؟شعر بحنين لصديقه المتحلل تحت التراب. وطفرت عيناه بالدمع، وهو يعلم أن الميت لا يرجع أبدا، والأصدقاء الطيبون فقط هم الذين يرحلون باكراً، أما الأصدقاء الذين عرفهم، فهم مخلدون كالشياطين، لأنهم يتطوعون للإساءة وإلحاق الأذى بمن يؤمن بهم ولا يعرف ظاهرهم من باطنهم.

تحرك (ع) باتجاه الرجل الذي يهيئ قبراً جديداً وعنده فضول خفي لمعرفة هوية الميت الذي سيأوي إليه.- السلام عليكم.- وعليكم السلام. - من مات؟- كلنا نموت.- أقصد.. لمن هذا القبر؟- لمن سيدفن فيه؛ أنا، أو أنت، أو شخص ما يضحك الآن وهو لا يعلم أين سيقضي ليلته.اكتفى (ع) بهذا الرد البليغ، وآثر أن يمضي بعيداً عن المقبرة، فقد بدأ هاجس الموت يجثم على صدره أكثر فأكثر.

شعر (ع) بإرهاق شديد بعد خروجه من المقبرة. فاجأه شعور بالخوف من الموت. كان يظن بنفسه الشجاعة تجاه أمر محتوم مثل هذا. ما كان يظن أن التفكير الجدي بالموت مخيف ومرعب كما يشعر الآن. حاول الإنسان أن يبدد خوفه من الموت فقام الفلاسفة بتعقيد الأمر أكثر. تعددت المقولات الفلسفية فيه، ومع ذلك كانت غامضة ولا يفهمها القطيع البشري كما يفهم الموت الذي يراه يومياً. يؤمن بحتميته لكنه يشك في حصوله. جاءت الأديان السماوية لتفتح للإنسان باباً للأمل وفرصة أخرى لحياة أروع إذا هو التزم تعاليمها، وتوعدته بعذاب أليم إن هو شذ عنها. المؤمنون حقاً لا يعانون من الفزع والهلع الذي ينشره ذكر الموت في نفوس الناس. الأمر بالنسبة لهم لا يثير الخوف، ولكنه لقاء طال انتظاره مع الوعد الحق. يستقبلونه باستبشار وفرح. هذا الاعتقاد النادر هو الذي صنع الاستشهاديين، الذين كانوا فيما مضى مآثر تاريخية يستعين بحكاياتهم الوعاظ لإقناع الناس بوجوب التضحية بالنفس في سبيل الله، صاروا الآن ظاهرة إرهابية تهدد الأمن والسلم العالمي.

الشهداء هم بشر من نوع خاص، طالما حيروا (ع) وأثاروا دهشته وإعجابه. لكنه لا يستطيع أن يكون مثلهم. إيمانه لا يسعفه ليكون شهيداً، ولا حتى نصف شهيد.يمكنه أن يزهد في كل شيئ، لكنه لا يتحمل فكرة أن تستيقظ الكرة الأرضية ذات يوم وهو غائب عنها ولم يستيقظ معها. تؤرقه فكرة النسيان التي تطال الموتى. هو يريد أن أن يعيش أكثر من حياة، لأن ما يريده لا يمكن أن تكفيه حياة واحدة.الشهداء وحدهم يمكنهم أن يمدوا ظلالهم على حيوات الآخرين من بعدهم، وينتزعوا لهم حيزاً صغيراً في ذاكرة كل مؤمن بهم حتى بعد قرون طويلة. لكن هذه الفكرة كفيلة بإفساد الثواب الذي أعده الله للشهيد إذا ما سا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.